هدف الإسلاميين في الجزائر

الفرص المواتية للتيار الإسلامي في الجزائر تمنح أنصاره في شمال أفريقيا أملا في البقاء كاد يختفي بفعل الضربات التي تعرضوا لها.

الجزائر أول بلد عربي فتح أعين المنطقة على مخاطر القوة السياسية للتيار الإسلامي، منذ حوالي ثلاثين عاما، عندما اكتسحت جبهة الإنقاذ الانتخابات البرلمانية في مرحلتها الأولى. وهي أول دولة برعت في منع صعودهم وعدم تمكينهم من السلطة، وفي مقدمة من خاضوا حربا شعواء ضد المتشددين، ثم المصالحة معهم. كذلك أول من ابتكرت صيغة رمادية للاستجابة لمطالب المتظاهرين بعدم التمديد لرئيسها لولاية خامسة.

التعايش الظاهر بين الجيش والتيار الإسلامي في الجزائر، أثر في تقديرات من اجتهدوا في رعايته وحاولوا تقديمه كنموذج يمكن ترويجه في المنطقة العربية. وبدت الحكومة في نظر كثيرين غير متصادمة مع الإسلاميين، وتتقبل حضورهم الواسع في دول مجاورة. وأدى تبني هذا الموقف إلى تباعد في المسافات السياسية حول ليبيا مثلا، بين الجزائر ودول إقليمية مهمة، ترى فيهم كتلة واحدة خطرة وبدون تفرقة بين متطرفين ومعتدلين.

المظاهرات التي اندلعت في الجزائر كشفت عن الوجه الحقيقي لهذا التيار، الذي حشد أنصاره لنزول الشوارع والميادين، ليس لاسقاط نظام حكم الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة أو رفض الولاية الخامسة بسبب مرضه، بل لجني ثمار سياسية، أو اسقاط الدولة برمتها، فأحد الشعارات التي رفعها المتظاهرون المدنيون، وهو "احكمونا بغير هذا الرجل"، أشار إلى الحرص على هياكل الدولة، بينما لا يهم هذا التيار سوى الوصول للسلطة، ولو جاءت على جثث الشعوب، أو تعرضت الدول لمخاطر أمنية جسيمة.

تواري المسئولية الوطنية أحد أمراض التيار الإسلامي، وهو ما جعل أصحابه يتغذون سياسيا على الاحتجاجات العامة والفئوية، لأنهم أكثر تنظيما وقدرة على التعامل مع النتائج السلبية للمظاهرات لحين التوصل لحلول توافقية تراكم مكاسبهم النوعية.

تجارب بعض الدول العربية مع الثورات والانتفاضات جعلت الكثير من المواطنين يتصرفون برشادة واضحة في التعامل مع المظاهرات الجزائرية، ووضعوا مطلبا واحدا يتعلق أساسا بحالة الرئيس، وبدت المؤسسة العسكرية متفهمة، وأوجدت مخرجا آمنا للدولة، فأوقفت ترشيح بوتفليقة، وحقق الشعب نصف انتصار، وبانتظار تنفيذ الوعد بإصلاحات سياسية.

الأزمة في ليبيا المجاورة لعبت دورا في ضبط الاحتجاجات الجزائرية مبكرا، فلا أحد أراد أن يواجه المصير القاتم في ليبيا، الذي أدخل شعبها في دوامة لا يزال يبحث عن حل لها، فما بالنا في دولة عرفت العنف وتكبدت ضحايا بمئات الآلاف في عشرية الجمر والدمار؟

كما أن غالبية الدول الغربية التي انتابها حماس لتجربة التيار الإسلامي لم تعد مندفعة وراء توسيع نطاق هذه الظاهرة في الحكم بالمنطقة العربية من خلال تضخيم الاحتجاجات، وتدرك أن الفوضى ونشوب أزمة جديدة في الفناء الخلفي لأوروبا، بجوار ليبيا، يعني كثافة في الهجرة غير الشرعية، والإرهاب، وتهديد مباشر لمصالح اقتصادية سخية تملكها بعض القوى الكبرى.

