هدف تاريخي للإيرانيات في مرمى السلطة الدينية

لعبة كرة القدم تحظى بشعبية كبيرة لدى الجنس اللطيف في إيران وقد أدى حرمانهن من مشاهدتها إلى التعلق المرضي بها، على قاعدة كل محجوب مرغوب وهذا ما قد يفسر انتحار الفتاة الزرقاء سحر خداياري.

بقلم: بادية فحص

يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول، سجلت النساء الإيرانيات هدفاً تاريخياً، في مرمى السلطة الدينية، فقد استطعن أخيرا، بعد تضحيات جسام ونضال طويل، من انتزاع قرار رسمي، يسمح لهن بدخول الملاعب الرياضية.

لأول مرة، منذ أربعين عاماً، وطأت أقدام مشجعات لعبة كرة القدم الإيرانيات، رسمياً، أرض ملعب رياضي، وقد احتشدن على مدرجات ملعب آزادي في طهران، لمشاهدة مباراة إيران وكمبوديا، ضمن تصفيات آسيا المؤهلة لكأس العالم 2022، من دون تنكر بهيئة رجل، من دون خوف من افتضاح أمرهن، من دون تسلل من فوق الأسوار والجدران، إنما، ببطاقة رسمية، تتمتع بمباركة دولية.

قبل أسبوع، على هذا الحدث التاريخي، كانت عاشقات كرة القدم الإيرانيات، قد أقبلن بكثافة، على مكاتب بيع بطاقات المباراة، في العاصمة طهران، بعد أن أطلقن هاشتاغ “تعال معي إلى الملعب”، الذي أشعل مواقع التواصل الاجتماعي في الداخل والخارج.

كما يأتي هذا الحدث بعد مرور شهر بالتمام، على وفاة المشجعة الشابة سحر خداياري المعروفة بـ”الفتاة الزرقاء”، التي أقدمت على حرق نفسها أمام المحكمة الثورية في طهران، بعدما اعتقلتها الشرطة وهي تحاول التسلل إلى ملعب آزادي، لحضور مباراة في كرة القدم بين فريق استقلال الإيراني والعين الإماراتي.

انتحار “الفتاة الزرقاء”، فتح أعين المنظمات الحقوقية في العالم، على القمع الذي تكابده المرأة الإيرانية، وحرمانها من حقوق تكاد تكون تافهة بنظر بنساء أخريات، كما دفع الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا”، إلى وضع شروط على الحكومة الإيرانية، لاستضافة تصفيات كأس آسيا، تضمنت رسالة تهديد بإلغاء عقد الاستضافة، ما لم تسنّ الجهات المعنية، قراراً رسمياً معجلاً يقضي بالسماح للنساء بدخول الملاعب.

أخذت المفاوضات، أشهراً من الكرّ والفرّ، لكن في النهاية انتصرت الفيفا للمرأة الإيرانية، وفتحت لها أبواب الملاعب الرياضية، التي أوصدت بوجهها مدة أربعين عاماً، عملا بسياسة الفصل بين الجنسين في الفضاء العام، التي تحرص المؤسسة الدينية على تطبيقها، والتي حولت الملاعب الرياضية، منذ ما بعد الثورة الإسلامية، إلى أمكنة عامة خاصة بالرجال، حتى أنها منعت النساء، إلى وقت قريب، من ممارسة أي لعبة رياضية، أو تشكيل أي فريق رياضي، بحجة الحرام والحلال.

​تحظى لعبة كرة القدم بشعبية كبيرة لدى الجنس اللطيف في إيران، وقد أدى حرمانهن من مشاهدتها، إلى التعلق المرضي بها، على قاعدة كل محجوب مرغوب، وهذا ما قد يفسر انتحار “الفتاة الزرقاء”، علماً أن اعتراض عاشقات كرة القدم الإيرانيات، على هذا الحرمان، بدأ رسمياً، منذ حوالي 13 عاما، حيث نظمن حينها أول احتجاج علني.

ففي العام 2006، نفذت 50 امرأة إيرانية، وقفة احتجاجية، أمام ملعب آزادي، الذي كان يستضيف حينها مباراة بين إيران والبحرين، كمقدمة لتصفيات آسيا، لكأس العالم الذي أقيم يومها في ألمانيا.

