هيوز يعلم السر

لانجستون هيوز يعد واحداً من أبرز شعراء قصائد الجاز في أميركا وتم نعته بشاعر الشعب.
الشاعر يتنقل عبر أنهار قارات مختلفة، ويشير لأنهار قارات العالم الأخرى
روح الشاعر استحالت إلى نهر قديم كالزمان وعظيم كالتاريخ

من المقولات الشهيرة المتواترة "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"، و"هذا ما جناه أبي". وفي كلتا العبارتين، المتحدث لم يقترف أي ذنب، ولم يختار مكانته في الحياة. فما دخله إذاً بما وجد عليه نفسه قبل أن يصنع تاريخه الشخصي؟ فالأب هو الفاعل، أو بالأحرى النشأة، إذاً، ما ذنب الفرد فيما يقترفه آباؤه قبل ميلاده؟ ليس للفرد أي ذنب في الوضع الذي نشأ فيه؛ لأنه ليس من صنع يديه. ومن الإجحاف إذاً أن يعاقب أي فرد على جريمة لم يقترفها، أو يحاسبه الآخرين على شيء لم يختره. فسجل الحساب عند الخالق يبدأ مع مولد الإنسان، أما المخلوق، فهو يصنع لنظيره سجل حساب يعاقبه فيه ليس فقط على صنيع آبائه، بل أيضاً على صنيع أجداده، وكذلك الظروف التي أوجدته في ذلك الزمان والمكان.
وما أقسى الحياة في عشرينيات أي قرن من الزمان؛ تلك الفترة الفاصلة بين مستهل القرن والدخول في غمار أحداثه ومستجداته، وكأنها تمهيد لأحداث هذا القرن. ولطالما كانت بداية عقدين أي قرن موطناً للتقلبات، التي قد تكون انتصارات أو هزائم، أو كليهما في الوقت نفسه. وبالرجوع فقط لعشرينيات القرن العشرين، نجد أنه بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تفشى وباء الأنفلونزا الإسبانية في العالم الذي تسبب في موت نحو أكثر من عشرة ملايين فرد، أي ما يربو على ضحايا الحرب العالمية الأولى أجمعين. لكن ما كان يحدث في ذاك الوقت نفسه، على الصعيد الآخر في الولايات المتحدة، كان تفجر ثورة نهضة الهارلم Harlem Renaissance في الفترة التي امتدت من عشرينيات إلى ثلاثينيات القرن العشرين، والتي كانت السبب في ترسيم ملامح شخصية المجتمع الأفريقي الأميركي في الولايات المتحدة، والتي أفضت إلى حصول المجتمع الأسود على حقوق اجتماعية وسياسية لم يكن ليتوقع أن يحظى بها على الإطلاق.

القصيدة التي كتبها شاب في الثامنة عشرة من عمره لم يعبر فيها عن أحلام المجتمع الأسود في الولايات المتحدة فقط، بل امتدت أحلامه لجميع الأقليات

