موليير مبتكر الكوميديا الأخلاقية لا يزال لغزا

أعظم مؤلف كوميدي غربي استلهم في مسرحه أعمال الرومانيين بلوتوس وتيريتس والكوميديا الإيطالية والإسبانية، لكنه لم يترك مذكرات ولا مراسلات ولا حتى ملاحظات تلقي الضوء على شخصيته.
فن موليير يهدف إلى تصحيح الرذائل من خلال الضحك
'عدو البشر' أكثر مسرحيات موليير قسوة ولكنها أيضاً الأكثر إنسانية
موليير يثير شغفا متجددا في بلد شكسبير
عرض أعمال 'الأب الروحي للمسرح' في العالم العربي

باريس - لم يترك الكاتب المسرحي الفرنسي موليير الذي يصادف منتصف كانون الثاني/يناير من السنة الحالية ذكرى مرور أربعة قرون على مولده، أي أثر شخصي عنه، إذ لا مذكرات ولا مراسلات ولا حتى ملاحظات تلقي الضوء على شخصية أعظم مؤلف كوميدي غربي.
فابنته إسبري-مادلين التي نجت وحدها من أولاده الأربعة، أضاعت مخطوطاته، ولا تزال أول سيرة ذاتية عنه نُشرت عام 1705 بعنوان "حياة السيد موليير" مصدراً للأساطير حول جان باتيست بوكلان المولود في طبقة البرجوازية الفرنسية والذي أصبح الكاتب المسرحي المفضل لدى الملك الفرنسي لويس الرابع عشر.
وبالإضافة إلى الشهادات العائدة إلى الحقبة التي عاش فيها، تشكّل أعماله أهم ما بقي منه، وهي نحو ثلاثين مؤلفاً كوميديا في الشعر والنثر، نسبها بعض المشككين إلى كورني أو حتى إلى لويس الرابع عشر.

الكاتب ابتكر شكلاً جديداً من الكوميديا، يقوم على محاكاة ساخرة للعادات الدنيوية

ويعتقد كثر أن ثمة أوجه تشابه بين شخصيته وشخصيات أبطال مسرحياته ألسيست وأرغان وأرنولف. حتى أن الممثل الفرنسي الشهير ميشال بوكيه لاحظ أنه في مسرحياته "يصفي حساباته مع نفسه".
وفي العام 2017، كتب الممثل الذي جسّد أكثر من 400 مرة شخصيات من مسرحيات موليير أنه "لم يتناول ما تناوله من رذائل لكونه كان شاهداً عليها فحسب، بل لأنه عاشها بنفسه".
غير أن لا شيء مؤكداً في هذا الشأن.
- مثقف -
يبدأ لغز موليير منذ ولادته، إذ لم يُعثَر على شهادة معموديته إلا عام 1820، وتحمل تاريخ 15 كانون الثاني/يناير 1622 واسم كنيسة سانت-اوستاش في باريس، ولذلك يُعتقد أنه ولِد قبل يوم أو اثنين.
ومن المعروف بحسب الوقائع الموثقة أن مستقبلاً جيداً كان في انتظاره، إذ كان يُفترض، بحكم كونه الابن البكر في عائلته، أن يرث عن والده مهمة منجِّد الملك وخادمه الشخصي.

هناك جوانب كثيرة للغاية في موليير، إنه غني ومتنوع للغاية، يبرع بنصوص الكوميديا والتراجيديا على السواء، وبالنصوص الهزلية بالمقدار عينه للمسرحيات الفلسفية.

وبعدما توفيت أمه وهو في سنّ العاشرة، نشأ بين أجواء ما كان وقتها قصر اللوفر، والأزقة المزدحمة ولكن الخطيرة في حي Les Halles الشعبي، حيث كان يقيم، فاكتسب حسّ المراقبة القوي.
وفي مدرسة كليرمون (حالياً لوي لو غران)، علّمه الآباء اليسوعيون اليونانية واللاتينية والمسرح. واكتسب موليير ثقافة واسعة، مكنته لاحقاً من أن يستلهم في مسرحه أعمال الرومانيين بلوتوس وتيريتس والكوميديا الإيطالية والإسبانية.
ولا يوجد دليل على نيله شهادة الحقوق من جامعة أورليان، وربما يكون اشتراها.
في سن الحادية والعشرين، تخلى الشاب الجريء عن إرثه ليختار مهنة تنطوي على مخاطرة وضُربت لاحقاً بالحرمان الكنسي هي التمثيل المسرحي، ويكتنف الغموض سبب خياره هذا. وعند وفاة شقيقه الأصغر عام 1660، استعاد مهنة والده، مما وفّر له وصولاً مباشراَ إلى لويس الرابع عشر.
- ديون...ثم إيرادات -
في 30 حزيران/يونيو 1643، وثق جان باتيست بوكلان لدى الكاتب العدل تأسيس فرقة "المسرح الباهر"، مع عشرة ممثلين آخرين بينهم مادلين بيجار التي اتخذها أولاً عشيقة له، ثم بقيت شريكة مخلصة له لمدة ثلاثين عاماً.
وفي 23 كانون الثاني/يناير 1662، تزوج من أرماندي، الابنة غير الشرعية لمادلين (أختها رسمياً).
وكانت العادة أن يكون لكل ممثل اسم مستعار، فاختار جان باتيست بوكلان اسم "موليير" الذي يعني مقلع حجارة، ولم يُعرف سبب اختياره هذا.

