ندرة النقد التشكيلي

التشكيلية أحلام المشهدي تؤكد أن الفن التشكيلي السعودي أثبت وجوده داخل المشهد العربي والعالمي.
الفنان بحاجة ماسة إلى الإحساس بالدفء والعاطفة والمحبة وإلى العودة لأحضان الطبيعة الخام وجماليات الموروث
المجتمع السعودي عبارة عن مزيج من ثقافات متعددة تختلف باختلاف المناطق والعوائل
الفن السعودي أصبح له هوية وبصمة واضحة وقوية في عالم التشكيل، بل وصل إلى المتاحف والمزادات العالمية

حظيت الفنانة التشكيلية السعودية أحلام المشهدي منذ نعومة أظافرها بوالدين عاشقين للفنون التشكيلية، حيث كانا يحرصان على متابعة المعارض الفنية وزيارة المتاحف التي تقام هنا وهناك داخل المملكة وخارجها، وهو الأمر الذي كشف موهبتها مبكرا، لتضع يديها على مفردات العالم التشكيلي. ولكن عدم توفر أكاديمية متخصصة في الفنون، اضطرها لدراسة الفيزياء، مما دفعها لاعتماد أصالة موهبتها لتتابع تكوين نفسها ثقافيا وإبداعيا وفنيا، من خلال دورات دراسية فنية في أساسيات التشريح والتلوين الزيتي والأكريليك والباستيل، وأساسيات النحت، والتصوير الفوتوغرافي والفوتوشوب، والمشاركة في ورش عمل تدريبية داخل المملكة وخارجها، حتى اكتملت رؤيتها الفنية والجمالية وكانت البداية الحقيقية مشاركتها في المعرض الجماعي لمهرجان الجنادرية عام 1999.
أقامت المشهدي ثلاثة معارض خاصة هى معرض "الواقع واللاواقع"، قاعة الأمير فيصل بن فهد، الرياض، معرض "حكاية حب"، أتيليه جدة، معرض شخصي ثالث، جامعة الدمام. إضافة لمشاركاتها الكثير في أنشطة ومعارض جماعية مختلفة داخل السعودية وخارجها، مرورًا بفاعليات متنوعة في الكويت، الإمارات، أميركا، البحرين، لبنان، مصر والمغرب. ولها أعمال مقتناة داخل المملكة وخارجها من مؤسسات وأفراد، منها وزارة الثقافة الإماراتية، مبنى التلفزيون السعودي، متحف سامي هندية للفنون، مؤسسة بينيتون العالمية. كما ساهمت في تصميم أغلفة مجموعة من الروايات الأدبية وشاركت في إنشاء مرسم خاص للدورات والورش الفنية وهي عضو إداري في الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون.
قالت المشهدي "منذ الطفولة وأنا أعشق الرسم والتلوين؛ كنت أرسم دائما في المنزل وأثناء السفر ووقت التجمعات الأسرية، فمثلا حين يتجمع أطفال العائلة ويمارسون ألعابهم الجماعية، كنت أنزوي بعيدا عن الجميع وأقوم بالرسم ومحاكاة رسوم المجلات والقصص والرسوم المتحركة وغيرها.. كما أن والدي كان يصطحبنا أثناء السفر للخارج إلى المتاحف والمعارض المتنوعة والأماكن الأثرية والمكتبات، وكان يشرح لنا ما يكون مبهما، مما خلق لدينا نحن أفراد الأسرة ذاكرة وحصيلة ثقافية وإبداعية تأصلت في العقل الباطن. 

