هيئة علماء السودان: محاربة الفساد بمشاهد يوم القيامة

الدعوة الكوميدية لمحاربة الفساد والغش عبر التدريب على مشاهد يوم القيامة والتخويف تعبر عن الاغتراب العقلي التي يعيشها رجال الدين حالة تعكس مدى الابتعاد عن الوعي الذي صاحب قيام الدولة الحديثة وما ارتبط بها من أنظمة سياسية تحارب الفساد بوسائل أكثر قدرة وفعالية.

بقلم: بابكر فيصل

ما انفكت هيئة علماء السودان تخرج علينا كل حين بتصريحات ومواقف مثيرة للدهشة والاستغراب، وكان آخرها مطالبتها للحكومة بإخضاع الوزراء ووكلائهم لدورات تدريبية عن مشاهد يوم القيامة قبل تعيينهم بهدف تخويفهم حتى يؤدوا أعمالهم بتفاني، وأرجعت ظاهرة الفساد لعدم الخوف من الله.

قال عضو الهيئة حسن أحمد حسن في ندوة بعنوان "الآثار الاجتماعية للأزمة الاقتصادية ومنهج التعامل معها" إن إخضاع الوزراء ووكلاء الوزارات لتلك الدورات "يرمي في قلوبهم المهابة والخوف"، كما حذر التجار من خطورة ظاهرة الغش والتطفيف وطالبهم "بوضع لوحة إعلانية مكتوب عليها الآيات الأولى من سورة المطففين للتذكير بأمر الغش وما يترتب عليه!".

هذه الدعوة الكوميدية لمحاربة الفساد والغش عبر التدريب على مشاهد يوم القيامة والتخويف بسورة المطففين تعبر عن حالة الاغتراب العقلي التي يعيشها رجال الدين، وهي حالة تعكس مدى الجمود والابتعاد عن الوعي الذي صاحب قيام الدولة الحديثة وما ارتبط بها من أنظمة سياسية تحارب الفساد بوسائل أكثر قدرة وفعالية.

مما يجدر ذكره في هذا المقام أن الفساد الذي استشري في جسد الدولة السودانية لم يكن وليد الصدفة بل جاء نتاجا لسياسة قصدية متمثلة في برنامج "التمكين" الذي انتهجه نظام الإخوان المسلمين وقام بموجبه باختطاف الدولة لصالح منسوبي الجماعة عبر توظيف آلاف الكوادر في الخدمة العامة، دون كفاءة وتأهيل وخبرة، والأهم من ذلك إحكام سيطرة الجماعة وأتباعها على مفاصل الدولة الاقتصادية عبر القوانين والسياسات والقرارات، مما أدى لتفشي المحسوبية والفساد المؤسساتي بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث.

كذلك فإن الفساد انتشر رغم تطبيق النظام الحاكم لبرنامج "أسلمة الدولة والمجتمع"، وفي واقع الأمر فقد كان ميدان "القيم" هو أكثر الميادين الدالة على هزيمة ذلك البرنامج الذي نثر الوعود بإنزال المبادئ الأخلاقية المُتضمنة في الدين الإسلامي إلى أرض الممارسة، والذي تم الترويج له في مقابل الدعوات السياسية الأخرى، من منصَّة "ربط قيم السماء بالأرض" وبناء الفردوس الدنيوي بسواعد الأطهار والأنقياء من أصحاب الوجوه النورانية والأيادي المتوضئة!

يُدرك كل صاحب بصر وبصيرة أن المنتوج النهائي لذلك البرنامج قد تجلى في المفارقة المذهلة المتمثلة في التناسب العكسي البائن بين مظاهر التديُّن الشكلي والأخلاق العامة والخاصة، إذ تزايدت الأولى بصورة واضحة لا تخطئها العين بينما تدهورت الأخلاق بشكل مريع وغير مسبوق.

قد تبدت أبرز تجليات العلاقة العكسية بين التديُّن المُصطنع والأخلاق في ظاهرة امتلاء المساجد بالمصلين، وهو الأمر الذي عدَّه الإخوان المسلمون دليلا قاطعا على نجاح مشروعهم السلطوي، فتجدهم يُرددون كثيرا أنه لم يكن هناك إقبال على الصلاة كما حدث بعد سيطرتهم على الحكم، ولم تكن المساجد مملوءة بتلك الأعداد الغفيرة من المُصلين التي شهدها عهدهم.

في حقيقة الأمر، لا يختلف شخصان في أن الإقبال على المساجد تزايد في فترة الحكم الإخوانية، ولكن السؤال البسيط الذي يجب أن يُطرح في هذا الإطار هو: هل كان غرض البرنامج الإسلامي يتمثل في ملء المساجد بالمصلين أم هدف ذلك البرنامج للنفاذ إلى الغاية الأخلاقية وراء أداء شعيرة الصلاة، وهي النهي عن الفحشاء والمنكر؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي نستطيع عبر الإجابة عليه أن نقيس مدى نجاح أو فشل ذلك البرنامج.

