'هجان' نقلة نوعية في صناعة الأفلام السعودية

ما الذي يمكن أن يتوقعه مشاهد مصري أو أوروبي أو أميركي حين يدخل صالة عرض، لمشاهدة فيلم عن سباقات الجمال؟

نجح صناع الفيلم السعودي العالمي "هجان" في الاستحواذ على انتباه المشاهدين، سواء الذين حضروا العرض الخاص للفيلم في مهرجان تورنتو الدولي السينمائي أحد أشهر مهرجانات الأفلام في العالم في دورته الـ 48 التي عقدت في سبتمبر/ايلول 2023 ضمن فئة أفلام الاستكشافاتDiscover، الأمر نفسه تكرر لدى عرض الفيلم بقسم الروائع العربية في النسخة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي الذي احتضنته جدة في ديسمبر/كانون الاول 2023، وسط ترحيب وتصفيق حاد من النقاد وعدد كبير من نجوم الفن من أنحاء العالم، وذلك  قبيل طرحه للعرض بالصالات السينمائية في السعودية اعتبارًا من 18 يناير/كانون الثاني 2024، تزامنًا مع احتفال المملكة باعتماد هذه السنة عامًا للإبل، حيث تعد الإبل موروثًا ثقافيًا متميزًا في المملكة العربية السعودية ولدى سكان الجزيرة العربية بالكامل.

تدور قصة الفيلم في إطارٍ درامي، عن علاقة صبي صغير بناقته "حفيرة"، إذ يتناول الفيلم قصة مطر وأخيه غانم اللذان يعيشان في صحراء منطقة تبوك (شمال غربي المملكة العربية السعودية)، وبينما يشارك غانم في سباقات الهجن، يلحق به أخيه الأصغر "مطر" في الاتجاه لمنافسات سباق الهجن للاحتفاظ بناقته حفيرة، بعيدًا عن استغلال مالك الهجن الشرير جاسر؛ حيث يصبح على الصبي مطر بذل أقصى ما لديه لإنقاذ حياة حفيرة، في دراما مليئة بالتشويق.

فكرة الفيلم للممثل والمخرج السعودي ماجد زهير سمان، وإخراج أبو بكر شوقي الذي كتب له السيناريو مع عمر شامة ومفرج المجفل، والقصة لأحمد الزغبي وزينب غريب، وهو من إنتاج مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) بالتعاون مع فيلم كلينك، والمنتج المصري محمد حفظي، وبطولة عبدالمحسن النمر، إبراهيم الحساوي، عمر العطوي، الشيماء طيب، عزام النمري وتولين بربود.

سباقات الهجن

لكن ما الذي يمكن أن يتوقعه مشاهد مصري أو أوروبي أو أميركي حين يدخل صالة عرض، لمشاهدة فيلم عن سباقات الجمال؟ تلك السباقات المعروفة في دول الخليج العربية وتقام لها المهرجانات على نطاق واسع، إلا أنها تمثل عالمًا سينمائيًا جديدًا بالنسبة لشرائح واسعة من الجماهير العرب والعالميين، وهنا تكمن صعوبة التقاط الموضوع وتحويله لقصة سينمائية بلغة خاصة تحمل من المتعة والإثارة والتشويق الكثير، الأمر الذي نجح فيه عن جدارة المخرج المصري أبو بكر شوقي، فقد قدم شوقي صاحب فيلم "يوم الدين"- الذي شارك في مهرجان "كان" السينمائي الدولى2018-  لغة سينمائية لا تملك إلا أن تتوحد معها، فتعيش مع أبطاله معاناتهم وآلامهم، خاصة وقد انتصر الفيلم بحيادية لقيم الخلاص والحرية، في مواجهة الظلم وعدم النزاهة التي قد تشوب بعض الممارسات في كواليس سباقات الهجن، وهو ما قدمه صُناع الفيلم بمتعة سينمائية ملحوظة، ساهمت فيها جميع مفردات العمل السينمائي الضخم من ملابس مناسبة لبيئة الصحراء والسباقات وديكورات غير متكلفة وموسيقى تتصاعد مع الأحداث وحبكة درامية متقنة، وكلها عوامل ساعدت على تمكن المخرج من مفردات عمله بالكامل، رغم أن مكان العمل هو اتساع الصحراء، وهو ما يفسر لماذا كان الاسم المبدئي للفيلم "بحر الرمال"، وذلك قبل الانتهاء من كتابته، لكن مع بداية التصوير تم الاستقرار على اسم "هجان" باعتباره الأنسب للأحداث ويعبر عنه بشكل كبير عن روح الفيلم وموضوعه وهدفه.

