هل هناك دولة عميقة في الولايات المتحدة؟ نعم

يرتبك المفكر العربي أمام تفسير فكرة "الدولة العميقة" في الديمقراطيات المتقدمة. مسطرة العالم الثالث وعالمنا العربي غير مسطرة الخلاف الاجرائي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. الحلقة الماضية من "الاتجاه المعاكس" تكشف هذا الارتباك.
تحليل طبيعة نظام الحكم في الولايات المتحدة عرضة لمصيدة اختلاف المعايير
وجود حزبين رئيسيين من قاعدة فكرية واحدة هو السبب في وجود دولة عميقة وليس نظام الحكم
لا يمكن للدول التي تفتقر الى نسق فكري واحد أن تكون لديها دولة عميقة

تناولت الحلقة الماضية (26 يناير) من "الاتجاه المعاكس" على قناة الجزيرة مسألة ما اذا كان هناك دولة عميقة في الولايات المتحدة أم لا، وتم شرح الآلية التي تعمل بها الحكومة الأميركية استنادا الى دستور الولايات المتحدة، وقد أكد أحد طرفي الجدال أنه لا توجد دولة عميقة في الولايات المتحدة بينما أكد الطرف الثاني على وجودها. والفيصل في هذا الموضوع هو نص الفقرة الثانية من المادة الثانية من الدستور الأميركي التي منحت الرئيس الكثير من الصلاحيات شريطة الحصول على موافقة الكونغرس بغرفتيه: النواب والشيوخ. واذا علمنا أن الكونغرس هو السلطة التشريعية في البلاد، وأن جميع الأعضاء ينتمون الى الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، فإن النتيجة هي تأكيد وجود الدولة العميقة.

ليس خافيا على العامة أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي ليس بينهما فروق جوهرية ولكن فروق إجرائية، فهناك خطوط عريضة حددها الدستور ولا يمكن لأحد الخروج عنها، واذا اتهم رئيس ما بالخروج عن الدستور، تجري محاكمته ويتخذ القرار بشأنه، وهذا ما حصل فعلا مع الرئيس السابق ترامب، عندما جرت محاولة وتجري محاولة أخرى لعزله بتهمة انتهاك الدستور ولكن الأولى فشلت والثانية سوف تفشل، لأن ترامب لم يخالف الدستور ولم يهدد الأمن القومي ولم يضر بالمصالح العليا الأميركية. ولو أنه فعل ذلك، لتم عزله بموافقة الحزبين.

عندما يقوم المفكر العربي بتحليل وقائع معينة في بلاد أخرى، فإنه يقع في مصيدة اختلاف المعايير، فنحن في العالم العربي لدينا معايير مختلفة تماما عن معايير الدستور الأميركي، ونظن أن اختلاف القرارات والإجراءات الرئاسية الأميركية خروج عن السياسة العامة في الدولة، وتعكس موقف الرئيس، فعلى سبيل المثال، كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري يحاربان المخدرات، ولكن الحزب الديمقراطي يحاربها بطريقة مختلفة عن الحزب الجمهوري الذي يدعو لاستخدام القوة لمحاربة تهريب المخدرات، وهذا يعني أن الخلاف اجرائي وليس مبدئي.

ماذا لو كان هناك حزب ثالث شيوعي في الولايات المتحدة وهو أمر ممكن في ظل الحرية الفكرية المصونة في الولايات المتحدة، والتحق بهذا الحزب ملايين الأميركيين ثم فاز هذا الحزب في الانتخابات وأصدر قرارات مخالفة للنظام الاقتصادي الأميركي؟ في هذه الحالة، هناك احتمال اللجوء الى العنف وحسم الخلاف بقوة السلاح من خلال حرب أهلية طاحنة.

ولماذا الافتراض؟ فقد اندلعت الحرب الأهلية الأميركية في عام 1861 خلافا على تحرير العبيد، وكان الأميركيون في الولايات الجنوبية يعتمدون على العبيد في مزارع القطن، فطالبوا باستقلال هذه الولايات، وهذا أمر مخالف للدستور الأميركي الذي صدر في عام 1787 فاندلعت حرب أهلية راح ضحيتها 260 الف أميركي.

إن وجود حزبين رئيسيين ينطلقان من قاعدة فكرية واحدة هو السبب في وجود دولة عميقة وليس نظام الحكم، فالنظام ديمقراطي يعتمد على الفصل بين السلطات الثلاثة والرئيس هو رئيس للسلطة التنفيذية فقط، ولا يمكنه اصدار قوانين وتشريعات بدون موافقة الكونغرس بغرفتيه، ولكنه يستطيع اصدار قرارات تنفيذية كما يشاء ما لم يخالف الدستور.

