المضمر والمعلن في المفاوضات الأميركية الإيرانية

ما حدث في لبنان وسوريا وغزة دفع إيران إلى تغيير كل أولوياتها وصارت طاولة الحوار في مسقط ممكنة.

قبل نصف قرن الا نيفا، شكلت ايران الركيزة الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، حيث أتيح لطهران لعب أدوار إقليمية وازنة، لجهة حماية المصالح الاستراتيجية لواشنطن. الان الامر تحول الى افتراق وعداء اثر الثورة التي أطاحت بنظام الشاه محمد رضا بهلوي، اذ تسارعت موجات العداء الى حد الاصطدام المباشر في العديد من الحالات.

وتشكل اليوم المفاوضات الأميركية الإيرانية غير المباشرة بداية، مفصلا جديدا في بيئة العلاقات البينية التي يحاول الطرفان التماس معالمها والبناء عليها، تحت عناوين معلنة كملف البرنامج النووي، الذي لا يعتبر في الحقيقة سابقة في بناء علاقات طهران الإقليمية والدولية، فالبرنامج النووي، سبق وان بدأ العمل به ابان حكم الشاه وتوقف بعد الثورة، إضافة الى عناوين مضمرة او اقله رفض طهران التحدث فيه بصوت عال، كالبرنامج الصاروخي وهو عمليا الأخطر في بيئة المفاوضات القائمة حاليا او السابقة، علاوة على وسائل القوة التي اعتمدتها ايران في دعم العديد من القوى في غير مكان من الدول العربية.

ففي السياقات التاريخية اقدمت واشنطن في العام 1984 بإدراج طهران على قائمة الدول الراعية للإرهاب، حيث أعلن الرئيس جورج بوش في العام 2002، أنّ إيران والعراق وكوريا الشماليّة تُمثّل "محور الشرّ"، وتزامن هذا التصريح مع اتّهامات لطهران بإدارة برنامج سرّي للأسلحة النوويّة. ثمّ في العام 2009 أعلنت كلّ من واشنطن، ولندن، وباريس أنّ إيران تبني موقعًا سريًّا لتخصيب اليورانيوم؛ وبعد سلسلة من المحادثات السريّة والمفاوضات المباشرة وغير المباشرة، توصّلت طهران ومجموعة 5+1 (أميركا، وفرنسا، وبريطانيا، وروسيا، والصين، وألمانيا) في فيينا في تمّوز 2015 إلى ما سُمّيَ الاتّفاق النوويّ JCPOA الذي وافقت بموجبه طهران على الحدّ من أنشطتها النوويّة مقابل تخفيف العقوبات الاقتصاديّة. إلّا أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحب من الاتّفاق في مايو/أيّار 2018 وأعاد فرض العقوبات القاسية على إيران، ووافق في ابريل/نيسان العام 2019 على تصنيف الحرس الثوريّ الإيرانيّ منظمة إرهابيّة، حيث أتى ردّ إيران في مايو من العام ذاته أنّها قرّرت زيادة إنتاج اليورانيوم المخصّب. أمّا إجراءات الرئيس فلم تقف عند الحدود السياسيّة والاقتصاديّة، حيث أعطى بتاريخ 3 يناير/كانون الثاني العام 2020 الأمر المباشر لتنفيذ عملية اغتيال اللواء قاسم سُليماني وأبو مهدي المهندس. إلّا أنّ تأزّمَ الوضعِ لم يمنع التواصل غير المباشر لاحقًا، حيث عقد الطرفان اعتبارًا من ابريل العام 2021 العديد من جولات المحادثات غير المباشرة في فيينا، عُلّقت في خريف العام 2022 بسبب رفض إيران العودة إلى نسبة التخصيب التي حدّدها الاتّفاق النوويّ بـ 3.67%، فيما كانت طهران قد رفعتها إلى 60%، وفي المقابل رفضت واشنطن رفع العقوبات عن الحرس الثوريّ وشطبه من قائمة المنظّمات الإرهابيّة.

تفاقمت العلاقات الأميركية الإيرانية وبدت شديدة التوتّر في منتصف العام 2023، حيث وصلت قوّات من المارينز إلى الخليج لحماية السفن التجاريّة، مقابل قيام الحرس الثوريّ بنشر طائرات وسفن وصواريخ في جزيرة أبو موسى. كذلك وقعت صدامات بين القوات الأميركيّة والفصائل الموالية لإيران في سوريا، في ظلّ الحديث عن رغبة أميركيّة في قطع طريق الإمداد من طهران إلى بيروت. إلّا أنّه بعد وساطاتٍ عُمانيّة قطريّة، تمّ الإعلان بتاريخ 10 أغسطس/آب 2023 عن التوصّل إلى اتّفاق يقضي بالإفراج عن مليارات الدولارات الإيرانيّة المُجمّدة في كوريا الجنوبيّة وتحويلها إلى أحد المصارف القطريّة مقابل تبادل مُحتجزين بين الدولتيْن. الأمر الذي انعكس إيجابًا على الوضع، ولكن مرحليًّا، وتحديدًا حتّى السابع من أكتوبر/تشرين الاول" وعملية طوفان الأقصى، حيث أنّ الصفقة والمحادثات المُحتملة حول العودة إلى الاتّفاق النوويّ جُمِّدت، لاسيما في ظلّ تأزّم الوضع في البحر الأحمر بسبب تهديد حركة أنصار الله للسفن الإسرائيليّة. ولقد استدعى هذا التطوّر، الى عقد مُحادثات سريّة غير مباشرة بين واشنطن وطهران في مسقط في كانون الثاني العام 2024، حيث طلبت الولايات المتّحدة من إيران استخدام نفوذها لوقف هجمات أنصار الله، لاسيما على الأهداف الأميركيّة في المنطقة، إلّا أنّ إيران اشترطت وقف إطلاق النار في غزّة قبل استخدام نفوذها.

في الواقع لقد أدى الزلزال السوري الى تغيير هائل في موازين القوى في المنطقة الامر الذي دفع الى عودة المفاوضات بين الطرفين الأميركي والإيراني في مسقط، ومن ثم تتابعت في سفارة مسقط في روما، والجديد فيها انطلاقها لاحقا على مستويين سياسي وتقني عبر لجان متخصصة، ما يعني ان ثمة بيئة قابلة للبناء عليها لاحقا، وسط رغبة مشتركة للتوصل الى اتفاق اقله البرنامج النووي عبر تدابير تزيل موجات القلق الإسرائيلية وتشرك اطراف دولية كروسيا والصين كضمان لابقاء ما يمكن التوصل اليه قابلا للحياة.

ثمة عناصر أخرى غير معلنة في المفاوضات الجارية من بينها البرنامج الصاروخي الذي سبق لإيران ان رفضت التحدث فيه في جولات المحادثات السابقة، إضافة الى دور ايران وبخاصة حرس الثورة في المنطقة ومستوى وكيفية التعاطي مع حلفائها، وهي قضايا تلامس قضايا شديدة الحساسية في الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة.

من حيث المبدأ، ان ظروف المنطقة المستجدة، دفعت طهران وواشنطن للبحث عن مسارات مشتركة بهدف التوصل الى تصور او حل في مهلة محددة مداها أواخر مايو القادم، وفي الواقع ان التدقيق في ذلك، يظهر توازي فرص النجاح او عدمه في التوصل لحلول مقبولة، بخاصة ان الفشل سيأخذ المنطقة وربما العالم الى حروب ونزاعات لن تتوقف عندها، لتشمل بقاع العالم بأسره، وهي ظروف ستكون تداعياتها كارثية على العالم للأسف.