ناج من المقصلة أم ناج من الأسدية؟

كتاب محمد برو يجعل القارئ يفكر في همجيات التوحش الدموي فيمر امامه شريط همجية المغول والنازية والفاشية والاستعمار، ليدرك بعدها أن الأسدية هي أعلى مراحل التوحش التي عرفتها البشرية في التاريخ الحديث والمعاصر كجرائم ضد الإنسانية.

يدرك محمد برو المقدار الهائل من الصبر والتحمل، والعذاب المؤلم الرهيب الذي على القارئ تحمله، خلال تفاعله الجدلي مع كتابه "ناج من المقصلة"، بين حفلة التلقي الأقرب الى معايشة تجربة جحيم تدمر بكل أهوالها الوحشية، وسؤال ولادة وتكون الطاغية وصناعة الجلاد، وولادة السجين، من جديد، من بقايا إنسان عض بالنواجد على معنى الحياة كمشروع وجودي يستحق الصمود والبقاء، لهذا يستفزنا الكاتب منذ البداية، كما لو أنه يريد منا، بمحبة أن نتماسك ونحافظ على صحونا ونفسنا الإنساني في تتبع تجربة الألم والعذاب خلال عقدين من الرعب المروع الفتاك بقيمة الانسان في أعماقنا، في المجتمع، وفي العلاقات الاجتماعية. عقدين اختزلتهما الكتابة في شهادة حارقة مؤلمة: "ستعيا يا صديقي وأنت تتبعني.. سأكثف عشرين عاما من العذاب والألم في هذه الصفحات".
 والعاري أيضا من قيمة الضحية كنفس بشرية محرم قتلها باسم الشرائع السماوية والقوانين الوضعية. سيرورة لا تهدأ صباحا ومساء وليلا من التعذيب المروع بمختلف الأدوات الأشد خطورة كالكابلات والسياط والأسلاك الحديدية، الى حد الإنهاك والتخريب للجسد المهدد، من طرف الجلاد في أي لحظة، بالموت المسكون بالتسلية والمتعة القذرة المقرفة في التلذذ بآلام وعذابات ودماء، وزهق أرواح سجناء عزل أبرياء، طالتهم شبهة الانتماء لتيارات إسلامية في أغلبهم، الى جانب مجموعات يسارية، أو بسبب تقارير كيدية لتصفية حسابات شخصية، بعيدة عن كوابيس ورهاب تشكل سلطة الطاغية، إنها مشاهد مروعة من الإعدامات في حق شباب في مقتبل العمر ذنبهم الوحيد أنهم متعلمون ومثقفون، وأصحاب كفاءات، ولهم مؤهلات معرفية وعلمية وخبرات مهنية كأطباء ومهندسين وأساتذة وطلاب جامعيين، وأحداث لم يتجاوزا الثامنة عشر من عمرهم.  الى جانب أبطال عسكريين تصدوا ببسالة وشجاعة قل مثيلها للعدو الصهيوني في حرب 67 وغيرها. وقاوموا بشراسة المحتل، لكن طغيان الأسدية وسعيها الحثيث نحو قتل مناعة الكيان الوطني وحصانة المجتمع وسيادة البلد تكريسا لعتبات الألوهية في التحكم في الموت والحياة تحقيقا للخلود والأبدية، زج بكل هؤلاء في سجون الرعب وانتظار جودو الموت الذي لا يأتي إلا برغبة الطاغية الذي باسمه يمنح الموت والحياة ، كإله سما وعلا ولم يعد يقبل بالشراكة في الوطن والمجتمع والسلطة والثروة، معتبرا ذلك شركا يؤدي بصاحبه الى مهاجع الرعب والموت في السجون، وعلى رأسها جهنم تدمر التي لا تكف عن القول:  هل من مزيد؟
 وبالفعل ظلت هذه المحرقة تستقبل من حين لآخر مجموعات من خيرة الوطن تلبية لنداء شر شهوة عنف الدم الذي انفجر من عمق تركيبة بنى السلطة الأسدية. وكلما سارت القراءة بين ساحات المهاجع الرهيبة، عبر فصول الكتاب الوعرة والمفعمة بالهمجية والتوحش، إلا وتملك القارئ سخط عارم من هذه البشاعة والمجازر المروعة وسط الساحات المعزولة عن نبض العالم الحي، وداخل أسوار الزنازين العالية ظلما وحقدا وبشاعة وكراهية في سجن تدمر الرهيب. 