قد يتساءل شخص، لماذا اختلفت السياسة الخارجية كليا بين ترامب وبايدن؟ والسبب هو عدد النواب والشيوخ الذي يحدد الموافقة أو الرفض. ولا يمكن اتخاذ قرارات بشأن الرئيس دون موافقة الغرفتين بالأغلبية. فالسياسات الخارجية والأمن القومي في قبضة الكونغرس وهو الذي يقبلها أو يرفضها بالتصويت. وقد أقر ترامب صفقة بيع الأسلحة للسعودية والامارات بينما ألغاها بايدن، ليس بقرار شخصي بل من خلال عملية التصويت في الكونغرس. وإذا كان بايدن يؤمن بسياسة الاحتواء بخصوص ايران، فذلك لأن قاعدته الحزبية تدعم ذلك.

صحيح أن الرئيس الأميركي يلعب دورا فعالا في سن التشريعات وله الحق في قبول أو رفض القوانين التي يعرضها عليه الكونغرس لكنه مقيد بطريقة ثابتة، فعندما يقترح قوانين فإنه يحشد الرأي العام من خلال الخطابات التي يلقيها لكي يحظى بالتأييد الشعبي لتلك القوانين. وإذا سن الكونغرس قانونا فإنه يرفعه للرئيس للتوقيع عليه خلال عشرة أيام، فإذا انقضت العشرة أيام دون أن يوقع الرئيس عليها، يعتبر القانون نافذا. ويمكن للرئيس الاعتراض على قانون أو قرار شريطة أن يوضح أسباب الاعتراض، ثم يعيده إلى الكونغرس، فيقوم الكونغرس بالتصويت على اعتراض الرئيس فإذا وافق ثلثا الكونغرس بغرفتيه على الاعتراض، يطرح القانون في الكونغرس للمناقشة والتعديل، كما يحق للرئيس استخدام حق النقض للقرار لإبطاله، فيعاد إلى الكونغرس للتصويت عليه، ويجب أن يحصل على ثلثي أصوات الكونغرس للموافقة على نقض الرئيس وإذا فشل الرئيس بالحصول على موافقة ثلثي الأعضاء على النقض، يبطل فيتو الرئيس ويقر القانون.

لماذا لا يصلح هذا النموذج من الحكم في الدول العربية؟ أن الكلمة المفتاحية للإجابة على هذا السؤال هو عدم وجود انسجام فكري، وأعضاء البرلمان والأعيان أو الشيوخ يستقون من منابع مختلفة اختلافا جذريا، فهناك القومي والاسلامي والوطني والمستقل والشيوعي، وهناك مئات الأحزاب لا نعرف الفرق بينها ولماذا هي متعددة بهذا الشكل مع أن النظم الفكرية عددها محدود. وحتى الدستور لا يستطيع ضبط هذه الاختلافات، لذا نجد الحكام العرب يعدلونه بجرة قلم، حيث لا يوجد زخم جماهيري يعمل كصمام أمان لحفظ الدستور وضمان عدم تعديله.

لطالما ظل العالم العربي متشرذما وغير متفق على رؤية فكرية موحدة، ولو لاحظت الدول الامبريالية توجها فكريا موحدا، فإنها تقوم فورا بتسليح النقيض وتجييشه لإجهاض هذه الحركة الفكرية الجامعة للناس من مختلف الأطياف، وهو أمر بغاية السهولة واليسر، إذ يكفي أن تجند بعض مشايخ الاسلام وتنشرهم وتروج لهم وتوفر لهم وسائل الاعلام لنشر فكرهم وتخريب النقلة الفكرية التي ستوحد الشعوب حول رؤية فكرية واحدة. وحتى بعد ذلك يمكن لتلك الدول أن تضمن عدم توحد المسلمين، وتبث الكراهية الطائفية بين السنة والشيعة وتجعل الناس يقتلون بعضا.

الخلاصة هي أنه لا يمكن للدول التي تفتقر الى نسق فكري واحد أن يكون لديها دولة عميقة، والولايات المتحدة لديها نسق فكري واحد وحزبان يختلفان في الإجراءات وليس في المبادئ، وبدون شك فإن الدولة العميقة تظهر تلقائيا وتفرض رؤيتها على كافة أصحاب القرار.