ارامكو والتصعيد الأميركي الإيراني

بات الطرفان الأميركي والإيراني يجيدان تماما سياسة حافة الهاوية.

شكلت الهجمات على منشآت النفط السعودية مؤخرا مناسبة أخرى لارتفاع منسوب التوتر في الخليج، على قاعدة اتهام واشنطن لطهران رعايتها لهذه الهجمات، وهي هجمات غير مسبوقة لجهة نوعية الاستهداف الموجهة ضد منشآت ارامكو التي تعتبر عصب الإنتاج السعودي والذي يشكل حوالي 6 بالمئة من الإنتاج العالمي. على أن هذه الحادثة ليست معزولة عمليا وهي مرتبطة بشكل أو بآخر بسلسلة من الأحداث السابقة كناقلات النفط التي ضُربت في يونيو/حزيران الماضي في الإمارات أو غيرها من الحوادث. ورغم ضخامة الوقائع وانعكاساتها، ظل منسوب التصعيد قابلا للاحتواء، فهل أن الهجمات على منشآت ارامكو سيتم استيعابها أم ستؤدي إلى تصعيد ورد عسكري واسع على طهران؟

على الرغم من الاهتمام الأميركي عبر سلسلة التصريحات الحادة تجاه طهران، وإرسال وزير خارجيتها مايك بومبيو إلى السعودية والإمارات، فان الخيارات التي مشى بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب اتجهت نحو المزيد من العقوبات الاقتصادية والمالية ومن بينها عقوبات محددة على البنك المركزي الإيراني، وبالتالي ابتعاده عن خيارات عسكرية كانت مطروحة، وهي خيارات مرتبطة بخلفيات وأبعاد متعددة الأوجه.

إن عدم الرد الأميركي العسكري مرتبط بإمكانية انفلات الأوضاع من عقالها والتسبب بإشعال مواجهات إقليمية واسعة ستؤثر على إنتاج النفط وتصديره، وهو ما سيرفع الأسعار إلى مستويات عالية جدا لن تستطع دول كثيرة تحمله ومن بينها الولايات المتحدة التي تتحضر لانطلاق الحملات الانتخابية الرئاسية، الأمر الذي سيؤثر ويقوّض حملة الرئيس ترامب، وهو أمر بالتأكيد غير مرغوب به، الأمر الذي دفع بالرئيس ترامب اللجوء مجددا إلى تشديد العقوبات، وهو عمليا أمر سيزيد الإرباك الإيراني رغم الدعم الروسي والصيني مثلا بمواجهة واشنطن، وهي سياسات اعتمدت ورغم عدم ضخامة جدواها، إلا أنها سلسلة من بين استراتيجيات الإنهاك المتدرج المعتمدة أميركيا. وعلى الرغم من تداعيات الهجمات التي تحرج الولايات المتحدة فيبدو إن خياراتها الحالية لن تتعدى العقوبات الاقتصادية في المرحلة الحالية رغم رفع سقف التصريحات والتهديدات المتبادلة.

في المقابل إن التصعيد الإعلامي الإيراني، وإن ترافق مع مناورات عسكرية، لم يخرج عن سياق معتاد في مثل تلك الحالات، رغم تسجيل إشارات لافتة هذه المرة، وهو تهديد طهران بالرد في البحر المتوسط والأحمر وصولا إلى المحيط الهندي، وهو أمر متعلق بتداعيات حرب إقليمية واسعة لا احد متشجع إليها حاليا لعدم إمكانية ضبط وقائعها ونتائجها وحجم اكلافها التي تفوق إمكانية مكاسبها.

في المقابل الآخر، وعلى الرغم من الفرص التي تهيئها إسرائيل للدفع باتجاه توجيه ضربات عسكرية ضد إيران وبالتحديد ضد المنشآت النووية، فحاليا خرجت من انتخابات تشريعية زادت من حدة الخلافات الداخلية حول تشكيل الحكومة بعد الضربة التي تلقاها بنيامين نتنياهو وعدم قدرته عمليا الوصول إلى رئاسة الحكومة، إن لم يكن المضي باتجاه إجراء انتخابات جديدة أخرى، وبالتالي عدم قدرتها حاليا التأثير المباشر في القرار الأميركي في هذه الظروف وفي هذه الواقعة، رغم العادة الإسرائيلية المعروفة بالهروب إلى الأمام والتورّط بحروب خارجية لتغطية الأزمات الداخلية.

في المحصلة، ثمة الكثير من الأحداث والوقائع والمواقف المتصاعدة للأطراف المنخرطة فيها، إلا أن التدقيق في السوابق المماثلة وما هو ظاهر واقعيا، أن لا حرب واسعة يمكن أن تنطلق، وعلى الرغم من عدم إمكانية نفي رد ما يمكن إن يحصل، إلا انه لن يكون في المستوى الذي يمكن أن يتسبب بإشعال حرب إقليمية واسعة رغم تهديد طهران بها إن وقعت. لقد بات الطرفان الأميركي والإيراني يجيدان تماما سياسة حافة الهاوية التي تؤمّن أقله مصالح الطرفين وبإتقان عالِ جدا.