نوافذ القصة القصيرة عند تشيكوف العرب

محمود البدوي كتب مئات القصص، ولم يكتب إلا القصة القصيرة، وظل مخلصًا لها يعبر بها عن نقداته للمجتمع وآرائه المنوعة.
أدركت قيمة الحرية بالنسبة للإنسان، فهو الذي يشوه حياته بيديه ويجعل حوله القضبان
البدوي كان يثق بأصالة تلك الطبيعة المصرية ويبعث ببارق من الأمل

محمود البدوي - تشيكوف العرب وراهب القصة القصيرة وفارسها المغوار - كتب مئات القصص، ولم يكتب إلا القصة القصيرة، وظل مخلصًا لها يعبر بها عن نقداته للمجتمع وآرائه المنوعة. نال جائزة الدولة التقديرية 1986، وجاء بلائحة حيثيات منحه الجائزة في سنة وفاته أيضًا كأنها تتويج لعمله القصصي المضني: "في بعض قصصه نزوع نحو النقد الاجتماعي ونقد الواقع بواسطة اختيار بعض الأحداث الجزئية التي تكشف عن عيوب أو قصور".
وإذا كان للنصوص نوافذ يطل بها القارئ داخل بيت النص، أو العبارات اللافتات التي تقدم ملخصًا للقصدية، أو بمعني أكثر شمولا تلك الجواهر المنثورة بالنصوص الإبداعية، التي تتلألأ بعبارات من البوح الحكيم والتي يعشقها ذواقة الكلمات العذبة، ونقطف - ونعقب بالتحليل من رحيق الكتب بـ "أعمال محمود البدوي الكاملة" الصادرة بهيئة الكتاب - عبارات من قصص محب القصة القصيرة وأحد أعلامها الأفذاذ.
وأولى النوافذ حب بعض القصص للكتب كعهد الفنان المخلص: "فمنذ سنين وأنا أقلب في الكتب في يدي وألمسها برفق وأسويها وأمسح عليها بحنان .. حتى أصبحت قطعة من لحمي .. أنني أري بين سطورها النور الذي يبدد كل ظلام يعم البشرية". (ص 215).
يصف الإنسان في قصصه أنه يحمل النقيضين وأنه الجاني والضحية في آن واحد: "وأدركت قيمة الحرية بالنسبة للإنسان، فهو الذي يشوه حياته بيديه ويجعل حوله القضبان" (ص 335) وعلى ذات النسق يقول: "إننا لا نقاوم الشر .. بل نغذيه .. والحرب من صنع أيدينا نحن البشر". (ص 589). 
وفي قصة أخرى يكررها ويضيف "وهي الحرب جنون مطبق ودمار شامل" (ص 262) عبارة تثير الأسي وأين إذن أهل المقاومة الأبرياء، ولا يتركنا القاص هكذا، فيقول: "عجبت لطبائع هؤلاء الأشرار .. وتغيرها .. وتحولها لأتفه الأسباب من الشر إلى الخير .. وقد يحدث النقيض .. وصورته بالمعدن النفيس الذي يعلوه التراب .. فالذي يصل إلى قرارة هذه النفوس هو الذي يزيل هذا التراب .. ويجلو النفس البشرية .. ويبرز فضائلها للعيان". (ص 546).