وأضافت "كان والداي يشجعاني دائما على ممارسة الرسم، وكان لحب وإلمام والدتي بأساسيات الرسم والظلال عاملا أساسيا في إرشادي. كانت تتابعني وتبدي ملاحظاتها بالرغم من أنني لم أكن أتقبل الملاحظات أو التوجيهات، لكني الآن أتذكر ملاحظاتها القوية إفادتها لي. ومع قراءاتي أيام المدرسة للجرائد والمجلات الثقافية أضافت لتكويني الكثير، وأيضا كنت أطلع على إعلانات المشاركة بالمعارض والمسابقات التشكيلية وكانت أولى مشاركاتي بمسابقات الأطفال أيام المرحلة الابتدائية، أما مشاركاتي بالمعارض التشكيلية المهمة فقد كان أولها في مهرجان الجنادرية حينها كنت أصغر فنانة مشاركة. وقد حظيت وقتئذ بدعم الأميرة أضواء بنت يزيد واهتمامها بالمواهب الشابة، وشاركت بمعارض الفنانات الواعدات التي كانت تشرف عليها وحظيت بجوائز وتكريمات مما شجعني على الاستمرار، وكان دعم والداي مستمرا. 
ومع كل هذا واجهت أحد أكبر المعوقات في بداياتي وهو دخولي لتخصص أكاديمي مختلف عن المجال الفني، كان تخصصي طبيا ويتطلب التركيز والتفرغ للدراسة والبحث، مما جعلني أدخل في دوامة من الحيرة والقلق. لم أستطع ترك هذا المجال وتغييره لمجال الفن بسبب عدم وجود تخصص في الفنون الجميلة ذي مستوى عال في جامعاتنا. وأيضا لم يفتح باب الابتعاث في هذا المجال. ورغم هذا فقد قررت الاستمرار في رحلة الفن وعادت مشاركاتي بالمعارض بعد انتهائي من المرحلة الجامعية. توجتها بمعرض شخصي اول كان بعنوان "الواقع واللاواقع" في الرياض. وقد كانت تجربة أضافت لي الكثير وتحور بعدها شيئا فشيئا أسلوبي الفني وأصبح أكثر وضوحا وقدرة على التعبير عما بالذات، وهذا ماكنت أطمح له ومازال هناك المزيد مما أطمح بتحقيقه في عالم الفن. 
وأشارت المشهدي إلى أن بداياتها تمحورت حول نقل الواقع بتفاصيله سيما فن البورتريه حيث وجدت وقتها متعة في اكتشاف أدق التفاصيل ودراسة الكتل والظلال والألوان وما يحيط من حولنا من جمال، ثم شيئا فشيئا ومع الضغوطات اليومية بأشكالها بدأت أهرب من الواقع بتحوير الأشكال ومحاولة تشويهها وطمس تفاصيلها. تطور الأمر شيئا فشيئا إلى أن اكتشفت عالما جميلا، عالما مترفا بالأحلام الوردية والخيال الجامح والحب المفقود، فأخذت أميل في أعمالي إلى النزعة العاطفية الرومانسية، كما غلب على الأعمال وقتها النمط المترف بالزخرفة، حيث تجدها في كل زاوية بالعمل؛ كنت أضعها بشكل تلقائي وغير مدروس ربما حبا في الزخرفة والنمط الشرقي وربما نوعا من الهروب من الضغوط والتيه مع الزخرفة واللون. 
الآن أصبحت أرى الأعمال أكثر أريحية، وهناك مساحة من الراحة والسلام الداخلي والصفاء الذهني إلى حد ما بشكل يختلف عن الأعمال السابقة. بدأت أيضا بإدخال بعض الرموز والعناصر التراثية التي أعشقها إذا رأيت أنها تخدم العمل وفكرته. 

Fine Arts
ثقافة الفن 

ورأت المشهدي أن الفن تعبير عن المشاعر الداخلية والأحاسيس الكامنة وسبر أغوار العقل الباطن في قالب جمالي جذاب، فيضع الفنان كل ما يثقل كاهله من هموم ومآسي وآلام هربا من جحيم الواقع المزري إلى عالم مترف بالإحساس الجميل الحالك. ربما هناك من يمارس إبداعه بالتعبير عن واقعه بتفاصيله، إلا أنه غالبا ما تكمن متعة الفن حينما يأسرنا ويحلق بنا بعيدا حيث أحلامنا الدفينة ورغباتنا الكامنة بعدما قضت عليها العولمة ونمط الحياة التسارع، فنسترجع معا بهجة القلوب وروعة الإحساس الساحر، فكما يرى "بينيدتو كروتشه" أن الفن يحكمه الخيال، وبما أن الخيال يسبق الفكر كانت فاعلية العقل الفنية أسبق من فاعليته المنطقية، فلا يكاد الإنسان يقوى على التخيل حتى يصبح فنانا قبل أن يبلغ المقدرة المنطقية بفترة. 
