نور جعفر يحوم في الحكاية لا حولها

الفنان التشكيلي بنصوصه البصرية يرفع النقاب عن وجود ولادة شكل من اللاشكل وهي حالة بحث عن المعنى من اللامعنى.

اللوحة الفنية جثة هامدة، لا تستيقظ من موتها إلا حين الإقتراب منها وقراءتها، حينها تبدأ بالنبض وبالشكل الذي فيك لا فيها، مقولة أرددها كثيراً، فالقارئ هو الذي ينفخ الروح فيها، لا أعرف بالضبط لماذا تذكرت عبارتي هذه وأنا أطوف بين أعمال نور جعفر، وعلى نحو أخص تلك الأعمال النابضة بدمشق، ميثاق الحياة ومفاتيح فهمها، بحاراتها القديمة الكئيبة الآن روحاً وجسداً، بجدرانها المتصدعة الحزينة الدامعة على الذين غادروها رغماً عنهم، بأبوابها المعرشة بالياسمين والتي ترسل عبقها للبعيدين وراء الحدود، بأزقتها الضيقة، الواسعة، الطافحة بالحنين والشوق لعشاقها وما أكثرهم، الذين يطوقون قلوبهم بحبها وبمعطياتها البصرية التي تؤكد على حضورها الدائم في الزمكان.

فدمشق ونور، كل منهما يسكن الآخر وفق تماسك مرتبط بالقسمات وتعابيرها، وإنسجام روحي يلاحظ فيه نوع من الدروب الضيقة في بنية عتيقة تحتوي في داخلها وعلى حوافها مجموعة غنية من القيم المعرفية المتراكمة والتي منها يبدأ نور بإطلاق شرارة الإشعال في طاقته التعبيرية ليفجرها لاحقاً في ثيماته الرئيسية على شكل إطلالات ممزوجة بعناصر محكومة بالحركة وإن من خارج الأسوار والأسلاك.

نور بنصوصه البصرية يرفع النقاب عن وجود ولادة شكل من اللاشكل وهي حالة بحث عن المعنى من اللامعنى، وهذه رغبة مسكونة فيه وبها يشخص إعتباراته وذلك بتحديد أبعاده الزمانية كممكنات أساسية لتبرير ضبط المضامين بصياغات مشخصة ولكن بقيم تعبيرية تجريدية تمتلك كل القدرة للتعرف على آفاق متنوعة جميعها تحيله نحوالواقعة الدلالية دون أن تستدعي تلك القيود التي قد تفرض على النسق نوعاً من المسارات بالغة الغنى، وفي هذا تنظيم لوضعيات يمكن تحققها اذا ما قام نور بربطها بحكاياتها التي هي بالتالي حكايا دمشق القديمة الأليفة، فالأمر يتعلق بتنشيط الحنين وتفعيل جماحه وجماح جماله بمفاهيم خاصة، مفاهيم تستنطق الخلاصات الممتدة في ذاته بداية، وفي واقع أشيائه لاحقاً، فتلك هي تشكيلة نور البصرية التي تعتمد على مفردات دمشقية منعشة من ذاكرته البصرية الغارقة بدمشق وأبجديتها، فيتعامل مع الألوان بوصفها إدراكات ثقافية، وإيقاعات طيفية في حالتها القصوى، فبشيء من التصورات من خارج أصل الأشكال ينتقل نور بهدوء بارد حين يمنح للأزرق مساحات من الكلام المسكون بالصمت تعبيراً تشكيلياً قادراً على تمازجها بالحالات التي ستؤدي على نحوما إلى خلق تداخلات روحانية بين ضفتيه، بين السكون والحركة، بين الداخل والخارج، بين النقطة والخط، وفق سيرورة تفسر إنشغالاته من وجهة نظر معينة ومن زاوية محددة وضمن سيرورات أخرى بإمكان نور رسم معالمها الكبرى بكثير من الحيرة مع قليل من القلق، فعينه المقيدة بنوافذ وأبواب وتفاصيل المكان تنتقي مقامات سادت في حكايا الزمن لعقود طويلة، فنور وبإطناب الأزرق يمارس وجوده وفعله بطريقة مغايرة تحوم في الحكاية لا حولها، وبإسترخاء وتآلف معها يسمح لمتلقيه بالإستمتاع بمسك الروح في تبعات سردياته اللونية دون وكيل مفوض، فهويكاد يسجل وبشغف كل إستنتاجاته بإعتبارها سرد غير ممل للحكايا ذاتها، فيسوقها ويحيط بها ميثاقاً من المعرفة الذوقية ليشفي غليل عشقه وحنينه وحبه.

كثيرون الذين قاربوا دمشق وحواريها.

كثيرون الذين شغلتهم دمشق وشغلت أصابعهم وبالهم وجهاتهم كناظم الجعفري الذي جاوز أعماله عن دمشق على خمسة آلاف عمل، وسهيل معتوق الذي كرس جل أعماله لدمشق القديمة، وعبدالرحمن مهنا، ومحمود جلال العشا، وماريو موصلي، وممدوح قشلان وعزالدين شموط وهيثم الكردي، وعصام الشاطر وأحمد إبراهيم وزياد الرومي ووحيد قارصلي وغازي الخالدي وآخرين، ولكل منهم  نفسه المنحازة لحقله من موقع مبني على تصورات مستمدة من تجربته هو، ونور جعفر يضاف هو الآخر إلى تلك القائمة النابضة بدمشق وقديمها، وله ما يشهد على شعوره بتلك النبضات الناقلة للروح حتى ظهور ما يكشف نصوصه وهي تهم بالتفصيل نحو الإنجاز والإنتاج بنكهة تخصه هو، فمقاربة نور لمفردات دمشقية فيها من الجرأة ما يدفعه إلى جعل الهامش مركزياً وعلى نحو أكثر حين ينسج من برودة الغرب قميصاً أزرقاً يلبسه لدمشق محركاً عمقها بحثاً عن تضمينات تفجر نزفها الذي لا يهدأ، مخففاً مساحات الوجع ككيانات لا تكتفي لذاتها بل تنطق دفأها كآثار للغائبين في روحها وكأنها تحول جوهرها لبصيرة يمكن فهمها بعشق وحب.