مسرحيات موليير كانت مهمة للغاية في العالم. حتى أنه شكّل الأساس لبعض المسارح الوطنية التي كيّفت أعماله مع اللغة والثقافة المحلية

وما لبثت عقد فرقة "المسرح الباهر" أن انفرط، بعد تراكم الديون عليها وإيداع موليير السجن في شاتليه. وبعدما تولى والده تسوية ديونه. هرب الابن من باريس في سن الثالثة والعشرين.
وجاب موليير فرنسا مع فرقته مدى 13 عاماً، وراح يقدم العروض تارة أمام المتسولين، وتارةً أخرى للبرجوازيين والنبلاء، فحقق إيرادات كبيرة، وبات يحظى بدعم من شخصيات نافذة.
وبعدما اكتسب خبرة كبيرة كقائد فرقة بارع، بدأ يحلم بالعودة إلى العاصمة، وسبقته إليها سمعته الطيبة. وفي 24 تشرين الأول/أكتوبر 1658 قدم مسرحية للويس الرابع عشر. ومع أنه لم يكن كتب سوى مسرحيتين كوميديتين، أعجب عمله الملك الشاب.
- نجم البلاط الملكي -
وانتقل موليير من التمثيل إلى تأليف المسرحيات، وكانت "المتحذلقات السخيفات" باكورة نتاجه في نهاية عام 1659. وكتب جورج فوريستييه في "موليير" أن الكاتب ابتكر "شكلاً جديداً من الكوميديا، يقوم على محاكاة ساخرة للعادات الدنيوية". ونفض بوكلان الغبار عن كوميديا الآداب.
وبعد "مدرسة الزوجات" (1662) التي ضخّم فيها بالنكتة شخصية فتاة صغيرة تحرر نفسها من التربية العبثية، لم يعد مسرحه مجرّد ترفيه، بل أثار استنفار الرجعيين.
واستلزم الأمر خمس سنوات وثلاث نسخ من "طرطوف" للتخلص من الرقابة التي كانت تقف وراءها جمعية سرية كاثوليكية ذات نفوذ استهدفتها بشكل غير مباشر المسرحية عن المحب الكاذب. وفي 5 شباط/فبراير 1669 انتصر العنيد. ابتكر موليير بذلك الكوميديا الأخلاقية، وبات فنه يهدف إلى تصحيح الرذائل من خلال الضحك.
أصبح موليير نجم البلاط الملكي لكنها كان مستهدفاً من أتباع مذهب الينسينية، وكتب "دون جوان" عام 1665 ثم "عدو البشر" (1666) وهي أكثر مسرحياته قسوة ولكنها أيضاً الأكثر إنسانية.
وبقي موليير يكتب المسرحيات الكوميدية المهمة، من "البخيل" عام 1668 إلى "النسوة المتعالمات" (1672) و"الطبيب رغم أنفه" (1666) وسواها...
ويُروى أنه توفي على خشبة المسرح في 17 شباط/فبراير 1673. لكنه فارق الحياة في الواقع في منزله الرقم 40 في شارع ريشليو، حيث لقي حتفه فجأة بعد مدة وجيزة من تأديته دور أرغان المصاب بوسواس المرض. وفيما هو يؤدي دور "المريض الوهمي"، استسلم المسرحي لنزف...حقيقي جداً.
بعد جفاء طويل مع الجمهور في بلد شكسبير، عادت المسرحيات المستندة إلى نصوص موليير أخيراً لتستقطب متفرجين كثيرين من الإنكليز المتعطشين لكوميديا عابرة للزمن أبدع بكتابتها المؤلف المسرحي الفرنسي الذي يُحتفل السبت بالذكرى المئوية الرابعة لولادته.
في قاعة المسرح الوطني في لندن حيث اعتاد الجمهور على المشاهد الجدّية العميقة، علت ضحكات الحاضرين خلال مشهد يغطي فيه الممثل الأميركي دنيس أوهير بدور شخصية Tartuffe الشهيرة لموليير، خيانته من خلال محاكاة ساخرة لمشهد فروسية بريء أمام البطلة الأخرى أوليفيا وليامز.
وقال الممثل الأميركي "الكوميديا يمكنها أن تعبر القرون إذا عرفنا ماذا نفعل".
وأشار إلى أن "جزءاً من الفكاهة كان قائماً على اللغة، فيما استند جزء آخر على البلاهة المطلقة... لكن ثمة أيضاً لحظات عظيمة من الشفقة والعاطفة تغني العمل كثيراً".