وفيما يبدو أنه ما أشبه اليوم بالبارحة، ففي عشرينيات القرن الواحد والعشرين، أو بالأحرى في مستهل عام 2020، تفشى وباء الكورونا في العالم بأكمله ليغيير معه جميع مظاهر الحياة التي نعم بها الفرد على مدار قرن من الزمان، وليكتب صفحة جديدة في تاريخ البشرية. وكما حدث تماما في عشرينيات القرن العشرين، نجد أن المجتمع الأفريقي الأميركي في خضم هذه الخسائر العالمية، ينتفض ويصعد للصدارة مرة أخرى ليس فقط في الولايات المتحدة، لكن في العالم الغربي المتقدم بأسره. ففي الوقت الحالي، يعصف بأرجاء الولايات المتحدة طوفان اجتماعي عاتٍ يأتي على الأخضر واليابس من بقايا المعتقدات الاجتماعية البالية التي فرقت بين الإنسان وأخيه في الإنسانية بالتمييز فيما بينهم على أسس ليس لأي فرد دخل فيها، ولم يخترها. فمقتل جورج فلويد لم يشكل نهضة هارلم جديدة، لكنه شكل نهضة للأقليات في العالم بأسره، فصار بذلك علامة فارقة في تاريخ عشرينيات هذا القرن الميلادي. 
وما يثير الدهشة أن الشاعر، والناشط، والروائي، والكاتب المسرحي، والكاتب الصحفي الأفريقي الأميركي لانجستون هيوز Langston Hughes قد توقع ذلك في قصيدته الغراء "الزنجي يتحدث عن الأنهار" The Negro Speaks of Rivers التي اشتهر بها طوال حياته، بالرغم من أنه قد سطرها وهو في الثامنة عشرة من عمره فقط. فالقصيدة بالرغم من بساطة تركيبها الشعري واتباعها لأسلوب الشعر الحر، فإنها تتميز بعمق شديد ومعانٍ وتركيبات ناضجة تليق بشاعر فحل. 
ومن الجدير بالذكر أن كلمة "زنجي" Negro التي استخدمها لانجستون هيوز كعنوان لتلك القصيدة، لا تعد تحقيراً لهوية المجتمع الأفريقي الأميركي في ذاك الوقت، بل علي النقيض تعد مدحاً. فالاحتفاء بهويتهم كما هي - دون زيف أو تزيين - والتي وسمهم بها الأغلبية البيضاء، هو مصدر فخر لهم. فاستخدام هذا المصطلح يدل على فخر المجتمع الأفريقي الأميركي بما حققه من إنجازات، ونذيراً لما سوف يحققه من إنجازات أخرى ليصل لنيل حقوقه الكاملة. وأود الإشارة إلى أن مصلح "زنجي" قد تغيير فيما بعد - في نهاية أربعينيات القرن العشرين وحتى نهاية ستينيات ذاك القرن إلى "أسود" Black. ومع السبعينيات حتى مستهل التسعينيات تطور إلى "أفرو- أميركي" Afro-American. وبنهاية التسعينيات تحول إلى "أفريقي- أميركي"   African-American ليدل على أن الهوية الأفريقيىة كاملة ولا يمكن أن تكون منقوصة. 
لكن مع بداية الألفية الثالثة، وجد النشطاء أن فصل الكلمتين بـ "شرطة " hyphen يعد انتقاصاً للهوية الأفريقية الأميركية وتوكيداً على العنصرية. ومن ثم، تم إلغاء هذه "الشرطة" وصار اسم هذا المجتمع – وكذلك أسماء مجتمعات الأقليات الأخرى التي تعيش على الأراضي الأميركية – تكتب دون شرطة. وعلى هذا، صار ينعت هذا المجتمع بالمجتمع "الأفريقي الأميركي" African American دون أي حواجز بينه وبين الأغلبية الأميركية البيضاء.
أما لانجستون هيوز Langston Hughes (1901-1967) كاتب تلك القصيدة، فهو يعد واحداً من أبرز شعراء قصائد الجاز Jazz Poetry، والذي تم نعته بشاعر الشعب لكونه ليس فقط واحداً من أبرز زعماء نهضة الهارلم، التي امتدت من عشرينيات لثلاثينيات القرن العشرين، بل أيضاً لإصراره على مناقشة قضايا المجتمع الأسود وطرحها على جميع التآلفات.  
وقصيدة "الزنجي يتحدث عن الأنهار" The Negro Speaks of Rivers تلقي الضوء على تاريخ مجتمع اقتٌلِع من جذوره، فهي تربط روح وتراث المجتمع الأفريقي الأميركي بأربعة أنهار عظيمة في الشرق الأوسط، وأفريقيا، وأميركا، وكأن لانجستون هيوز يؤكد في القرن الماضي أن نهضة المجتمع الأسود في الولايات المتحدة يعوزها أيضاً الدفاع عن حقوق أقليات الشرق الأوسط والأفارقة المغتربة عن أراضيها وحضاراتها. وفي تلك القصيدة يقول لانجستون هيوز:  

Poetry
اغتسلت بالفرات عندما كان الفجر صغيراً.