وقصص البدوي نجد بها الثقة بالطبيعة الإنسانية حين تثار للخير عبر الإيمان بالفعل للتغيير، ففي قصة المنارة وهي منارة معنوية للإصلاح والتغيير يقوم به بطل القصة الطبيب، تقول له زوجته: "كيف تعيش وسط هؤلاء الوحوش؟ فيجيب: هذا لا مناص منه .. لأعيد إليهم إنسانيتهم .. التي سلبت منهم علي مدى السنين" (ص 320). إذن يجب قبل أن تتهم الشعب بفساد المعاملات والقسوة وانحدار الأخلاق العامة، قدم إدانتك للمكر الداهم أناء الليل وأطراف النهار يحيل الطيبيين إلى ضباع مفترسة.
والقوس العاطفي يتجلى بقصص البدوي، نجده في شخصية قصة "جسر الحياة" حيث أبدله الألم إنسانًا جديدًا: "وكل الناس الفقراء البسطاء الذي يحادثهم ويتعامل معهم يعاملونه بود صادق ولطف (..) ووجد نفسه ينظر إلى الناس في ألفة طبيعية ومودة إنسانية قبل الحادث (..) تغيرت نظرته للناس والحياة .. وأدرك معني الألم .. والعطف الإنساني والرحمة .. وتفتحت عيناه على الجمال والخير (..) كان يجري في الدوامة ويدور حول نفسه .. فأصبح يسير ببطء .. ويتأمل في الكون والحياة ويعني بسعادة الآخرين" (ص 308 بتصرف).
كان البدوي يثق بأصالة تلك الطبيعة المصرية ويبعث ببارق من الأمل: "وتحرك الرماد .. تحرك الشيء الذي كان يحسبه المتشائمون رمادًا خامدًا لا نفع فيه ولا خير يرجي منه .. تحرك فإذا به نارًا تتظلي" (ص 296). وفي قصة "الماس" يظهر كيف أن المحنة أظهرت طيب الأرض: "أظهرت الجواهر الحقيقية .. أظهرت الماس الكامن في أعماقها .. أظهرت الجواهر النقية الكامنة في النفوس والتي كان يغطيها التراب". (ص 189).
وهو يؤمن بالطبيعة المصرية الخيرة، ويرى أن هناك من يطرأ عليها ليشوه لها وجهها ويفسر تفسيرًا مقنعًا هذا التحول أو ما يسمى القوس العاطفي بتبدل قيم الشخصيات وتحولها وتغيرها، ففي قصة "المجداف": "ولقد كنا نحس بالسعادة والهدوء فلما جاء هذا المسلح .. شوّه وجه الحياة الجميل في وجوهنا .. وأشاع فينا الخوف والرهبة .. ونظرت إلى سحنته وكلها صرامة .. وعدت أقارنه .. بالوجوه الحسنة السمحة التي كانت منذ ساعات في مضيفة الشيخ عبدالرحيم .. خاشعة صامتة متفتحة للحياة (...) ثم نظرت إليه مرة أخرى .. وكان وجهه أسمر .. وعيناه متقدتين .. والغرور يطل من جلسته .. والحقد أيضًا .. وصلف الشباب وكبرياء الجهل .. وقارنته بالناس الطيبيين الذين رأيتهم منذ ساعات في مضيفة الشيخ عبدالرحيم. وساءلت نفسي كيف يخرج منهم مثل هذا الشاب؟ إنه شوك في الزرع الطيب .. وهو الذى يسود وجه الريف .. ويحجب عنه ضوء القمر". (ص 369 بتصرف).
ويقدم في القصة البارعة ذاتها، ما أسميته متعة الأقلام بالرحلة إلي بلد الله الحرام، فقدم نموذجًا قصصيًا لتأثير الرحلة المباركة على وجدان القاص ودور الرحلة شعبيًا في أفئدة المصريين الطيبين، عندما ذهب الراوي يقدم التهنئة لصديقه الشيخ عبدالرحيم: "وبلغت القرية في العصر .. وكانت النساء تزغرد .. والدفوف تدق والرجال يلعبون لعبة التحطيب ويرقصون الخيل في السامر .. وكان الرصاص ينطلق من جميع أنواع البنادق. ولم تكن هذه التحية الحارة موجهة إلى الشيخ عبدالرحيم وحده .. فقد عاد معه إلى القرية خمسة آخرون من الحجاج في نفس الفوج. ومع أنني جئت أهنئ وأبارك في اليوم الرابع من وصول الحاج عبدالرحيم .. ولكن المضيفة كانت عامرة بالمهنئين والمتبركين .. وفي خلال الساعات القلائل التي قضيتها في "المندرة" قصّ عليهم الحاج عبدالرحيم .. قصة الحج ثلاثين مرة. قصّ عليهم ركوب الباخرة من السويس .. والطواف .. ورمي الجمرات .. والفداء ووصف لهم المدينة وقبر الرسول (عليه الصلاة والسلام) فتندت عيون الفلاحين بالدمع .. وخشعت نفوسهم وكنت تستطيع في هذه الساعة أن تمزق جلودهم بحد السكين .. وأن تسلبهم كل ما في جيوبهم وهم لا يحسون بك ولا يشعرون" (ص 364 و365). 