صحيح أن أعداد المصلين بالمساجد كانت في السابق أقل مما هي عليه في الوقت الراهن، ولكن الصحيح أيضا أن الفساد لم يكن في الماضي منتشرا بهذا الشكل المرعب، ولم تكن الرشوة جزءا من الحياة اليومية للموظف أو المسؤول، ولم يكن الاحتيال متفشيا بهذه الصورة المخيفة، ولم تك السرقة والاغتصاب والقتل والنهب تمثل خطوطا يومية ثابتة في صفحات الجرائد!

إن ذات الأشخاص الذين يحرصون على أداء الصلاة في الصف الأول ويذرفون الدمع خشوعا عندما يُتلى القرآن ويأتون بجميع الأوراد، هم أنفسهم الذين يحلفون بالله كذبا في السوق، ويبيعون البضائع الفاسدة والمنتهية الصلاحية، ويطففون في الميزان ويأكلون حقوق الناس بالباطل.

من ناحية أخرى، فإن المجتمع لم يكن في الماضي يعيش هذه الحالة من النفاق العام الذي لم يقتصر على احتفاء الأفراد بالمظاهر الخارجية للتدين على حساب السلوك القويم، بل امتد إلى ممارسة العبادات بذات الطريقة الاحتفالية التي أفرغتها من محتواها الحقيقي وغايتها الأصلية بوصفها علاقة خاصة جدا بين العبد وربه.

أضحى السفر لقضاء الحج والعمرة لدى كثيرين أقرب للترفيه منه للعبادة الحقيقية، فتجدهم يتواعدون على اللقاء في أرض الحرمين على طريقة المسافرين لقضاء عطلة صيفية في شاطئ الإسكندرية أو أرخبيل جزر القمر؛ يذهبون ويعودون لممارسة الكذب والنفاق والسرقة دون أن يرمش لهم جفن، يظنون أنهم يخدعون رب العالمين بتكرار الذهاب لبيته كل شهر وكل عام.

استشرى الفساد السياسي والأخلاقي وانتشر النفاق الاجتماعي بصورة غير مسبوقة رغم تطبيق برنامج أسلمة الدولة والمجتمع، مما يعني أن دعوة هيئة العلماء لتخويف الوزراء بمشاهد يوم القيامة وتذكير التجار بسورة المطففين تمثل حلولا ساذجة لمشكلة أعمق وأكثر تعقيدا من أن يتم علاجها بهذه الطريقة الشكلية.

إن السبب الرئيسي وراء انتشار تلك الأدواء يكمن في طبيعة النظام الاستبدادي، ذلك لأن السلطة في أصلها مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وقد تعلمت الإنسانية في مسيرتها الطويلة أنه لا بد من تقييد هذه السلطة وممارسة الرقابة المستمرة عليها والسماح بتداولها بطريقة سلمية، وقد ثبت أن النظام الديمقراطي بما يتضمنه من فصل للسلطات وإعلام حر وقوانين تضمن الشفافية هو أكثر أنظمة الحكم فاعلية في القيام بهذه المهام.

وعلى مستوى الأفراد ثبت أن الاعتماد على الكوابح الإنسانية الداخلية مثل الإيمان والتقوى والضمير وغيرها لا يكفي وحده لحمايتهم من فساد السلطة، وبالتالي تم إخضاعهم لقيود خارجية متمثلة في اللوائح والنظم والقوانين، وهو الأمر الذي أهدرته دولة الإخوان المسلمين بالكامل، حيث تعاملت مع خلاصة التجارب الإنسانية باستخفاف كبير وعنجهية شديدة، فذبحت القوانين، وأحكمت سيطرتها على السلطة بالكامل، وحطمت جميع الكوابح الخارجية، وأخيرا اكتشفت أن أفرادها بشرا وليسوا ملائكة..

طبيعة البشر لا يمكن صدها أمام إغراءات السلطة إلا عبر الكوابح الخارجية التي تحدثنا عنها، ولن يكفي في ذلك التعويل على المظاهر الخارجية للتدين أو التخويف بمشاهد يوم القيامة. لن تكفي زبيبة الصلاة مهما كبر حجمها، أو اللحية مهما بلغ طولها، أو الإكثار من التكبير مصحوبا برفع الإصبع السبابة.

إن جوهر الحكم السليم وأساس التعاقد بين الحاكم والمحكوم ينبغي أن يقوم على الاختيار الحر، ودون ذلك فإن أهداف السلطة ستتحدد وفقا لتقدير مصالح الأطراف المحتكرة والنافذة في الحكم والمستفيدة منه وبما يضمن استمراره. هذا الاحتكار للسلطة يخلق البيئة المواتية للفساد والإفساد ولا سبيل للفكاك منه سوى كسره وفتح الباب أمام الاختيار الطوعي.