وتحيط الأسئلة بالقارئ من كل جانب، معلنة حضورها القوي الذي لا يمكن تخطيه بتجاهل حيادي تجاه ما يحدث، الآن هنا، من مآسي إنسانية، أو بغمضة جفن مرعوبة من وحشية الجلاد. الأسئلة تلازمه كما لوهي نفسه، حيث تفتح في وجهه رعب السؤال الجهنمي على أن ما أقدمت عليه الأسدية اليوم من وحشية رهيبة ليس وليد اللحظة أو مجرد رد فعل على ثورة الشعب، بل هي- الأسدية- تركيب سياسي اجتماعي اقتصادي يتغذى على الموت والرعب في أقصى حالاته الجنونية عنفا وتوحشا.
 وأنت تقرأ كتاب محمد برو ناج من المقصلة تقفز الى ذهنك تلقائيا، همجيات التوحش الدموي التي عرفها التاريخ البشري فتحضر سجون حكم عائلات الاستبداد العربي وطغيانه، منذ الامويين والعباسيين. كما يمر أيضا شريط همجية المغول التي أتت على الأخضر واليابس والانسان. كما تحضر النازية والفاشية والصهيونية والاستعمار، كأنظمة في غاية التغول والتوحش الدموي. وهنا يدرك القارئ ويرى بوضوح أن الأسدية هي ليست حالة عائلية في حدودها الضيقة، ولا مفهوما سياسيا لنظام في الحكم، بل هي أعلى مراحل كل ذلك التوحش والهمجية والبشاعة والحقارة القذرة التي عرفتها البشرية في التاريخ الحديث والمعاصر كجرائم ضد الإنسانية، التي قد تضاهي في بشاعتها ما فعله المجرم بول بوت في حق شعبه. وأن كل ما كتب عن الاستبداد والطاغية شرقا وغربا لم يعد يسع ويتسع لكل الجرائم المروعة التي أنجزتها الأسدية عبر عتبات الألوهية التي لم تكن معنية بوهم اغراءات الجنة والعفو والمغفرة والثواب، بقدر ما كانت حريصة على تأسيس خلودها وقدرتها الكلية المطلقة على منح الحياة والموت، من خلال عتبات الرعب والخوف والتعذيب والألم والعذاب الرهيب، والموت المستحيل الذي يأتي ولا يأتي  معاندا ومشاكسا حلم السجناء بالإعدام شنقا للخلاص  من حفلات التعذيب المؤلم والمروع الذي لا نهاية له نهارا وليلا.

كيف أستطيع أن أبقى بعد ذلك صامتا كشيطان أخرس أو أن أبقى عاقلا كما لو أني أقرأ كتابا أصفر أو أستعيد حلما قديما خابيا

هكذا يورط كتاب " ناج من المقصلة" قارئه في محرقة الألم والعذاب، ويجعله في وضعية الما بعد حيث عاش صيرورته ولم يعد هو نفسه، كما قال عادل الخالدي بعد أن قرأ أوراق طالع العريفي حول سجون شرق المتوسط. "وقد زادت دهشتي حين قرأت الورقة الأولى.  وها قد عرفت ولا يمكنني أن أعيش اليوم كما لو أنني لم أعرف". 
ومع فصول الكتاب تكبر الأسئلة وتنتصب في وجه القارئ، وهي تمتد عميقا في سيرورة القراءة، وعذابات ألمها الرهيب أمام  هذا الواقع الأسدي الهمجي الذي فاض بشاعة وحقارة ودموية، وغطى على الخيال في دفاعه الإبداعي الخلاق عن الأمل والحياة في تخط مؤلم لرعب الموت كما عاشه سجناء جحيم تدمر، من خلال أخلاقيات التعامل التضامني، والتعاون، والتآزر الوجداني والنفسي، ومختلف أشكال الدعم المعنوي والجسدي في ساحات التعذيب، ووقت إدخال الطعام، والفداء بتحمل حصة تعذيب نيابة عن الذين قد لا تتحمل أجسادهم همجية تعذيب بلا حدود. تستفزك الأسئلة وهي تهدد بإطلاق النار على أي كلمة تجازف بالخروج المجاني المترف الغارق في اللغة الانشائية، أو المعتمد على التعريفات المبسطة والمرنة في تحديد طبيعة أنظمة الحكم العربية في التاريخ الحديث والمعاصر. وكتاب محمد برو يدعمك في محاولة اكتشاف السؤال واللغة المناسبة للتعبير، خاصة وهو يردد في أكثر من صفحة الطريقة الاحتلالية التي تعامل ويتعامل بها النظام الأسدي مع المدن والمجتمع، مع الافراد والجماعات والحياة الايكولوجية. هكذا تضعنا صفحات "ناج من المقصلة" أمام الآلة العسكرية الحربية التي تحتل مختلف شوارع مدينة حلب، معلنة سطوتها وتسلطها وجنونها الإرهابي في وجه الناس العزل. وبذلك نتعرف من خلال شهادة محمد برو على جذور عنف الجماعة الحاكمة كقوة احتلال داخلية. وربما هذا ما جعل الكاتب يكرر عشرات المرات كلمة احتلال، ليثير انتباه القارئ الى أن الدماء التي تسيل اليوم هي بسبب الخنجر الذي انغرز في قلب البلد والمجتمع منذ  فترة الثمانينات أو ما قبلها بكثير. أي قبل تعرض محمد برو لمحنة الألم، وعذابات الاعتقال في سجن تدمر.
