نقطة الضعف الاميركية...

في ظلّ حال من التخبط في واشنطن، تبدو الإدارة الاميركية في حاجة اكثر من أي وقت الى استراتيجية تأخذ في الاعتبار مرحلة ما بعد العقوبات على إيران.

في النهاية، اين تقف الولايات المتحدة من ردود الفعل الايرانية على العقوبات المفروضة على "الجمهورية الإسلامية"؟ هل تمتلك ايران حريّة الردّ حيثما تشاء وكيفما تشاء ام هناك سياسة أميركية واضحة ومحددة ومدروسة تأخذ في الاعتبار ان العقوبات تخنق "الجمهورية الإسلامية"؟

يفترض في الإدارة الاميركية ان تأخذ في الاعتبار ان ايران ستذهب بعيدا في ردّها على العقوبات التي قرّر الرئيس دونالد ترامب تشديدها الاربعاء الماضي في اوّل ردّ فعل على ما ارتكبته ايران في حقّ المملكة العربية السعودية. لم يكن الاعتداء على المملكة فحسب، بل هو يطاول الاقتصاد العالمي ايضا. كان الاعتداء الايراني على معامل تابعة لشركة "أرامكو" بمثابة رسالة فحواها انّ ايران لن تردّ على اميركا، بل على المجتمع الدولي ككلّ. انّها تردّ على أوروبا أيضا بعدما عجزت عن حمل إدارة ترامب على التمسّك بالاتفاق النووي الموقّع مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا في تموز – يوليو من العام 2015.

الى الآن، أظهرت الإدارة الاميركية حزما واضحا في التعاطي مع ايران وذلك منذ الخطاب المشهور قبل  ما يزيد على عامين الذي عرض فيه الرئيس دونالد ترامب، بالتفاصيل المملّة، السلوك العدائي للنظام القائم في طهران وذلك منذ قلب الشاه في العام 1979.

لا يكمن حصر الإنجاز الذي حقّقته إدارة ترامب في الوصف الدقيق لسلوك "الجمهورية الإسلامية" ونشاطها "الإرهابي" الذي بدأ باحتجاز ديبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران 444 يوما، بما يخالف كلّ القوانين والاعراف والقواعد المعمول بها في أي مكان من العالم. ذهب ترامب في خطابه، الذي ليس معروفا هل لا يزال يتذكّر ما ورد فيه ام لا، الى ابعد من ذلك عندما تطرّق الى أدوات ايران في المنطقة والى ما نفّذته هذه الأدوات في سنوات مختلفة. شمل ذلك نسف مقر "المارينز" قرب مطار بيروت في الثالث والعشرين من تشرين الاوّل – أكتوبر 1983. ادّى ذلك الى مقتل نحو مئتين وخمسين عسكريا اميركيا في أسوأ كارثة تتعرّض لها المؤسسة العسكرية الاميركية منذ حرب فيتنام.

حسنا، عملت إدارة دونالد ترامب ما عليها عمله، وصولا الى تمزيق الاتفاق النووي للعام 2015 وذلك من منطلق انّ لا وجود لما هو أسوأ منه بين كلّ الاتفاقات التي وقعتها اميركا.

يبدو هذا التقييم الاميركي للاتفاق صحيح الى حدّ كبير، ولكن ما ليس صحيحا هو التقييم الاميركي لردود الفعل الاميركية على الغاء الاتفاق وفرض عقوبات على ايران. هذه نقطة ضعف الإدارة الاميركية التي لم تقدر عواقب ردود الفعل الايرانية هذه التي شملت الى الآن احتجاز ناقلات نفط وتفجيرات قبالة ميناء الفجيرة الاماراتي ثمّ شن هجمات على مراكز حيوية في السعودية، عن طريق الحوثيين، وصولا الى الاعتداء المباشر على معامل "أرامكو" في بقيق.

دخلت الولايات المتحدة المواجهة مع ايران من ابوابها الواسعة. اثبتت إدارة ترامب انّ ايران نمر من ورق وانّ اقتصادها هو نقطة ضعفها. لكنّ هذه الإدارة كشفت أيضا نقطة ضعف أميركية في غاية الاهمّية. تبدو نقطة الضعف الاميركية هذه في عدم الاعداد لمرحلة ما بعد فرض العقوبات من جهة والتحسب لما ستكون عليه ردود الفعل الايرانية من جهة أخرى.