افترشت النساء الباحة المقابلة لمدخل ملعب آزادي، وهن يرتدين مناديل بيضاء اللون، وعرفت حركتهن يومها بحركة “المناديل البيضاء”، التي استكملها المخرج السينمائي الإيراني المبعد جعفر بناهي، بفيلم “أوف سايد”، حيث تمكن بناهي عبر عرض فيلمه في عدد من مهرجانات السينما العالمية، من إيصال صرخة مواطناته إلى العالم، ومن هنا بدأ الضغط.

أمام المال، تسقط المحظورات، حتى الدينية، فمن شأن المباريات المزمع إقامتها في طهران، أن تتحرك عجلة الاقتصاد الإيراني، التي أنهكتها العقوبات الدولية

شكل انتخاب رجل الأعمال السويسري جياني إنفانتينو رئيسا للفيفا، الذي رفع شعار “كرة القدم للجميع”، بارقة أمل لعاشقات كرة القدم الإيرانيات، اللواتي تمكن من إيصال قضيتهن إليه، وقد فاجأ إنفانتينو الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني، في لقائهما القصير، بعد سفره إلى إيران لمشاهدة مباراة بين الفريقين الإيرانيين الأكثر شعبية استقلال وبرسبوليس، منذ سنتين تقريبا، بسؤاله عن أسباب حرمان النساء من دخول الملاعب، وعليه (روحاني) أن يناقشه بالموضوع، ووعده روحاني بالعمل على حل المسألة، بعد الرجوع إلى الجهة المعنية.

بعد عودته، كتب إنفانتينو على حسابه على موقع تويتر: “وعدني روحاني بحلّ هذه القضية، وقال لي إنها تحتاج إلى وقت”، وفي تغريدة أخرى كتب: “أنا متفائل بوعد روحاني، ونحن أيضا في سويسرا احتجنا إلى وقت طويل لمنح النساء حق التصويت، لكننا نجحنا”.

​بعد لقائه روحاني، وذهابه إلى ملعب آزادي، لم يعرف إنفانتينو، أنه كان هناك مجموعة من 30 امرأة، قد تجمعن أمام المدخل الخلفي للمعلب، وكن يصرخن له، لكنه لم يسمع، فقد كانت أصوات الرجال طاغية، في الداخل والخارج.

استمر الحظر، كما استمرت النساء الإيرانيات بالضغط، وبقين عرضة للإهانات والعنف الجسدي والاعتقال، ولم يتحرك أي من المسؤولين لإلغاء هذا التمييز كما لم يتغير القانون.

وبلفتة ذكية، سبقت التصفيات الحالية، بعثت نساء إيرانيات، أكثر من 20 ألف إيميل، إلى بريد إنفانتينو الإلكتروني، أعلمنه فيها، أن الحظر مازال ساري المفعول، وأن الحكومة كذبت عليه، مما دفع إنفانتينو إلى توجيه كتاب استيضاح إلى السلطات الإيرانية، حول الوعد الذي أعطي له، طالبا تحديد يوم لإعلان رفع الحظر، وتضمن الكتاب تهديدا واضحا من الفيفا، في حال عدم تهيئة شروط حضور النساء، بتعليق مواعيد إجراء المباريات.

في البداية، حاولت الحكومة الإيرانية المراوغة، فالقرار ليس بيد روحاني، ولا بيد وزير الرياضة، بل لدى المؤسسة الدينية، فكان الرد “نحن موافقون ومازلنا نعمل على الموضوع”، لكن رد فعل الفيفا، أخذ شكلاً أشد حزماً هذه المرة، وبدأت النقاشات التي تدور داخل أروقتها، تنحو باتجاه اتخاذ قرار نهائي بإلغاء عقود الاستضافة مع إيران، ورشحت العاصمة التايوانية تايبيه مكان طهران.

لكن، أمام المال، تسقط المحظورات، حتى الدينية، فمن شأن المباريات المزمع إقامتها في طهران، أن تتحرك عجلة الاقتصاد الإيراني، التي أنهكتها العقوبات الدولية، ومن شأنها أيضاً، أن تنعش سوق النقد بالقليل من العملات الأجنبية، لذلك سارعت السلطات الإيرانية، على تنوعها، بالانصياع لطلب الفيفا، قبل فوات الأوان، وبقدرة المال المقدسة، لم يعد دخول النساء إلى الملاعب الرياضية يعتبر “إشكالاً شرعيًا”.

كاتبة لبنانيَّة