نساج رعوي يعبئ الموسيقى

محمد عيد إبراهيم أحدَ رواد قصيدة النثر في مصر وصاحبُ النص الذي له سمات وخصائص تجعل منه نسيجاً وحده.
عيد يعتقد أن الترجمة تأويل خاص يتواشج مع ثقافة وتوجهات وذائقة المترجم بما يعني أن المؤلف والمترجم شركاء تماماً في خلق عمل له وجهَان
ترجمات محمد عيد إبراهيم تعددت حتى شملت الترجمات الشعرية والروائية والمسرحية والقصصية والنقدية وحتى ترجمات كتب الصغار

بمناسبة مرور ما يقارب الأربعة عقود على صدور ديوان "طَوْر الوحشة" لمحمد عيد إبراهيم عام 1980 عن جماعة "أصوات" التي مثلت هي وجماعة "إضاءة77" جَناحيْ تجربة جيل السبعينيات في مصر، هذا الجيل الفارق والإشكالي والذي لولاه لكان آباؤنا هم الشعراء الذين ظهروا في مرحلة ما بعد الشعراء الرواد والذين لم تضف قصيدتهم للأسف إلا إعادة إنتاج نصوص سابقيهم والدوران في فَلَكِها. نتذكر ونذكر أنه رغم هذه القيمة الإيجابية السابق الإشارة إليها إلا أن الزوابع التي أثارها هذا الجيل والأسئلة الحارقة التي أطلقها والحِراك الفني الذي تسبب فيه، رسَّخوا بدون قصد للمفهوم الجيلي في الشعر المصري وبالتالي صرنا نعتاد على الجمع بين شعراء قد يكونوا على النقيض في الانتماء الفني والعقيدة الشعرية ويقتصر حديثنا على إنجاز هذه الجماعة على مستوى الوعي والفلسفة وهذه الرابطة في تجليها الجماعي وليس على الشعراء كمشاريع فردية في الحقيقة. 
فبالإضافة لمسألة انتمائه الجيلي عانى محمد عيد إبراهيم لسنوات طويلة من لعنة الاختصار أي أن يتم اختصارك في حكم قيمة واحد وثابت وكأن الحياة بهذا الثبات وكأن قناعات وتجارب المبدعين بهذا الجمود، فعند الحديث عن تجربته كنتَ لا تسمع إلا مقولة كونه صاحب القصيدة الأكثر تعقيداً ربما في الشعرية العربية كلها وأنه مترجم يتبع هذا التوجه في الترجمة وبالتالي فالنتاج سوف لا يخرج بالتأكيد عن أعمال نخبوية تحتاج من الجهد القدر الذي يُفَوِّت عليك بالتأكيد أية متعة!! 
وهكذا وقعنا في أوهام التصورات الجاهزة والانطباعات الدائمة لعقود وعقود لكن بعد استواء التجارب واندغامها في حلقاتها ومساراتها والمرور باختبار الزمن القاسي والصادق والذي يدفع بمن صمت وتخلى بعيداً عن المشهد ويُثبِّت صاحب المشروع ويُرسِّخه، صرنا أكثر تحرراً في التعامل مع الشعراء وانتماءاتهم الجيلية وصرنا نتعامل مع مشروع كل شاعرٍ على حدة وبالعكس صارت التمايزات بين كل مشروعٍ وآخر هي الأَوْلى بالنظر من التماثلات ونقاط الاتفاق وهكذا عدنا للتعامل مع عيد إبراهيم باعتباره أحدَ رواد قصيدة النثر في مصر وصاحبُ النص الذي له سمات وخصائص تجعل منه نسيجاً وحده وعلى أنه المترجم المجتهد صاحب الرؤية الخاصة والمتميزة. 

لا يحلم هذا النص الجارح وهذا المثقف الطموح إلا بلغة مخاتلة، بيضاء، متخلية عن ماضيها وحمولتها المعرفية، لا تقولُ شيئاً، كي نعيدَ نحنُ نَحْتَها فتقولُ كل شيء