وأثبت نجاح هذا الإنتاج المسرحي المستند إلى قصة "Tartuffe" عام 2019 بأن موليير قادر على استقطاب جمهور واسع في بلد شكسبير... لكنّ الحال لم تكن كذلك على الدوام.
يقول نويل بيكوك من جامعة غلاسكو، وهو متخصص في أعمال موليير في البلدان الناطقة بالإنكليزية "غالبا ما كان عدد الحاضرين على خشبة المسرح يفوق أولئك الموجودين في الصالة".
وفي الثمانينيات، حذر ناقد في صحيفة "صنداي تايمز" من الفجوة بين فرنسا والمملكة المتحدة، متسائلا "كيف يمكننا عقد اتفاقات تجارة حرة مع بلد لا يمكنه تصدير أفضل كوميديا لديه؟"
لكنّ الوضع "انعكس تماماً" مذاك، بحسب بيكوك، إذ شهدت خشبات المسرح الإنكليزية عرض العشرات من أعمال موليير في السنوات الأخيرة.
- إسقاطات معاصرة -
فقد قُدّم من Tartuffe ("طرطوف") وحدها ثلاث نسخ في لندن بين عامي 2016 و2019. كما شاركت كيرا نايتلي في مسرحية "LeMisanthrope" ("عدو البشر") عام 2009، فيما ظهر ديفيد تينانت (المعروف بدوره في مسلسل "Doctor Who") في مسرحية "Don Juan" عام 2017.
ويعزو الأستاذ الجامعي هذا الاهتمام المتجدد إلى ترجمات جديدة يركز أصحابها على نقل روحية الكتابة أكثر من الحرص على حرفية نصوص موليير.
يقول دنيس أوهير "المسرحيات العظيمة تستمر لسبب ما"، مضيفا "طرطوف يمثل شخصية الوغد الفاسد المحتال. لكنه أيضاً الشخص الذي يفصح عن الأشياء، بحسب تقاليد الكوميديا الفرنسية. هو يتمرد على قواعد المجتمع واصطلاحاته".
حتى أن فرقة "رويال شكسبير كومباني" ذهبت إلى حد إسقاط نص موليير على قصة عائلة من أصل باكستاني في برمنغهام، حيث أظهر موضوع النفاق الديني قدرة كبيرة على محاكاة الواقع.
كما طرحت فرقة Exchange Theatre الفرنسية البريطانية في لندن، أخيراً عملاُ وثائقياُ عن اقتباسها المسرحي لـ"عدو البشر" وإسقاطها المعاصر داخل غرفة تحرير وسيلة إعلامية تواجه قضايا الكذب والنفاق.
ويستحضر مخرج المسرحية الفرنسي الموريتاني دافيد فورلون، مقطع المونولوغ عن النفاق في "دون جوان" ("شخصية الرجل الصالح هي أفضل الشخصيات التي يمكن للمرء أن يلعبها")، كمثال للنص الذي يبقى صالحا إلى الأبد.
- "جوانب كثيرة" -
يقول فورلون "لقد تساءلت في الماضي عما إذا كانت تنشئتي الفرنسية وحدها تدفعني للإعجاب بموليير"، مضيفا "لكني لا أعتقد ذلك. هناك جوانب كثيرة للغاية في موليير، إنه غني ومتنوع للغاية، يبرع بنصوص الكوميديا والتراجيديا على السواء، وبالنصوص الهزلية بالمقدار عينه للمسرحيات الفلسفية. هو يخاطب الجميع".
وقد حققت اقتباسات مسرحية لأعمال موليير نجاحا أيضا في غير مكان حول العالم، بما يشمل ألمانيا وروسيا واليابان.
كما يشير كتاب عن موليير في العالم العربي إلى أن أعمالا للمسرحي الفرنسي الشهير تُعرض في بلدان عربية منذ عام 1847 على الأقل، وأنه أصبح "الأب الروحي للمسرح" في بلدان كثيرة.
وتؤكد أمينة المحفوظات في دار "كوميدي فرانسيز" المسرحية أغات سانجوان أن "مسرحيات موليير كانت مهمة للغاية في العالم. حتى أنه شكّل الأساس لبعض المسارح الوطنية التي كيّفت أعماله مع اللغة والثقافة المحلية".
في إنكلترا، واجه موليير منافسة شديدة مع شكسبير، رغم أن أعمال الكاتب المسرحي الفرنسي عبرت إلى الجانب الآخر من بحر المانش منذ ستينيات القرن السابع عشر.
لكن كان لموليير صدى أكبر في اسكتلندا، وفق بيكوك، إذ "كانت ميزته الرئيسية هي أنه لم يكن إنكليزيا".