لا شكّ ان الاميركيين يعرفون جيّدا ان النظام الذي أقامه آية الله الخميني في ايران ليس نظاما قابلا للحياة في المدى الطويل. يعود ذلك الى انّ ليس لدى هذا النظام ما يقدّمه للايرانيين باستثناء الشعارات التي لا تطعم خبزا. وعد هذا النظام الايرانيين بتمكين بلدهم من الاستغناء عن دخل النفط والغاز في مرحلة معيّنة. تبيّن، كلّما مرّ الوقت، ان ليس لدى ايران ما تعتمد عليه سوى النفط والغاز وان اقتصادها لم يتطور قيد انملة منذ العام 1979. على العكس من ذلك، تراجع الى ابعد حدود على كلّ صعيد وفي كلّ المناطق الايرانية. ما يزيد على نصف سكان ايران يعيش تحت خطّ الفقر...

لا تشبه إدارة ترامب في أمور كثيرة سوى إدارة جورج بوش الابن. قررت هذه الإدارة اجتياح العراق ردّا على غزوتي نيويورك وواشنطن اللتين يقف خلفهما الإرهابي أسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة" الذي اتخذ من أفغانستان ملجأ له. لا يوجد الى الآن سبب منطقي للردّ على تنظيم "القاعدة" في العراق. لكنّ إدارة بوش الابن قررت، لاسباب ما زالت غامضة، معاقبة العراق والعراقيين على عمل ارهابي لم يرتكبه صدّام حسين.

خلاصة الامر ان اميركا تخلصت من صدّام حسين، وكان يستأهل التخلص منه، ولكن من دون ايّ تصوّر لمرحلة ما بعد صدّام. تبيّن مع العودة الى احداث تلك المرحلة ان كمّية كبرى من الأكاذيب تولّى الترويج لها وزير الخارجية كولن باول ومستشارة الامن القومي كونداليزا رايس من اجل تبرير اجتياح العراق. ادّى ذلك عمليا الى تسليم هذا البلد الى ايران على صحن من فضّة.

يجمع بين ادارتي بوش الابن ودونالد ترامب دخول حرب من دون التفكير في النتائج التي ستؤول اليها. في 2003، خرجت ايران المنتصر الوحيد من الحرب على العراق. وفي 2019، ستضع ايران يدها على المنطقة في غياب استراتيجية أميركية واضحة كلّ الوضوح. صحيح ان ايران تتحمّل في سوريا والعراق ضربات دقيقة ومؤثرة توجّهها اليها إسرائيل، لكنّ الصحيح أيضا انّها استطاعت تغيير قوانين اللعبة بعدما استخدمت أراضيها في الاعتداء على منشآت النفط السعودي وحرمان العالم، وان لفترة قصيرة، من نحو خمسة ملايين برميل من النفط يوميا.

هل تستكمل إدارة ترامب المهمة التي تولتها إدارة بوش الابن بعدما قامت إدارة باراك أوباما، التي استسلمت كلّيا لإيران بما عليها القيام به؟ يكفي الانسحاب العسكري الاميركي من العراق في 2011 ثمّ توقيع الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني صيف 2015 للتأكّد من ان اميركا وضعت نفسها منذ العام 1979 في خدمة ايران...

في ظلّ حال من التخبط في واشنطن، تبدو الإدارة الاميركية في حاجة اكثر من أي وقت الى استراتيجية تأخذ في الاعتبار مرحلة ما بعد العقوبات. لم تعد ايران تخفي ان العقوبات هي بمثابة اعلان حرب عليها وهي تعني بالنسبة اليها "الموت البطيء" على حد تعبير دبلوماسي إيراني في بيروت.

الأكيد ان ليس في الإمكان ردع ايران بالمقاربة التي تقتصر على العقوبات. ثمّة حاجة الى ما هو ابعد من ذلك. بكلام أوضح، هناك حاجة الى استراتيجية ذات طابع شامل كي يطمئن حلفاء اميركا انّ اميركا ليست مجرّد بائع أسلحة وان دونالد ترامب ليس مجرّد تاجر عقارات.