تعددت ترجمات محمد عيد إبراهيم حتى شملت الترجمات الشعرية والروائية والمسرحية والقصصية والنقدية وحتى ترجمات كتب الصغار. وما يجمع بين كل تلك الأنماط والأشكال والأنواع الفنية، فوق تعدد رؤية واتساع ذائقة وبصيرة المترجم وانفتاحه الكامل على كل المنتج الإنساني في أي مكان وعلى أية شاكلة، هو إخلاصه الصارم لقيم التحديث والتقدم والحرية، في كل ثقافة وفي كل زمن ورغماً عن الموانع التي تصنعها السياسة أو تتقصدها دورات الجهل أو التجهيل الرأسمالية المتواترة. 
إنه مثقف يصلّي دائماً خلف إمام واحد هو العقل ويصل دائماً للجوهر الذي يجمع الكل في واحد والذي هو عظمة الإنسان وقوة الإنسانية. 
لمحمد عيد إبراهيم في الترجمة وجهة نظر لا تجعل من المترجم مجرد "فواعلي" على حد تعبيره - ينفذ ما يُطلب منه بلا رؤية واختيار، بل هو لا يترجم إلا ما يناسب ذائقته واشتراطاته التي من ضمنها أن يطأ دائماً أرضاً غير مطروقة أي أن يختار فقط مما لم يسبق ترجمته من قبل. يعتقد عيد أن الترجمة تأويل خاص يتواشج مع ثقافة وتوجهات وذائقة المترجم بما يعني أن المؤلف والمترجم شركاء تماماً في خلق عمل له وجهَان. في الأعمال الإبداعية ينحو دائماً في اختياراته نحو إظهار الجانب المخفي من الحياة، الجانب الوحشيّ الدمويّ العنيف، إنه يقول للجميع عبر صيغٍ مختلفة ومتواترة إن للجمال وجوهاً أخرى قد تكون في إطلاق بوابات الجسد والروح للحد غير المحسوب وتكفي فقط الإشارة إلى ترجماته للماركيز دو ساد ولجورج باتاي، كذلك يميل مترجمنا لكشف الجانب الحسيّ العارم من الحب ولتبيان الجانب التطهيريّ المتحقق من الجسدانية التي ستلحق بها بهجة الأرواح ونشوتها مثل ترجمته لأشعار آن سكستون والرواية السيريالية الخالدة للويس أراجون "متاع إيرين". 
أما في الكتب الفكرية فيبقى تركيزه واهتمامه الأساسي منصباً على الكتب التي تتناول ما بعد الحداثة ويكفيه تقديمه لإيهاب حسن للمرة الأولى في الفكر العربي عبر ترجمته لكتابه "منعطف ما بعد الحداثة". وبشكل شخصي أشهد أن الكثيرين تعرفوا على بورخيس وفرناندو بيسوا ودينو بوتزاني وكالفينو وجاك آنصي وغيرهم الكثير عبر سلسلة (آفاق الترجمة) التي كان يترأسها في تسعينيات القرن الفائت، ولا أنسى أنني كنت أجلس ومعي الروائي الراحل محمد ربيع على محطة القطار صيفاً أو شتاءً في انتظار قدوم قطار الصحافة الساعة الثانية صباحاً ومعه الوجبة الشهية التي ستكون زادنا وزوادنا حتى يصدر الكتاب التالي، كنا ندرك أنه من الخطر ترك الأمر للصباح لأن حصة مركزنا لا تزيد عن نسختين، يعني على مقاس شغفنا وشوقنا بالضبط.
لم يَحِد عيد مطلقاً عن طليعيته وتقدميته وإخلاصه لأفكار التنوير والتحديث، سواءً في كل ما يكتب وفي اختياراته للترجمة أو في ممارساته الثقافية فتعد مثلاً صفحة "أنا الآخر" ثم "أنا الآخر2 "على فيسبوك – كمثال لجهوده على الشبكة العنكبوتية - مَعْلَماً ودليلاً واضحاً على استخدام حيوية الفضاء الافتراضي في تنفيذ مخطط الاتساع والمجاوزة والانفتاح على الفنون والثقافات. 
يرسي الرجل طول عمره مبدأ الانضباط والعمل المنظم والدائم ويبتعد بشكل صارم عن كل التُّرهات والسفاسف فإذا فتشتَ في ذاكرة الجميع لن تجد مشكلةً أو شائعة أو نقيصةً ظن أحدٌ أنها تليق به أو تَمَسُّهُ، عقود كاملة والرجل هو نموذج الإنتاج والابداع والايمان بقيمة العمل والفعل الثقافي ولا شيء آخر، وكذلك هو النموذج البارز لتحويل الإبعاد الذي يكاد أن يكون قسرياً لنصه عن دائرة الاهتمام النقدي بفعل التأكيد والتأكيد من القريبين والبعيدين على نخبوية نصوصه وتعصيها على التعاطي- تحويله هذا الموقف المتعنت والمجاني لإنتاجٍ وإبداعٍ ومحاولاتٍ للإضافة. 
ونعود للشعر الذي لمحمد عيد ابراهيم فيه سكة وطريق وطريقة تخصّه وحده قوامها إدراكه لتعدد ولانهائية أنماط قصيدة النثر وكونها الرداء الذي يتسع لأحلام وهواجس وكوابيس وهلوسات وأفكار وفلسفات وسير الأرواح والكائنات. 

