التقارب الاميركي الروسي

من الصعب حصوله دون توافق مبدئي أميركي روسي، او اقله ترك الباب مفتوحا لاحقا على تفاهمات.

تخضع العلاقات الأميركية الروسية للعديد من الأسس، وهي بطبيعة الامر تختلف من حيث المبدأ للقواعد السائدة بين الدول بشكل عام، ومرد ذلك، أسباب ذاتية بينية، وأخرى موضوعية مرتبطة بعوامل ومحددات دولية أخرى. وايا تكن خصوصية العلاقة، فقد مرت بظروف متنوعة، كاد بعضها ان يعيد العالم لاجواء حرب عالمية ثالثة، ابان الازمة الكوبية مثلا، ورغم ذلك التشدد في بعض الازمات، كان ما يسمى الخط الساخن بين العاصمتين، دائم العمل بهدف وضع ما يمكن ان يطرأ في نصابه القابل للاستيعاب.

وعلى الرغم من تغير وتبدل العوامل التي كانت سببا في توتير العلاقات ابان الحقبة السوفياتية، الا ان سرعان ما ظهرت العديد من الأسباب لتعيد أجواء العلاقات ذات الطبيعة غير الودية، وبخاصة ما بعد العام 2000، حيث ظهر نهج حكم في موسكو، قاعدته الندية والمواجهة، بعد مرونة وهدوء العلاقات في العقد الأول لانهيار الاتحاد السوفياتي، وظهور ملامح الإمبراطورية الأميركية في مفاصل النظام العالمي.

وما اعطى انطباع المواجهة وجود فلاديمير بوتين على رأس السلطة في روسيا، ووضعه لمحددات سياسة خارجية اتسمت بالمواجهة مع السياسات الاميركية للرؤساء الاميركيين الذين تعاقبوا على السلطة والذين عاصروا الرئيس بوتين، وبخاصة بوش الابن ودونالد ترامب، حيث بدا توتر العلاقات مترافقة مع أزمات وازنة في المحيطين الإقليمي والدولي، كالازمة السورية والازمة الأوكرانية.

لقد شكل الدخول الأميركي المباشر في الشرق الأوسط في افغانستان ومن ثم العراق، بداية لعزل موسكو عن مناطق تعتبرها مدخلا حيويا لأمنها القومي، لكن اشتعال الازمة السورية فتح المجال لموسكو لتدخل مباشر عبر بوابة القواعد العسكرية في طرطوس وهو ما يشكل وصولا لاحلام موسكو في المياه الدافئة، مما أسس لقواعد اشتباك جديدة مع واشنطن في الشرق الأوسط، وعلى الرغم من ايجاد قواعد منضبطة نسبيا، الا ان انفلات الأمور من عقالها ظهر في المحيط الأوروبي عبر الازمة الأوكرانية وما اعتبرته موسكو مسا بأمنها القومي عبر حلف الناتو الذي اوقف بوجه التدخل العسكري الروسي المباشر في الازمة الأوكرانية.

ثمة وقائع مستجدة حدثت مؤخرا في النطاق الحيوي لكلا البلدين، حيث انهارت نظم وقواعد شبه منضبطة في الشرق الأوسط، كما حصل من سقوط لنظام بشار الأسد، ونتائج للحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، مما أعاد تركيبات جديدة في موازين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، وهو امر بطبيعة الحال لم يكن من حيث المبدأ لمصلحة موسكو كما كان سائدا من قبل، اقله البدء في الحديث عن مصير القواعد العسكرية الروسية في الساحل السوري، وموقع كل من ايران وتركيا وإسرائيل في التركيبة الجديدة التي بدأت مظاهرها تتشكل.

وفي ظل هذه الوقائع المتسارعة، ظهرت أيضا وقائع اوروبية أخرى على قاعدة الازمة الأوكرانية، التي شهدت نشاطا اميركيا واضحا باتجاه محاولة التوسط مع موسكو لانهاء الحرب، وهو ما ظهر مؤخرا في لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الاوكراني فولودمير زيلنسكي الشهير، الذي اعتبر سابقة دولية في لقاءات رؤساء الدول، والذي كان نتيجته الضغط الأميركي على زيلنسكي للقبول بوجهة النظر الأميركية التي تعتبر من حيث المبدأ لمصلحة روسيا أيضا.

هذه الاحداث المتسارعة، رافقها اتصال هاتفي بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، الذي استمر ساعة واتسم بالايجابية وصنف كاتصال يبنى عليه لاحقا، في اطر تنفيذية يبدو ان الطرفين الأميركي والروسي متحمسان له، والذي شمل مروحة واسعة من قضايا تتعدى الازمة الاوكرانية لتشمل البحر الأسود والشرق الأوسط وغيرها.

ثمة من يعتبر ان ما جرى في الشرق الأوسط مؤخرا، من الصعب حصوله دون توافق مبدئي أميركي روسي، او اقله ترك الباب مفتوحا لاحقا على تفاهمات وربما اتفاقات لاعادة ضبط قواعد اللعبة في العديد من المناطق الساخنة التي تهم البلدين، وهو امر رفع شعاره الرئيس ترامب لانهاء الحروب، وإبراز عصر التسويات بصرف النظر عن النوايا او القدرة على التنفيذ بشكل يتوافق مع مصالح الأطراف الفاعلة الاخرى.

ان الوقائع والمعطيات السائدة وتحديدا في الشرق الأوسط، الذي يوصف وكأنه على صفيح بركان متفجر، تجبر الطرفين على البحث عن مشاريع تسويات واتفاقات مبدئية في محاولة للتخفيف من النتائج المحتملة لتطور الاحداث، لاسيما وان إعادة الأوضاع المتفجرة تنذر بعواقب لا يستطيع احد منفردا احتوائها.

وما يثير الانتباه في هذا السياق، الاندفاع الأميركي تجاه ايران ومحاولة اطلاق مفاوضات ثنائية وصفتها طهران بأنها ضغوط أميركية غير مسبوقة بما يتصل بالملف النووي والذي اعطته واشنطن فترة شهرين لانجازه، كل ذلك يظهر برودة مواقف كل من موسكو وبكين من سياسة واشنطن تجاه حليفتهما طهران وملفاتها، وهو امر يبدو غريبا بعض الشيء.

وخلاصة القول، لطالما اتسمت العلاقات البينية الروسية الأميركية، بمظاهر التباين التي وصلت في بعضها الى مستويات التوتر وسياسات حفة الهاوية، وان ظهرت بعض مظاهر الدفء التي لا تدم طويلا، فهل ما يسود العالم حاليا سيجبر الطرفان على التوصل لتفاهمات، هما بحاجة لها، بخاصة ان زلزال الشرق الأوسط لن تستوعب وتحتوى ارتداداته سوى باتفاقات ولو شملت مسارح دولية أخرى ومنها أوكرانيا.