مَن ينقذ البصرة؟

المدينة الثرية والبائسة الوحيدة في العالم التي تستغل فيها ثروتها لإذلالها.

ما لا يجرؤ أحد من العراقيين على قوله إن البصرة، عاصمة الجنوب العراقي وخزان النفط مصدر الثروة هي مدينة محتلة إيرانيا.

كل الوقائع التي شهدتها المدينة عبر السنوات الخمسة عشرة الماضية تؤكد أن إيران تنظر إليها باعتبارها مفتاح العراق. وهي كذلك حقا.

من صولة الفرسان التي قادها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي عام 2008 حتى ظاهرة التسمم التي وقع ضحيتها أكثر من ستة الاف شخص، عبرت وزيرة الصحة العراقية عن اطمئنانها على أوضاعهم من خلال قولها "إن الوضع لا يزال تحت السيطرة" جرت محاولات عديدة لتأديب المدينة بل وسحقها واخفاء حقيقة ما جرى ويجري لها من مآس وكوارث نتيجة للهيمنة الإيرانية على مواقع القرار فيها.

البصرة التي بادر شبابها إلى التمرد ومن ثم اعلان العصيان هي المدينة التي شهدت ولا تزال تشهد أكبر عمليات تهريب للنفط في العالم. وهي عمليات كانت ولا تزال تتم بمعرفة الحكومة المحلية التي تحظى بحماية إيرانية.

بالنسبة لسكان البصرة فإن النفط الذي يُستخرج من أراضيهم، سواء تم تهريبه من قبل العصابات أو تم تصديره بطريقة قانونية فإن شيئا من عائداته لم يدخل في جيوبهم ولم يحسن أحوالهم.

لذلك لم تكن الاحتجاجات التي شهدتها المدينة موجهة ضد عصابات التهريب بل ضد القوى التي فرضت سلطتها ووفرت الحماية لتلك العصابات وهي قوى عملت على تنفيذ أجندة انتقامية إيرانية كان هدفها تدمير المدينة تدريجيا وابادة سكانها ببطء بسبب صمودها أثناء حرب الثمان سنوات التي جرت وقائعها في عقد الثمانينات من القرن الماضي.

كان الانتقام مبيتا وكان نهر الكارون الذي ينبع من الأراضي الإيرانية ويزود المدينة بالماء الصافي جزءا من خطة ذلك الانتقام.

غير أن إيران المسكونة بالماضي شعرت أن المدينة التي تحتلها من خلال وكلائها والميليشيات التابعة لها قد باتت على حافة الإفلات من سيطرتها بعد حرق صور خامنئي من قبل المحتجين.

صحيح أن ما فعلته إيران لم يكن وليد اللحظة، غير أن الصحيح أيضا أنها عجلت من وتيرة الرد الذي كانت الحكومة العراقية بطيئة فيه بعد أن صارت الحكومة المحلية على وشك الهروب من المدينة.

كانت حادثة التسمم الجماعي بمثابة كارثة مدبرة، كان الهدف منها ضرب الاحتجاجات في مقتل. بعدها جاء الحل الوضيع الذي تقدمت به الحكومة المحلية التي حملت شركات النفط مسؤولية إقامة مضخات لتحلية المياه وهو ما لم تعلق عليه حكومة بغداد.

كان من المؤلم أن تعلن مدينة الفراهيدي والجاحظ والحسن البصري والسياب مدينة منكوبة حسب مفوضية الامم المتحدة لحقوق الإنسان. وهو ما ستسعى الحكومة العراقية بكل قوتها إلى عدم اقراره أو لاعتراف بواقعيته.

ذلك لأنها برغم كل ما حدث لا ترغب في أن تكون البصرة مقدمة للاعتراف بعار تخليها عن واجباتها الذي يخيم على مدن عراقية كثيرة بالفقر والحرمان والعزل والتهميش والجهل والفاقة والتيه.

وكما أتوقع فإن نوري المالكي قد خطط لصولة فرسان جديدة من أجل انهاء الاحتجاجات في المدينة التي يذكر عطشها بعطش الحسين الذي سبق أن رفع المالكي نفسه راياته في حربه الطائفية مناديا بثارات الحسين.

تلك كانت مناسبة مضافة لكي تلقي إيران بثقلها من أجل أن يسيطر المالكي بعد فشله في الانتخابات الأخيرة على مجلس النواب من خلال تشكيل الكتلة الأكبر التي ستحوز على منصب رئيس الوزراء.

سيكون مناسبا لإيران أن تفرض ميليشيا الحشد الشعبي سيطرتها على العراق من خلال نظام سياسي جديد، كان المالكي قد خطط لقيامه. من خلال ذلك النظام ستكون إيران مطمئنة إلى مستقبل نفوذها في البصرة.                 

عمليا البصرة بالنسبة لإيران أهم من بغداد.

وهو ما كانت القوات البريطانية المحتلة تعرفه حين سلمتها المدينة.

أدركت بريطانيا التي تعرف العراق أكثر من الولايات المتحدة أن دمارا حقيقيا لا يمكن أن يلحق بالعراق إلا من خلال تسليم البصرة للقوى التي ستعمل على تنفيذ الأجندة الانتقامية الإيرانية. وهي قوى كانت إيران قد جهزتها بكل ما تحتاجه من أجل تدمير سبل العيش في مدينة تعوم على بحيرة من النفط.

ليست البصرة ضحية سوء أو غياب الخدمات فذلك لم يكن إلا حلقة في مسلسل تآمري، اشتركت في التخطيط له قوى دولية وإقليمية عديدة ونفذته أحزاب عميلة وقع عليها الاختيار لأداء تلك المهمة القذرة.

لا تُعاقب البصرة المحرومة من عائدات نفطها لأن شبابها خرجوا إلى الشوارع محتجين على سوء الخدمات والبطالة بل لأن المطلوب أن يدفن العراقيون رؤوسهم في الرمال في مواجهة ما يُرتكب في حقهم من جرائم، تقع مسؤوليتها على الفاسدين الذين تعهدت إيران بحمايتهم في ظل غياب تام للقانون والمساءلة في العراق.

لذلك فإن انقاذ البصرة لن يتم عن طريق تزويدها بمولدات كهربائية أو محطات لتحلية المياه إضافة إلى تقليل نسبة البطالة المتفشية بين شبابها. فما لم يتم ذلك في سياق انقلاب جذري يكون هدفه إعادة ثروات العراق إلى العراقيين فإن كل الصفقات المتخيلة والافتراضية التي يمكن أن يجريها السياسيون العراقيون بالإنابة عن إيران لا تعدو سوى محاولات لتكريس واقع، لم يخسر العراقيون فيه ثرواتهم حسب بل أن تلك الثروات استعملت لإذلالهم واستعبادهم والتحكم بمصيرهم وغلق أبواب الأمل أمام أجيالهم الصاعدة.