Writers
مجربٌ أبداً ومتسائلٌ دائم 

لا يغلق عيد قوس تجربته على قيمة جمالية معينة، إنه مجربٌ أبداً ومتسائلٌ دائم ودائب وباحثٌ طول الوقت عن الكامن خلف السطوح ومستمعٌ شغوف لدبيب البواطن وشاكٌ في أي يقين سهل لأن اليقين ثباتٌ وجمود والجمودُ محضُ موتٍ حتى وإن تزيا بأزياء الحياة اللامعة والملونة. لا محل للنص المتاح الواضح الميت في صفحة محمد عيد إبراهيم الابداعية. نحن بإزاء نص لا يعطي ذاته مرة واحدة بل يعيش معك في أطوارك ووجوهك المتوالية كلما اقترحت مداخل للقراءة تليق بلحظتك التاريخية ووعيك الآني. نص مخادع وشديد المكر ويعلن القطيعة كما أنه طيٍّعٌ ويستجيب لصداقتك ولعبك واقتراحاتك مهما كانت، قاسٍ ويعطي ظهره للمتلقي الذي لا يبحث عن نص متفاعل كما أنه حانٍ ويشبهُ روحكَ القريبة في أطوارٍ أخرى. 
غموض الكتابةِ هنا يكاد يكون مقصوداً، غموضٌ محفز على إعادة النظر في المستقرات وفي مداخل ومخارج وأشكال وبدايات ونهايات ولحم وبنية ومدلول النصوص، معه تعيد الاعتبار للثورة على ذائقتك وذائقة الجميع والتساؤل عن ماهية الشعر وأشكاله وألوانه. هنا لا حدود للخيال ولا أرضَ وسماء تحدان الواقع حيث يوظف الشاعر ثقافته العريضة في بناء نص يمتح من البساطة المركبة لدرجة التعقيد والتركيب المغوي المخادع بابتسامته/ الفخ. لا ينظر عيد للغة باعتبارها وعاءً حاملاً للشعرية والخيال والتجربة ولا باعتبارها مناطَ الأمر وكلمةَ السر والمبتغى والغاية حيث الوجودُ كله مجردَ لعبةٍ لغوية، لكن اللغة في نصه لها وجودٌ أكثر حريةً ومرونةً واستقلالاً عن المعاني والتراكيب القريبة المستقرة وأكثرَ قدرةً على التحليق في مناطقَ عصيةً من اللاوعي، وعلى الحفر في مجاهل الروح الإنسانية، وعلى اقتراح طوطم جديد ونقضه طول الوقت، وعلى مقاربةِ حسية وسخونة الانسان البدائي. لغة وحشية وعارمة لا تعترف ببناء الجملة التقليدي ولا تستكين للمعنى الذي يصل عبر المقدمات الموصلة للنتائج، لغة قادرة على مفاجأتك طول الوقت بزاوية نظر مختلفة للعلاقات بين البشر وبعضهم بعضاً، وبين البشر والآلهة والكائنات، الكائنات التي تظن ببصرك المجرد أنها مصمتة أو خرساء، تفاجئك اللغة بجمعها بين ما لا يُجمع وتشدك إلى فخّها بالبساطة المفرطة في البدء ثم تجد بعدها جحيماً يطهرك من أدران التبعية للتقليد. والعكس كذلك فقد تصدك جملةُ المفتتح وتهدهدكَ جملة الظل. نصٌ يترك ببراعة شديدة فجواتٍ لي ولك كي نلعب ونسير مع الحكاية أو حتى ننقضها من قبل أن تُخلق ولا نفتح عندها الباب للساحر العجوز وللتنانين.
في النهاية لا يحلم هذا النص الجارح وهذا المثقف الطموح إلا بلغة مخاتلة، بيضاء، متخلية عن ماضيها وحمولتها المعرفية، لا تقولُ شيئاً، كي نعيدَ نحنُ نَحْتَها فتقولُ كل شيء ونلمسْ نحنُ نفوسنا المختبئة تحت الرمال ونَهُزُّ رؤوسنا ونحن نمضي بلا غبار.