 انطلاقا من هذه الوقائع يمكن أن نتحدث عن النظام العربي كقوة احتلال محلية حسمت علاقتها بالبعد الوطني والشعبي وكل ما يمت بصلة بالقيم الإنسانية في الحرية والكرامة والعدالة.
ما حدث ويحدث في البلدان العربية بعد ثورات الربيع تعبر عنه الأسدية في طبيعتها البنيوية كنظام سياسي قائم على الموت لاكتساب الخلود والاستمرار الى الأبد. فما الذي جعل شعوب المنطقة تقاوم مختلف الاحتلالات الأجنبية، وتوحش الاستعمار بمختلف ترسانته الحربية، لكنها بقيت عاجزة عن مواجهة الاستبداد والطاغية المحلي؟ ويتفرع السؤال ليضعك أمام الشعب الفلسطيني البطل في مقاومته للصهيونية والامبريالية، فكيف ينتهي به الحال الى سلطة تقتل أبناءها بالدم البارد على إيقاع حفلات التعذيب؟ عندها يسخر منك السؤال الذي لم يكن في حسبانك ولا يقوى الاخرون على اكتشافه بمرارة الحقيقة التي لا يمكن تغطيتها بالكلمات الرنانة والألفاظ الباذخة: إن ما يسمى بالاستبداد هو في حقيقته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية قوة احتلال محلية في أعلى مراحلها الهمجية والدموية؟ خربت الوطن ودمرت العمران و تحكمت بالموت في مصائر الناس ذلا ومهانة وتجويعا و سجنا وخوفا ورعبا وقتلا. وأبادت الكثير وهجرت الملايين، ووضعت سيادة البلد والمجتمع في سوق النخاسة الذي فتح الباب واسعا للاحتلالات الأجنبية.
• عتبات الأسدية: إله الخلود والأبد
عبر صفحات الكتاب يتناول محمد برو العتبات الرهيبة التي تؤسس من خلالها الأسدية وجودها السياسي، المفارق للتاريخ والمتلبس لقداسة الإله في علاقته بعبيده، حيث سياسة الأبد بمعنى الخلود لا تأخذ وضوحها الكامل، ومعناها الصريح إلا من خلال فناء الشعب الذي لا يقبل العيش في ظل العبودية والاسترقاق. لذلك يرفع الطاغية في وجه الشعب عتبة الخوف من الموت، حتى يزرع في جوف أعماقه الخنوع والخشوع والطاعة، لأن تهديد الموت يمكن أن يأتي بشكل بشع ومرعب من طرف الجهاز الأمني، أو زبانية جهنم تدمر، وفي ذلك يستمد الطاغية القدرة الكلية والقوة المطلقة. جاعلا من الموت شبحا يطارد حياة الناس العزل في المدينة. ويتلاعب بالسجناء نفسيا وعقليا من خلال آليات التعذيب المستمر، وهم يتمنون الموت المستحيل دون أن ينالوه. وفي هذا التلاعب يتقبل السجين قدر العبث الذي يرزح تحت وطأة عبئه المرعب والرهيب. هادفا النظام من وراء ذلك الى ترسيخ فكرة في نفسية السجين أنه مدين للطاغية بالحياة التي كان يرهبه أن يجهز عليها في أي لحظة. لهذا يصور محمد برو نفسية السجناء كلما تهددهم رعب الإبادة الذي يستمد منه الطاغية القوة المخيفة والمروعة في قدرته وحده على منح الموت لبعض السجناء دون الاخرين. وعندما يصف الكاتب حفلات التعذيب، وكيف تنصب المشانق، ويتم تصويرها لنقل وقائع القتل والموت شنقا الى الطاغية تجعلنا نعتقد أن الاستبداد عموما والطاغية بشكل خاص يهدئ من خلال هذه الممارسات الوحشية، من روع التنين الدموي الذي يسكن جوفه العميق، وهو يتغذى في ديمومته وخلود حكمه وضمان استمراره، من خلال الموت الذي يجعله في متناول يده متى شاء تجاه الناس، بعد أن سلخ عنهم قيمتهم الإنسانية فصاروا مجرد عبيد، وفي هذا ينعم بسلطته التي لا يقوى أحد على مجادلته في شرعيتها. 
