رسوم ترامب ومستقبل التجارة الدولية
اطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب زلزالا ماليا واقتصاديا، سيترك اثارا مرعبة على الاقتصاديات الدولية والتجارية والمالية، علاوة على ضرب فلسفة النيو الليبرالية التي روجت لها الأوساط الأميركية بعيد الحرب العالمية الثانية، التي اعتبرت المذهب الذي قاد المواجهة مع المعسكر الاشتراكي آنذاك.
لقد تم تركيز هذا السياق في بيئات مؤسساتية دولية ذات وزن عال، من بينها منظمة التجارة العالمية، التي قادت عمليا تنظيم التجارات الدولية بشكل يؤدي الى إشاعة مبدأ الغاء الحمايات الجمركية التي عادة ما تحرص الدول على التمسك بها، في محاولة لحماية منتجاتها وتنظيم صادراتها ووارداتها.
من البديهي ان تمارس الولايات المتحدة حقها الطبيعي في الحفاظ على اعلى مستويات الحماية لاقتصادها، وسط منافسات تجارية لم تعد تمارس بوسائل تقليدية كما كان شائعا في النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى ان أنواع وسلع التبادل التجاري قد تغير، ودخلت ضمنه منتجات لم تكن موجودة سابقا، بدءا ببيئة التطور التكنولوجي، وليس انتهاء بالعملات الرقمية، علاوة على الكثير من القضايا التي دخلت في تفاصيل البناء التجاري الدولي، الامر الذي انشأ مفاهيم جديدة لكيفية التعاطي مع المشكلات الدولية القائمة ومحاولة البحث عن حلول قابلة للتنفيذ دون التأثير الكبير والمباشر، ودون ترك تداعيات يصعب احتواءها.
وفي الواقع، عند التدقيق في مسار الحماية الجمركية الذي اعلنه الرئيس ترامب مؤخرا، يتبين في الكثير من جوانبه، انه شديد التأثير، وبحيث لم تتكمن الولايات المتحدة نفسها من استيعاب آثاره الداخلية أولا قبل الدولية، فعلى سبيل المثال لا الحصر تكبدت البورصات الأميركية خسائر فادحة في اليومين الأولين، دون وجود حد ادنى من تصورات الحلول الممكنة، ذلك باعتبار ان المستهدف بذلك هي بيئات خارجية، وان امتلكت واشنطن الكثير من الأدوات التي تجبر الأطراف المستهدفة هضم القرارات والمضي فيها. الا ان الامر لا يقتصر على ذلك. فطريقة التعاطي الاولي مع الإعلان، كانت شديدة الرفض، إضافة الى الدعوة للرد بوسائل مماثلة تصل الى حد التمرد، وهو امر لم تقبل او تتعود واشنطن عليه في كثير من المراحل، بخاصة ان الامر يطاول حلفائها قبل خصومها الدوليين الآخرين.
ان رفع الضرائب والرسوم الجمركية بنسب مختلفة وبمروحة واسعة شملت معظم الكيانات الدولية، بما فيها الدول التي لا تشكل صادراتها الى الولايات المتحدة احجاما ذات وزن عال، بينما لوحظ أيضا شمل هذه الإجراءات جزر ومقاطعات جغرافية لا وجود لحبتة تجارية معها، وفي معرض التندر على الاجراءات الأميركية ما طال بعض الجزر النائية في القطب المتجمد الشمالي والجنوبي حيث لا يعيش فيها سوى طيور البطريق.
وبصرف النظر عن الكيفية التي تناقش او تطلق فيها الأمور المتصلة بهذه الإجراءات، فان الاستفادة الأميركية وبحسب الكثير من الخبراء، لن تدر على الولايات المتحدة ما تطمح اليه، بل ان البعض يرى ان تكون السلبيات كثيرة والتداعيات متنوعة ومؤذية في أحيان كثيرة.
لقد تمكنت منظمة التجارة العالمية من إرساء قواعد واعراف دولية خلال العقود الثمانية السابقة تجعل من الصعب تجاوزها وإعادة النظر فيها، لجهة حرية الدول المطلقة في إرساء قواعد لا تتناسب او تتماثل مع ما ارسته من قواعد شارعة على مستوى التبادل التجاري الدولي، لاسيما وان طموح المنظمة يصل الى حد الغاء الحمايات الجمركية للدول، وترك التبادل التجاري مفتوحا دون أي حواجز او معوقات، وهذا ما حاولت واشنطن تحديدا السير فيها في الحقب السابقة.
لقد واجهت الولايات المتحدة اعتراضا شديدا وعالي السقوف ذلك من اقرب حلفائها ومن بينهم الأوروبيين تحديدا، حيث تمت الدعوة لاتخاذ إجراءات مقابلة، وهي المرة الأولى التي تصل الى هذا المستوى، وبخاصة من بريطانيا وفرنسا على سبيل المثال لا الحصر، علاوة على بعض الدول الأخرى كالصين وروسيا والهند والعديد من الدول المنضمة الى منظمات تجارية ذات مستوى رفيع كمنظمة النافتا التي تضم إضافة الى الولايات المتحدة كندا والمكسيك، حيث سقف الرفض والانتقاد الكندي بدا غير مسبوق، سيما وان الرئيس ترامب لم يتوان عن الدعوة الى ضم كندا واعتبارها الولاية الواحدة والخمسين.
ان القرار الأميركي الذي يصور كزلزال اقتصادي لا تقل ارتداداته عن الانهيارات المالية والاقتصادية الدولية التي ظهرت في العقود السابقة التي ضربت الولايات المتحدة تحديدا، بدءا من ازمة 1929 وليس انتهاء بأزمة 2008، حيث عانت الوليات المتحدة في مؤسساتها العامة والخاصة من تداعيات تركت بصمات مؤذية على الاقتصادات المحلية والدولية.
ان القرار التنفيذي الذي اطلقه الرئيس ترامب، هو بمثابة اطلاق الرصاصة على القدم، فهي اول من ستصيب مطلقها، وهذا ما ظهر بشكل واضح في اليومين الاولين، عبر الخسائر غير المسبوقة في تعاملات البورصات، وهو امر لم يكن متوقعا ان يكون بهذا المستوى والحجم، سيما وان الاقتصاد الأميركي والتبادلات التجارية هو اقتصاد عالمي بكل معنى الكلمة، وليس محصورا بنطاق وطني او إقليمي محدد، فهل اصابت واشنطن بهذا الاجراء التنفيذي الجريء. اما ان تداعياته وارتداداته ستتوالى لتشكل أزمات دولية تنقل الساحة من صراعات تجارية واقتصادية الى صراعات عسكرية؟ ربما يبدو الاحتمال الثاني اكثر رجاحة، بعدما ظلت الصراعات التجارية بديلا عن الصراعات والحروب لعقود خلت.