معظم أحداث قصصه من الريف المصري
إننا لا نقاوم الشر 

وفي قصصه يقدر الريف ويحبه حبًا جمًا ويرى فيه ارتباطًا بطبيعة المصري المعطاءة، ففي قصة "غرفة على السطح" يبدي صديق بطل القصة تخوفه من الفلاحين فيرد عليه: "أنهم طيبون بسطاء. وعيبك أنك لم تصل إلى قرارة نفوسهم .. ولم تعرفهم على حقيقتهم لأنك بعيد عنهم .. أنت تنظر إليهم من بعيد كشيء مخيف .. وهذا لا يوصلك إلى شيء أبدًا". (ص 361).
وفي القصص تمجيدًا للمقاومة الشعبية وتأريخًا لكفاح الشعب المصري النبيل في منافحه أعدائه عندما يتدفق هؤلاء البسطاء الطيبون فيقدموا أروع أمثلة الفداء، ففي قصة "عند البحيرة": "كانت المدينة الباسلة تقاوم الغزو بقلب واحد (..) وظلت البيوت صامدة ومشرقة في وهج الشمس .. ثم أخذت كرات من اللهب تسقط عليها .. وأخذت القذائف تدكها وبين الأطلال (..) كان الأهالي يتجمعون من جديد ويقيمون المتاريس" (ص 340 بتصرف).
وعلى النقيض نجد المدينة ساحة للوحشة والتوحش، والغياب الإنساني الصعب، في القصص دائمًا نجد أناسا غرباء تائهون في الطرق والفنادق (النزل) والبيوت والقطارات، يجنون مشقة الطرق وغبار المسافات ومتاعب الأجساد والقلوب، ينقبون عن ذواتهم يواجهون مصيرًا مخيفًا كأنها رحلة الحياة ومأساتها: "وكان الجو كله يوحي بالكآبة والوحشة ورهبة الصمت" و"الضوء شاحبًا وقليلًا في الخارج والداخل". (ص506). 
وفي المقابل يشير إلى أننا لا نتطلع إلى السماء والفضاء المفتوح رغم أنه دواء للنفس فبطل قصة "جسر الحياة" يبقي شرفته مفتوحة ويطل ببصره: "ويظل معلقًا بالنجوم يتأملها ويتابع سيرها وأفولها وعجب فكأنه يراها فوقه .. لأول مرة .. فقد صرفته الحياة بمشاغلها والعراك في سبيلها عن التطلع إلى السماء". (ص 303).
وكان القاص قد أولى عناية فائقة بنقل الهامش الاجتماعي ليكون متنًا ابداعيًا، بل يتعاطف مع الريف المصري الصميم، كما قيل في مبررات منحه الجائزة الكبرى أيضًا: "وقد اختار معظم أحداث قصصه من الريف المصري في إقليم الصعيد بتقاليده وأخلاقيات الناس فيه والعلاقات السائدة بينهم"، وينظر بشفقة لرجل المدينة المسحوق: "لم أكن أدري كيف يعيش الرجل في القاهرة .. هذه المدينة الكبيرة .. القاسية التي تطعن الفقير وتسحقه سحقًا". (ص 482).
وأخيرًا يرسي القاص في قصصه مبادئ لراحة النفس من ثباتها على قيمها النفسية: "وقد تعلمت الحذر والحيطة من الناس والتسامح .. كما عرفت قيمة الحرية في العمل والكفاح والإنتصار على الحياة". (ص 338).