وكشفت المشهدي أنها تأثرت في بداياتها الفنية بالفن الشرقي بأنواعه من: فن زخرفي إسلامي، فن المنمنمات الفارسية، كتب الأساطير القديمة، بالإضافة إلى دخولي عالم التصوف والروحانيات. ومن جانب آخر كنت من عشاق المدرسة السريالية وبالذات أعمال سلفادور دالي والمدرسة الرومانتيكية متمثلة في أعمال دولاكرواه، وكذلك أعجبت بأعمال غوستاف كليمت ذات النمط التعبيري الزخرفي المتوهج. أيضا كنت ولا أزال مهتمة بالفلسفة الجمالية ومفهومها، فالجمال في نظري عامل مهم في العمل التشكيلي يضفي عليه الجاذبية، فتتحقق المتعة البصرية والروحية، يأخذنا الفن إلى فضاء واسع يحلق بنا بعيدا عما يكدر نفوسنا ويرتقي بأحاسيسنا وضمائرنا، أما بالنسبة إلى انتمائي إلى مدرسة معينة فهذه الفكرة غير واردة، فأنا لي أسلوبي الخاص الذي أعرف به منذ فترة.
ولفتت المشهدى إلى أن المجتمع السعودي عبارة عن مزيج من ثقافات متعددة تختلف باختلاف المناطق والعوائل، وقد عشت واندمجت مع معظمها، حيث إنني ابنة الحجاز، وتحديدا المدينة المنورة، تأثرت منذ طفولتي بنخيلها ومزارعها وهوائها والتراث العمراني المتبقي الذي تميزت به المنطقة، كما عشت فترة طفولتي ودراستي في الرياض فتأثرت بشمسها الساعة وجمال الرمال الذهبية المحيطة بها، وحينما انتقلت إلى المنطقة الشرقية من المملكة والتي تميل إلى الطابع التراثي الخليجي قمت بزيارة المناطق التراثية بها ودراسة تفاصيل النمط العمراني والتقاليد لهذه المنطقة.
ورأت أن الواقع اليومي للمجتمع السعودي أصبح كسائر المجتمعات العربية التي اكتسحتها العولمة والحياة المدنية، حيث روتين العمل والالتزامات الأسرية والاجتماعية وطغيان المادة على الاهتمام بجماليات المشاعر الإنسانية من حب وشوق وإيثار وتعاون قلّ وجوده بين أفراد المجتمع. كما لم يعد هناك وجود لعبق الماضي فكانت المزارع والعيون والطبيعة الخام بتفاصيلها والمباني والأزياء التقليدية بنقوشها وتفاصيلها المميزة، كل هذا اندثر أو يكاد يندثر في ظل العولمة المسيطرة على العالم.
وأوضحت المشهدي أن الفنان بحاجة ماسة إلى الإحساس بالدفء والعاطفة والمحبة وإلى العودة لأحضان الطبيعة الخام وجماليات الموروث، فإذا افتقد هذا الشيء لجأ إلى خياله وأحلامه هربا من واقعه الروتيني الجاف. ومعظم أعمالي تسلط الضوء على الجانب العاطفي والإنساني، هي دعوة لأفراد المجتمع لإعادة النظر في حياتهم وعلاقاتهم، فلو وجدت مفردات الحب لن نجد أسرا مفككة ولا جرائم ولا انتهاكات ولا حتى إرهاب ووحشية ولهث وراء الجاه والمال على حساب المحبة والإنسانية. 
