نحن في "6 شباط" يومي

رئيس مجلس النواب اللبناني يهدد بمنطق ميليشوي، فماذا أبقى من وحدة لبنان؟

سنة 1980 دعا معمر القذافي، مغيب الأمام موسى الصدر، المسيحيين في العالم العربي إلى اعتناق الإسلام ليكونوا عربا. قامت عليه القيامة وانبرى من يذكره بفضل المسيحيين على العروبة لغة وحضارة وقومية. أما أنا، وكنت مدير إذاعة "لبنان الحر" - إذاعة المقاومة اللبنانية آنذاك - فكتبت تعليقا سياسيا شكرت فيه العقيد القذافي على تحرير المسيحيين من العروبة وإخلاء سبيلهم منها، إذ فضح التماثل بين العروبة والإسلام، ونسي أن مسيحيي شبه الجزيرة عرب قبل الإسلام. وأذكر أن المؤرخ الكبير، فؤاد افرام البستاني، وهو خارج من اجتماع "الجبهة اللبنانية" في دير مار جرجس - عوكر، أجاب لما سئل يومها عن رأيه بتصريح القذافي: "أكتفي بما قاله سجعان قزي".

اليوم، سنة 2019، هدد الرئيس نبيه بري، حامل قضية الإمام الصدر، بـ "6 شباط" جديد. وأردف: "لا تجربونا". ثار عليه الرأي العام ووصف كلامه بالميلشيوي والمسيء إلى الجيش والشرعية ووحدة لبنان. أما أنا، فأرجو الرئيس بري أن يؤدي لنا هذه الخدمة وينفذ تهديده وينقذنا من هذه الوحدة المركزية المزيفة. لا تتراجع، دولة الرئيس، عن تصريحك ولا تعتذر عنه. ما أكثر الأطراف اللبنانيين الذين يودون أن يقوموا بـ"6 شباط" ما، لينفصلوا ويستقلوا ويعيشوا على ذوقهم. كل واحد ينتظر الآخر. بلغ الانزعاج من تصرفات الآخر حد الكفر، وبلغ الكفر حد الرغبة بالفراق. ونحن ضد الفراق،

وأصلا، نحن في عز "6 شباط". نعيش في حظيرته، يوميا، منذ سنوات. هو الواقع المطبق فيما الدستور رهن التوقيف الاحتياطي. إنه الانقلاب الدائم (6 شباط و6 شباط مكرر): من تعدد الولاءات، إلى ازدواجية السلاح، إلى العصيان في وسط بيروت، إلى إغلاق المجلس النيابي، إلى اجتياح بيروت الغربية في 7 أيار 2008، إلى تعطيل تأليف الحكومات أشهرا، إلى منع انتخاب رئيس جمهورية مدة سنتين ونصف، إلى فرض قانون الانتخابات، إلى خلق أعراف وتقاليد كأنها جزء من الدستور، إلى عدم احترام الفصل بين السلطات، إلخ...

الرئيس نبيه بري اكتفى باستذكار 6 شباط العسكري سنة 1984 (وهو بالمناسبة يصادف يوم اختطافي على طريق المطار ثم إطلاق سراحي في منزل الرئيس بري). لكن "حزب الله" ينفذ حاليا "6 شباط سياسيا" على الرئيس ميشال عون. وإذا كان الرئيس بري يجد في أوراقه القديمة أسبابا تخفيفية لانقلابه على الشرعية إذ كان خصم الرئيس أمين الجميل، فأي سبب تخفيفي يمنحه "حزب الله" لنفسه حتى يعطل عهد حليفه الأساسي، الرئيس عون؟ إن "حزب الله"، الذي أشغر رئاسة الجمهورية تحت شعار "عون أو لا أحد"، مدعو، قبل سواه، إلى دعم العهد فلا يتصرف كأن الانتخاب والرئاسة لعون، أما الحكم والقرار فله. فعلاوة على الوفاء لرئيس الجمهورية، هناك مسؤولية يتحملها الحزب تجاه اللبنانيين أيضا.

لم يقاطع القادة العرب قمة لبنان (19 و20 كانون الثاني الجاري) بسبب الخوف من تكرار 6 شباط 1984، بل من استمرار 6 شباط 2006 بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر (تفاهم ما ميخائيل). فمن يزرع إيران لن يحصد العرب، والعكس صحيح مع الأسف؛ علما أن مصلحة لبنان تقضي بنسج أفضل العلاقات مع العرب وإيران، وهذا ممكن.

إن إعادة النظر بكيانات الأمم ليست محصورة في المس بحدودها الدولية. وعدا أن حدودنا مستباحة جنوبا وشمالا وشرقا، فالانفصال الداخلي، الخروج على الدستور، عصيان الشرعية، تعطيل المؤسسات، منع الاستحقاقات الانتخابية، إنشاء عسكر خاص، تعديل النظام السياسي بقوة الأمر الواقع، تأييد التوطين الفلسطيني، معارضة عودة النازحين السوريين، كلها مظاهر تحضيرية لتغيير لبنان و/أو للسيطرة عليه.

في هذا الإطار، ما نسبة تأثير تصريح الرئيس بري على توازن لبنان مقارنة بتصريح الوزير معين المرعبي المناهض إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم؟

ماذا بقي من وحدة لبنان غير ورق التوت؟ أصلا لم تنشأ دولة لبنان الموحدة بفضل إرادة بنيها الجماعية. فما عدا الموارنة القدامى وحلفاءهم، كل طائفة كانت تبحث عن كيان آخر في إطار عربي أو سوري. وجاء نشوء لبنان الحديث في سياق ولادة نظام إقليمي أعقب سقوط السلطنة العثمانية. لذلك، ونحن نشهد اليوم ولادة نظام إقليمي جديد، يخشى أن يكون النموذج اللبناني مدار نقاش، خصوصا أننا، طوال مئة سنة مرت على نشوء لبنان، أخفقنا في تكوين وحدة وطنية منيعة وولاء لبناني صاف.

إن وضع نظام لبنان، بالمفهوم التكويني، يشبه وضع النظام العالمي حاليا. فالعالم، الذي أدرك أن مفعول النظام العالمي انتهى بأوجهه الثنائية والإحادية، الشيوعية والرأسمالية، يتخبط في حروب خاطئة وتسويات ناقصة واتفاقات هشة وتحالفات تكتيكية واقتصادات مدينة. وبالمقابل، لم يجد هذا العالم بعد نظاما جديدا يوفر الاستقرار والتوازن الدوليين.

هكذا لبنان: بنوه أيقنوا أن الوحدة المركزية انتهت، وأن الأزمات السامة التي تتوالى علينا هي بسبب استهلاك هذه الصيغة رغم انتهاء مدتها. وفيما نحجم عن طرح صيغة شراكة بديلة، نعجز عن العودة إلى دستور 1943، ولا نقبل بـ"الطائف" ونخاف الفيدرالية. ومثلما أدى الضياع العالمي إلى بروز حالات مناهضة القوانين الدولية، يسفر التردد اللبناني عن واقع خارج الدولة الميثاقية. لذلك نشهد أفرقاء كثيرين ينفذون 6 شباط عن سابق تصور وتصميم من دون سمة دخول من الرئيس بري.