المشكلة أن المغانم التي يحصدها التيار الإسلامي في الجزائر كبيرة، سواء في حالة وقف المظاهرات تماما وخروجها إلى بر الأمان، أو استمرارها والضغط لإجبار المؤسسة العسكرية على الدخول في مواجهة ممتدة، ما يوقع خسائر بشرية فادحة.

في الحالة الأولى مارسوا مناورات سياسية لزيادة حصتهم الراهنة في الحكم، ودخلوا في مساومات لتهدئة الشارع والقبول بفكرة عدم ترشح بوتفليقة مقابل مزايا جديدة، ربما تجعلهم ورقة رئيسية في معادلة السلطة مستقبلا، ما يفقد المؤسسة العسكرية دورها الفريد في صناعة الرؤساء.

في الحالة الثانية، أي استمرار المظاهرات لحين تنفيذ جميع الوعود، يمكن أن تنفلت الأمور من عقالها، ولدى التيار المؤدلج ممارسات عملية في الكر والفر والتخريب والتدمير، وتنزلق البلاد إلى مشارف مرحلة دموية جديدة، تمتد نيرانها هذه المرة إلى خارج الحدود الجزائرية.

الحاصل أن تجربة الجيش المريرة دفعته نحو الانحياز للتفاهم مع التيار الإسلامي، وأصبح مكبلا بميراث طويل يمنعه من المواجهة الصريحة معه، ما يجعل قيادات هذا التيار تمعن في الابتزاز، وتوظيف تداعيات التمديد لفترة قصيرة لبوتفليقة بعد وقف ترشحه لولاية خامسة.

إذا كان الإسلاميون كرسوا حضورهم السياسي في كل من المغرب وتونس عبر تبني تصورات ناعمة، واستوعبوا التطورات القاتمة التي أفضت إليها تجربتهم القاسية في مصر، فهم يريدون تنفيذ مخططهم في الجزائر من خلال رعاية الاحتجاجات، والتواصل مع قوى مختلفة في آن واحد، بحيث يخرجون من استخدام الأداتين معا وهم في مقدمة الرابحين.

المشكلة أن المكاسب الكبيرة في الجزائر تعطي حيوية معنوية للتيار الإسلامي في ليبيا، والذي خسر جانبا من خططه وترتيباته الفترة الماضية، حيث تمكن الجيش الوطني من تجفيف منابع الكثير من البؤر الإرهابية في شرق وجنوب ليبيا، وسقطت بعض الإجراءات التي تم اعدادها لأجل تعظيم دور الإسلاميين هناك.

الفرص المواتية لهذا التيار في الجزائر تمنح أنصاره في دول أخرى أملا في البقاء كاد يختفي بفعل الضربات التي تعرضوا لها، وتشجع القوى التي تحتضنهم على استمرار دعم مشروعهم، الذي تعرض لهزات كبيرة مؤخرا، عقب دمغ الدول التي تأويهم بإرتكاب جرائم إرهابية، وبالتالي تنتعش التنظيمات المتطرفة التي ارتبكت الأرض تحت أقدامها في دول عديدة.

تفوق الأذرع السياسية يجلب تقدما خشنا في أجندة الجماعات الإسلامية، والليونة تفضي إلى مزيد من التغول، لأن العلاقة بين الأجنحة المختلفة، ولو بدت متصارعة، تنطلق من أسس عقائدية، وقد تحتدم المنافسة حينا، لكنها تميل إلى التعاون والتنسيق غالبا، لبناء مشروع وهمي يصعب أن تكون له قواعد راسخة في الواقع.

عين الإسلاميين في العالم تظل معلقة بالجزائر، لأنها الثمرة الأكثر استعدادا للتفاهم مع القوة المهيمنة هناك، ويحدوهم أمل لتغيير جوانب أخرى في الخريطة السياسية، بما يضاعف من قوتهم مستقبلا. لذلك على المؤسسة العسكرية عدم الوقوع في فخ التهاون معهم أو الاعتداد بالأقنعة الزائفة، لأنهم إذا تمكنوا من التحكم في مفاصل الدولة الجزائرية سوف يكون من الصعوبة اقتلاعهم مرة أخرى، بعد أن استفادوا من العبر السابقة، وتعلموا من خبرات الدول المجاورة.