وأكدت المشهدي أن الفن التشكيلي السعودي أصبح الآن حاضرا وبقوة في معظم المحافل والمناسبات وذلك بفضل الانفتاح الكبير مؤخرا وإعطاء مساحة من الحرية لم تكن موجودة في السابق. وأيضا بفضل التكنولوجيا ووسائل الاتصال ووعي الأفراد واندماجهم بالمجتمعات الأخرى، ومازلنا نطمح بالمزيد، فما زال لدى بعض أفراد المجتمع ضعفا في إدراك ماهية الفن وأهميته وقيمته، وفي الآونة الأخيرة انتشرت الفعاليات المتعددة والتي يقام فيها معارض للفنون بأنواعها ورسم مباشر مما ساهم تدريجيا في نشر ثقافة وأهمية الفن بين سائر طبقات المجتمع. 
وأضافت "أثبت الفن التشكيلي السعودي وجوده داخل المشهد العربي والعالمي بمختلف مجالاته، وكثرت في الآونة الأخيرة المشاركات خارج المملكة سواء في معارض أو ملتقيات أو بيناليات أو اقتناء من قبل متاحف أو أفراد، المشاركات تتفاوت ما بين الأعمال ذات الجودة والقيمة العالية والمشهود لها عالميا، وبين الأعمال الضعيفة التي لايمكن المشاركة بها إلا عن طريق دفع المال أو من خلال العلاقات، وبشكل عام فإن الفن السعودي أصبح له هوية وبصمة واضحة وقوية في عالم التشكيل، بل وصل إلى المتاحف والمزادات العالمية. 
وقالت المشهدي "نعم هناك مشكلات عدة تواجهنا، منها مثلا: غياب النقد الهادف البناء الشفاف بدون محاباة أو مجاملة، ندرة وجود معاهد وكليات متخصصة في الفنون الجميلة، عدم الدعم الكافي من قبل الجهات المسؤولة للطاقات الشابة بل إن الدعم في السابق كان أفضل بكثير من الوقت الراهن، عدم الابتعاث لتخصص الفنون الجميلة بأنواعها واقتصاره على التخصصات الطبية والهندسة وما يوازيها، عدم تفرغ الفنان لممارسة فنه بل العديد من الفنانين لديهم وظيفة ثابتة مختلفة عن المجال الفني، سيطرة العلاقات والواسطات في الوسط الفني، عدم دعم شريحة من الأهالي لبناتهن الفنانات باعتبار أن الفن لا قيمة له وعدم السماح لهن بالسفر والتنقل وممارسة النشاط الفني، صعوبة شحن بعض الأعمال سواء بالداخل أو بالخارج. 

وبالنسبة للحلول فهي تعتمد بشكل أساسي على الحوار والتواصل الفعال بين الفنانين والمسؤولين، بين الفنانين وبعضهم البعض، وكذلك الدعم من قبل الوزارة سواء عن طريق الابتعاث او الإقامة الفنية، توفير مراسم خاصة، تفريغ الفنانين لممارسة الفن، تسهيل كافة الإجراءات. أيضا تأسيس جمعيات ومؤسسات مجتمع مدني تهدف إلى نشر ثقافة الفن وتصل الفنانين ببعضهم البعض وبالمراكز والمؤسسات المختلفة كما تسهل لهم الإجراءات المختلفة مع تقديم النصائح والإرشادات، بناء جامعات أو معاهد متخصصة في الفنون الجميلة ذات مستوى عال، التعاون مع الإعلام بشتى أنواعه لتقديم الفنانين للمجتمع. 
وحول الحركة النقدية المواكبة لحركة الفن التشكيلي السعودي، أكدت أنها مازالت ضعيفة جدا وقالت "لدينا ندرة في هذا المجال، كما سيطرت المجاملات والمحسوبيات وغاب النقد الصريح والبناء المدروس، وهذه مع الأسف طبيعة المجتمعات العربية، ولكن هناك نقاد حقيقيون وجدت فيهم الصراحة والشفافية والتحليل الدقيق والبناء أولهم الأستاذ علي ناجع وقد استفدت كثيرا من طرحه، وأيضا  هناك الأستاذ محمدالعباس، الفنان عبدالرحمن السليمان والأستاذ يوسف شغري، كلها أسماء أضافت كثيرا للحركة النقدية المواكبة للفن التشكيلي السعودي.