هموم شعرية من جنوب السودان

أية مأساة وألم وإحباط يمكن أن يكون مصدراً للكتابة الإبداعية أكثر مما حدث مؤخراً في جنوب السودان، بل يكاد من تداعي الاحباط والأسى أن تجف المآقي والأقلام.
مبادرة بيت الشعر المحمودة والذكية في تناول قضية الحركة الشعرية في جنوب السودان، تفتح الباب أن نحلم ونطمع في مبادارت أوسع وأشمل
هل نحلم أن يبادر(بيت الشعر بالخرطوم بمركز أو منبر ثقافي في الجنوب يتيح لمثقفيه أن يتوحدوا ويتفاعلوا وينشروا الشعر والأغنية والرواية والفنون والمسرح والكتاب

"أية مأساة وألم وإحباط يمكن أن يكون مصدراً للكتابة الإبداعية أكثر مما حدث مؤخراً في جنوب السودان، بل يكاد من تداعي الاحباط والأسى أن تجف المآقي والأقلام".
هكذا لخص الشاعر الرقيق قرنق توماس ضل ألم الإجابة عن سؤال دوافع الكتابة لدى الشعراء في جنوب السودان في ذكرى اليوم العالمي للشعر في مارس/آذار 2014. ومثلما أعادت أمسية بيت الشعر بالخرطوم عن "الحركة الشعرية في جنوب السودان" زمام التفرد الواعي في الاختيارات والذكاء في التناول بما يبقي الحرج مفتوحاً، فقد أعادت الأمسية لانتباهتنا السؤال الذي كدنا في غمرة سوء أحوالنا أن ننساه: كيف الحال في الجنوب؟ إلى متى تتطاول تلك المعاناة التي يعيشها أهلنا هناك بعد الانفصال؟ "أو قل الاستقلال إن شئت". 
ويا للمفارقة، فكلا الشعورين، شعور الحنين الذي ورطتنا فيه مداولات الأمسية، أو الأسى الذي انتابنا بعدها؛ يحيلانا إلى الحقيقة المؤلمة، أن الجنوب ما عاد جزءًا من الوطن، فهو الآن دولة قائمة، وأن أبناء الجنوب بيننا اليوم ليسوا مواطنين، فهم الآن للأسف مجرد أجانب، تحول قوانيننا العرجاء أن يجمعهم مجرد منبر ليقرأوا الشعر أو يغنوا ويحتفلوا.
لن تنجح كل محاولات تطبيق واقع الانفصال بين السودان وجنوبه على شأن الثقافة، حتى تنقيبات المشاركين في الندوة، د. آدم يوسف والكاتبة استيلا قيتانو والباحث د. شول دينق لم تفلح في الحديث عن تاريخ وواقع الشعر في جنوب السودان في عزل ماضيه وحاضره عن ارتباطه وارتباط مبدعيه بالسودان الواحد، فلغة قرنق توماس ضل، وبوي جون وريجويس استانسلاوس وألدو ديمو والفاتح أتيم ونيالاو حسن هي العربية التي تعلموا بها الكتابة وقرأوا بها الشعر في المنابر والمنتديات الشعرية أيام كان السودان بلداً واحداً، ومحور ما تناولته أشعارهم التعبير عن ظروف الحرب التي لم تسكت نيرانها منذ استقلال السودان الواحد، وإلى أن اشتعل أوارها حريقاً بعد الانفصال، شعرًا كان يكتب بأسنة الحزن والصراخ ليفضح مأساة نخب الساسة السودانيين وقصر نظرهم في التعامل مع قضية جنوب السودان، ليشعلوها حرباً كان نتاجها كل ذلك الموت المجاني الذي تكبده أهلنا البسطاء الفقراء في الجنوب والشمال بلا طائل، وها هو ألق الشعر يسري ويمضي دون أن يغاير ماضيه، لكنه يكتب اليوم بلغة نزيف الدم الذي لم ينقطع، بعد أن ضاعت الأحلام والآمال العراض التي حلم بها أهل الجنوب، في ظل دولة مستقلة جميلة، تشبه أحلام استيلا قاتيانو الجميلة، وذات الأمر ينطبق على شتى صنوف الإبداع.

مبادرة بيت الشعر المحمودة والذكية في تناول قضية الحركة الشعرية في جنوب السودان، تفتح الباب أن نحلم ونطمع في مبادارت أوسع وأشمل، ولا يحفزنا على هذا (الطمع) إلا وعي وكرم وسعة أفق تميز القائمين عليه هنا في السودان وهناك في دولة الإمارات، فجنوب السودان غني بحركة ثقافية وأدبية وشعرية عظيمة تستحق الانتباه، لكنها تفتقد لمن يؤسس لها وينظمها ويرعاها ويوثق لها، وأهل الإبداع في الجنوب كثر لكنهم يفتقرون للكيانات التي تجمعهم وتنظمهم وللمنابر التي تتيح لهم تقديم أعمالهم للناس.
خروجاً لفضاءات أرحب، هل نحلم أن يبادر (بيت الشعر، الخرطوم) بمركز أو منبر ثقافي في الجنوب يتيح لمثقفيه أن يتوحدوا ويتفاعلوا وينشروا الشعر والأغنية والرواية والفنون والمسرح والكتاب، ويقدموا إبداعهم بكل اللغات سهماً لن يخيب في وجه الحرب والخراب، بادروا يا بيت الشعر، عمل كهذا سيخلده التاريخ ويحفظه لكم أهل الإبداع في الجنوب إلى أبد الآبدين.