لقد عرفت الأنهار
وعلمت عن أنهار ضاربة جذورها في التاريخ كالعالم، بل وأقدم من
تدفق دماء البشرية في عروق البشر.
وأما روحي، فلقد ضربت جذورها الأعماق كالأنهار.
فاغتسلت بالفرات عندما كان الفجر صغيراً.
وشيدت كوخي بالقرب من نهر الكونغو، فهدهدني السبات.
وأشحت بناظري لنهر النيل، ثم رفعت الأهرامات فوقه.
وتسلل غناء نهر المسيسيبي لأذني عندما توجه إيب لينكولن
إلى نيو أورليانز، وشهدت صدره الموحل
يتحول إلى لون ذهبي خالص في غروب الشمس.
لقد علمت عن أنهار؛
أنهار قديمة وداكنة.
فباتت تنمو روحي ضاربة في عمق التاريخ كالأنهار
القصيدة تنقل التجربة العميقة لرجل ليس فقط شديد الهرم، بل رجل شبه خالد. فلقد عاصر فجر التاريخ، ونشأة الأنهار التي صارت مياهها كدماء تضخ في شرايين البشرية. فتنقل بين نهر الفرات في آسيا، ووصل لنهر الكونغو في أفريقيا حيث بنى له كوخاً هناك، ثم نام قرير العين. ثم توجه لمصر وساعد في بناء الأهرامات (وبالطبع هذه مغالطة تاريخية ترددها الشعوب الأفريقية لأن الأهرامات بنيت على أيدي المصريين)، ثم توجه لقارة أميركا حيث شارك في رحلة إبراهام لينكولن عبر نهر المسيسيبي. ولم يكتف بتلك الأنهار فقط، حيث شهدت روحه أنهاراً أخرى كثيرة وذات ألوان داكنة، فاستحالت روحه إلى نهر قديم كالزمان وعظيم كالتاريخ.
ولقد اختار لانجستون هيوز الأنهار كرمز يربط أجزاء القصيدة لأهميتها في نشأة تاريخ الأمم؛ لأنها قوام الحياة والحضارات. ومن ثم، حول هذا الرمز إلى وسيلة لتدوين وقائع التاريخ، وليثبت بها حكمة، وروح، وتاريخ المجتمع الأفريقي الأميركي الذي تم اقتلاعه من جذوره. وبكل حرية، كان الشاعر يتنقل عبر أنهار قارات مختلفة، ويشير لأنهار قارات العالم الأخرى، وكأنه يؤكد أن شعوب العالم التي اقتلعت من جذورها لتعيش على أراضي أخرى كأقليات غرباء، هي أيضاً شعوب لها تاريخ وحضارات عظيمة. ولكل شعب في هذه الحضارات لون وعرق يميزه كفرد له أهميته، واختلافه يحترم وليس سُبَّة في جبينه. ولقد عبر لانجستون هيوز عن ذلك بتركيزه على الألوان والظلال؛ فالنهر الموحل استحال لذهبي نفيس الشكل في ضيّ الشمس، أي مع الحرية يبدو البشع جميلاً. والأنهار الأخرى الداكنة اللون تشير إلى ألوان البشرة الداكنة والأعراق المختلفة. 
هذه القصيدة التي كتبها شاب في الثامنة عشرة من عمره لم يعبر فيها عن أحلام المجتمع الأسود في الولايات المتحدة فقط، بل امتدت أحلامه لجميع الأقليات. لربما كان المعنى ملغزاً قديماً، وإن تم التوكيد على عمقه الذي يفوق عمر وتجربة المؤلف. والجديد أن تلك التجربة قفزت لقرن آخر من الزمان لتعبر عشرينيات القرن الماضي إلى عشرينيات القرن الواحد والعشرين لتضع الأمور في نصابها. فلو كان الزنجي لانجستون هيوز يتحدث عن الأنهار في القرن العشرين، فإن قصيدته تدافع عن حقوق الأقليات في القرن الواحد والعشرين.