كواليس العمل

الصعوبات التي أحاطت بصناعة الفيلم ابتداءً بفكرته وموضوعه، ومرورًا باللهجات ثم تحدي التعامل مع وجوه تقف أمام الكاميراللمرة الأولى، إضافة للتعامل مع الجمل بطل العمل الأول بتقلباته المزاجية، وفي بيئته الطبيعية الصحراء حيث السباقات والمنافسات، سواء سباق الوادي، أو سباق الصفوة أعلى مستوى في السباقات بحسب قصة الفيلم، وكلها تحديات فرضت على المخرج أبو بكر شوقي أن يقدم معالجة خاصة، ولغة سينمائية عالمية، تمكن من خلالها التغلب على كل هذه الصعوبات.

توظيف الحيوانات تيمة شائعة في السينما العالمية ومعظم أفلام هوليود وبوليوود، سواء الخيالية منها مثل فيلم الجميلة والوحش، أو تلك التي خلدت علاقة الإنسان بالقطط والكلاب، في إبراز قيم الوفاء، أما السباقات ورعاة البقر فكانت الخيل ذات الحظ الأكبر من الظهور السينمائي في تلك الأعمال، مع إظهار لانهمار دموع بعض الخيول لدى موتها وانتقام أصحابها، في وقت مثلت الغربان والبوم والخفافيش نظير شؤوم، واستخدمت الغوريلا مثلاً في فيلم كينج كونج والقردة في قراصنة الكاريبي لجون ديب، بينما تم توظيف الغزالة تعبيرًا عن الفريسة الوديعة، والحمار تعبيرًا عن التحمل والغلب والقهر، في وقت تعبر الأسود والنمور عن رمزية القوة، أما أفلام بوليود الهندية فسيطرت الأفيال والتماسيح والأفاعي على أغلبها، رمزًا للقوة وأداة للبطش في معظم الأحيان، في وقت جاءت حيوانات أخرى حقيقية أو اصطناعية بأحجام مبالغ فيها، كمفردات سينمائية لتحريك  الأحداث، وإدارة الصراع بين البشر والكائنات الأخرى كجيوش النمل والجراد والنحل وأسماك القرش التي ظهرت في أكثر من عمل سينمائي عالمي.

الحبكة والعمق

غلب على الفيلم سرعة الايقاع، المستمدة من سرعة السباقات وحرارة منافسات الهجن، وهو ما أنعكس على حبكة الفيلم، إذ تحول فجأة الصبي"مطر" من خياط للملابس، إلى هجان بارع يسابق بناقته حفيرة ويتصدر السباقات، دون أن يلمس المشاهد حيثيات تلك النقلة الكبيرة وما تتطلبه من تدريبات تؤهله لخوض هذه السباقات الحافلة بالمتعة والإثارة والمخاطرة إلى حد الموت، ويمكن قبول هذه النقلة الفجائية، باستيعاب الشغف المسيطر على مطر  الذي وجد نفسه وسط سباقات الهجن وتحت سيطرة جاسر، ما جعله يواجه صراعاً عميقاً من أجل الحرية والخلاص، والنجاة بنفسه وبناقته حفيرة التي أصبحت عرضة للبيع أو القتل على يد أحد أبطال العمل " جاسر" أو عبد المحسن النمر، أحد هوامير السباقات أو مصاصي الدماء، الذي يسعى بكل السبل المشروعة وغير المشروعة للفوز في سباقات الهجن، فهو تارة يدفع بفتاة ملثمة لخوض السباقات، بالمخالفة لقواعد لجنة منافسات الهجن، ومرات يؤجر متسابقين لعرقلة أي هجان ينافس الهجن التي يمتلكها، وبحيث يمنعها من الفوز.