يحاول محمد برو أن يقدم لنا الكثير من الوقائع التي تبين الحضور القوي والطاغي للموت في سجن تدمر. والحاكم قد يؤجل التنفيذ دون أن يعني ذلك تخليه عن قرار ممارسة قوته المطلقة في التحكم في حياة الناس. وفي هذا التأجيل للقتل والإعدام، أو في تحويل الحكم من الإعدام الى عشر سنوات كما حدث مع الكاتب لأنه لم يتجاوز الثامنة عشر حين اعتقاله ، حيث يعتبر من الأحداث، لا يعني أنه يعطي قيمة لاحترام القانون بقدر ما أنه يمارس امتيازه الإلهي في منح الحياة وتأجيل الموت حسب مزاجه في تقرير لحظة الموت، وتوقيع الوفاة.  والأخطر من هذا سطوة حالة الرعب والفزع التي يولدها الانتظار في صوره المروعة التي تدمر نفسية السجناء، وهم يعيشون تهديد الإبادة الذي تعرض له سجناء سابقون من طرف شقيق الرئيس. هذا التهديد في انعدام الأمان يمكن أن يفاجئهم في أي لحظة من حياتهم معلنا نهايتهم. وكم كانت مؤلمة ومزلزلة لحظة الفزع والخوف والرعب وعشرات الصور الرهيبة التي تلبست أرواحهم وعقولهم حين اقتحم الجلادون في منتصف الليل مهاجع السجناء وهم نيام.
وبالإضافة الى التعذيب النفسي والجسدي المستمر، والقهر اليومي، والتجويع بقليل من الطعام، وكل أشكال الرعب والإرهاب التي أشرنا إليها سابقا، تعرض السجناء لتهديدات مؤلمة ومؤذية تمثلت في أمراض معدية، لها عذاباتها الرهيبة على الجسد والروح. وهي تحصد عشرات الأرواح البريئة بعد معاناة مع المرض جد مؤلمة، مخلفة عذابات تنخر الذات باستمرار. بالإضافة الى أن أسر المختطفين والمعتقلين تعرضوا لمختلف أشكال الاستغلال والابتزاز المادي والمعنوي لرؤية أبنائهم لدقائق معدودة.
الكثير من الوقائع التي يسردها الكاتب، يجدها القارئ بشكل أو بآخر في رواية " القوقعة" التي كتبها مصطفى خليفة من زاوية نظر تجمع بين السيرة والشكل الروائي. بينما كتاب " ناج من المقصلة" يمكن اعتباره عن جدارة واستحقاق شهادة موجعة مؤلمة، صريحة ودقيقة ولا تقبل اللف والدوران. وإذا كان جحيم تدمر يستعصي على التعبير، فإن الكاتب أخذ المهمة الشاقة على محمل الجد بلغة جميلة لا تقبل التنازل عن المعنى الفردي والمجتمعي في التشبث بالحياة وأحلامها.