بناء الشخصيات

نجح المخرج أبو بكر شوقي باقتدار في بناء شخصيات العمل، في بعدها النفسي والفلسفي، ابتداءً من اختيار أسماء المشاركين في الفيلم، بأسماء محملة بالدلالات، فغانم يحمل بشارات النصر والفوز، ومطر يحمل كل معاني الخير والبشرى في تضاده مع اتساع الصحراء القاحلة، ويقف جاسر معبرًا باسمه وهيئته وتكوينه وضحكته وبعض أسنانه الذهبية عن الشر في أقسى درجاته، في المقابل يقف عابد أو إبراهيم الحساوي، معبرًا عن الخير ومساعدة ودعم الصغار في السباق، أما سارة زوجة جاسر والتي جسدت دورها باقتدار الفنانة الشيماء طيب، فأجادت التمثيل دون صخب أو ثرثرة حوارية مطولة، حيث اعتمدت أسلوب التمثيل بحركة العين وقسمات الوجه الحادة، متحدية جسارة وظلم زوجها ومعبرة عن شموخ البدويات، وكرامتهن العالية دون انكسار، نلحظ ذلك مرارًا وتكرارًا في جميع مشاهدها مع زوجها جاسر، ويعكس صالح  الشرير الصغير والذراع اليمنى لجاسر خفة الظل والكوميديا  في العمل وهو الدور الذي لعبه باقتدار الفنان الكوميدي محمدهلال، بينما نجح المعلق الصوتي على سباقات الهجن رايد الضيوفي بخفة ظله في إقناع المشاهد بدوره، وجاءت الناقة باسم حفيرة أي البئر الواسعة دلالة على الهوية وارتباطًا ببيئة الصحراء واتساقًا مع مجمل العمل الفني، وتبقى الندية في جميع حوارات  الصبي مطر  صاحب ال15 عامًا مع جاسر طوال الفيلم، علامة استفهام أخرى على تعامل الأطفال الصغار مع الكبار في بيئة الجزيرة العربية، المعروف عنها احترام الكبير وتقديره لأبعد الحدود.

لغة سينمائية خاصة

"سباق الهجن مجازفة، كنا هجانة واليوم هجانة، وإلى الأبد"، من الجمل الحواريّة الرائعة التي طالما رددها جاسر في حواراته مع مطر حتى وإن كانت مجرد ادعاء كاذب من جانب جاسر الذي اعتاد الفوز في سباقات الهجن بطرق غير مشروعة، حتى تعقد الموقف وافتضح أمره في نهاية الفيلم.

استحق هجان التصفيق الحار من الجمهور الذي شاهده في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، وكما سبق وأشرت يمثل الفيلم نقلة كبرى في صناعة الأفلام وصناعة السينما السعودية، نقلة تحسب لصناع الفيلم ولمركز الملك عبر العزيز الثقافي العالمي إثراء الذي خلال فترة قياسية وجيزة على إنتاج أفلام بجودة عالية، إذ اعتمد على فريق عمل يمتلك قدرات عالمية، وله مشاركات عالمية في مهرجانات ومسابقات، إضافة للتوظيف البارع للصورة والمشهد والديكور والموسيقى البديعة لأمين بو حافة، الذي ينسجم مع روح العمل الذي لم يشارك فيه كاست كبير، وانحسر طيلة عرض الفيلم قرابة الساعتين في مكان محدد بدقة هو بيئة الصحراء الشاسعة، ما بين الرمال والخيمة الزرقاء وبعض الجبال والبيوت البدوية البسيطة هنا وهناك، وجميعها انسجمت في تقديم لوحة فنية تعبر عن روح العمل وتخدم سياق الفيلم وأهدافه، ومن المتوقع أن يحظى هذا الفيلم المختلف، بحفاوة جماهيرية كبرى ومشاركات دولية أوسع في مهرجانات ومسابقات تالية خلال العام 2024.