الصراع على المعنى: " يجب أن أتحول الى صخرة" عبد الرحمن منيف

لقد كانت خاسرة وفاشلة كل رهانات الجلاد واستراتيجية سيده في الدفع بالسجناء نحو اليأس والخراب والتآكل الداخلي والانتحار، من خلال حفلات التعذيب المستمرة، وهي تزرع الرعب والخوف والتمزق والتشظي الجسدي والمعنوي في نفوسهم. وتعمل كذلك على تشويه الهوية الفردية للإنسان السجين بسلخ إنسانيته، وتحطيم نرجسيته الذاتية، و تحويله الى مجرد شيء تافه نجس لا يستحق جدارة الحياة والعيش والبقاء. في سجن تدمر الجهنمي الموبوء استطاع السجناء التشبث بمعنى وجودهم في الحياة، رغم جنون تهديد الموت الذي يهددهم به الجلاد باستمرار. فخلقوا أجواء تعبر عن قوة الانسان في الانتصار، كلما منح معنى لحياته من خلال قناعات وأفكار وتصورات ومعتقدات تشكل قضيته التي تستحق الصمود والبقاء للدفاع عنها، مهما كانت المعاناة والآلام ورعب الموت الذي يطل برأسه في كل حركاتهم وسكناتهم وكوابيسهم وطعامهم، وفي الأمراض التي تلتهمهم، كالتهام الطاغية لكل البلد والناس. الايمان بعدالة وجودهم في الحياة وبعدالة قضيتهم وأفكارهم وكل ما يؤمنون به، ساعدهم نفسيا وفكريا على التفكير الإيجابي في قبول قدر الموت دون الاستسلام لأبعاده المسكونة بشر التسلط القهري المفروض عنوة في حق وجودهم وضد إرادتهم.
كتاب ناج من المقصلة يذكرني كثيرا بروعة وجمالية إبداع عبد الرحمن منيف في تناوله لقيم الصمود والسخرية في وجه الجلاد، وسطوة تعذيبه التي تجهل قيمة وقدرة الانسان على الولادة من جديد، في أصعب لحظات معاناته وعذاباته التي تهدد حياته، وتشوه فرديته وتاريخه الشخصي. هكذا تحضر مقاطع مهمة، من رواية "الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى" الى الذاكرة وتقتحم سيرورة القراءة في نوع من التكامل الخلاق بين "ناج من المقصلة" و" شرق المتوسط".
"الإنسان مخلوق جبار قوي وذكي لأنه قادر على تحمل المصاعب وتجاوزها.
وأتذكر تلك الليالي الطويلة كنت أحشد إرادتي وأنا أرى عيونهم المحتقنة تطل مثل فوهات النار وأسمع أصواتهم تهدر من كل مكان. يجب أن تعترف فأقول لنفسي الفرق بين الحياة والموت لحظة والفرق بين الصمود والسقوط لحظة"
"أنت الآن في مواجهة التحدي الكبير، إما أن تصمد أو أن تسقط. ويشمخ في داخلي نداء عات. صوت كأنه الطوفان. الإنسان لحظة قوة .وقفة عز، فاحذر".
تتقوى ثقة الإنسان بنفسه بقواه الظاهرة والكامنة التي يعرفها أو التي يدركها في لحظة المواجهة. يكتشفها بفرح عارم :" الله.. كم في الإنسان من قوى غير قابلة للكسر والإلغاء".
"كنت أمتلئ بشيء غامض لكن طاغ وكثيف وقد افترضت أن أية تضحية في سبيل هذا الشيء ليست مقبولة فقط بل وضرورية إلى أقصى الحد".
"من العار بعد هذا الإذلال والعذاب أن أقدم لهم لحمي عشاء شهيا يتمتعون به. ثم إني أدافع عن قضية عادلة وبسيطة. حقي وحق الآخرين في الحياة والحرية وهم يدافعون عن امتيازاتهم وعن السلاطين والشيوخ الفاسدين ولذلك يجب أن أكون أقوى منهم، لأن قضيتي هي المشروعة".
هذا هو الوجه الجميل، والجانب المشرق في ناج من المقصلة، الذي التقطه منيف بشكل إبداعي أيضا غاية في الفنية والتشخيص لعظمة الانسان في مواجهة التحطيم، والتغلب على واقع التسلط القهري للأنظمة الطغيانية. يتحقق هذا المعنى الرائع والملموس فنيا وجماليا ومبدئيا وأخلاقيا، إذا انتبه القارئ الى أهمية الصراع على امتلاك المعنى/السياسة، الذي يحاول الجلاد ومن ورائه سياسة الطاغية الاستحواذ عليه وتحطيم الوجود السياسي والاجتماعي والتاريخي للشعب ، وتحويله للناس الى مجرد عبيد يمتلك السيد/ الإله أرواحهم وليس فقط البلد وما فيه.
وبهذا الكتاب الرائع المعبر صراحة وألما عن جدلية القمع والنضال، أو بتعبير أدق عن جدلية القتل والصمود، يمكن القول على أن الوقائع في سيرورتها، وعلى مستوى أفقها المنير، هي أكبر وأعمق من النجاة من المقصلة، في صمودها الثائر الحالم بولادة معنى النجاة من الاسدية.