'واحدة كده' ثم تمضي المدينة في طريقها

فيلم المؤلف والمخرج مروان نبيل يتمتع بالكثير من عناصر الجودة مثل الموسيقى والصوت والتصوير، وبالقطع كان لتمثيل البطلة ريهام عبدالغفور الدور الأبرز حيث قادت دفَّة الشخصيَّة بمهارة وسلاسة غير غريبتَيْن عنها وعن موهبتها الرفيعة.

الفيلم المصري القصير "واحدة كِده" الذي ألَّف قصَّته وأخرجه مروان نبيل، وكتب له السيناريو هيثم الشال فيلمٌ جادٌّ وذو مغزى عميق. بدايةً؛ "كِده" هي كِدا، وهي تحريف لَهجيّ لاسم الإشارة العربيّ: كذا، مسبوقًا بالكاف. ولهذا الاسم اعتبار في المعنى؛ قد نستشفُّ منه "التجهيل" مرةً، أيْ أنَّها امرأة من وسط ملايين، وقصَّة من وسط آلاف القصص، وقد نستشفّ منه "التعيين" مرةً أخرى، أيْ امرأة كذا أو امرأة كتلك التي نراها بوصفها وحياتها وظروفها ومعاناتها الموصوفة أمامنا. ولعلَّ المعنى الأوَّل هو الأرجح، وهو ما قصد إليه صُنَّاع الفيلم. وغرض التجهيل هو التعميم أيْ أنَّها قصَّة كلّ امرأة، وأزمة المجتمع كلِّه. وهذا المعنى عُزِّزَ من خلال عدم تسمية البطلة؛ أيْ أنَّها نموذج أزمة.

نرى في الفيلم الصادر 2020 شابة "ريهام عبدالغفور" تُعاني الأرق من إزعاج الإصلاحات في الشارع، تدخل عليها أمُّها "سلوى عثمان" لتوقظها للعمل؛ في الوقت الذي يُرسل لها خطيبها "محمد علي رزق" رسالةً صوتيَّةً يخبرها بأنَّه سيُقلُّها من البيت إلى العمل، يحاول استمالة قلبها بعد موقف حدث -فيما يبدو-. ثُمَّ تخرج من بيتها إلى العمل، بصُحبة خطيبها في سيارته، وحينها تبدأ معرفة المُشاهد أنَّ المخطوبين مُختلفان على مكان محلّ الزوجيَّة بين شقة قريبة من عملها، وأخرى قريبة من عمله هو.

وتصل الشابة إلى محلّ عملها؛ لتقابل يوم عمل مُعتادًا مُملًّا كالعادة؛ فهذا سائس السيَّارات يحاول ابتزاز أموالها باستعطافها بأحوال أسرته، وما بين موظفٍ يسأل، وآخر يستميل، وإحداهنّ التي تغار، وأخريات لا يعرفن إلا الثرثرة التافهة الفارغة، وكأنَّهنَّ فتيات الثانويَّة. ثُمَّ تتحاور مع زميل، ثُمَّ تركب سيَّارة أجرة للعودة. هذا هو الإطار القصصيّ لهذا الفيلم الروائي القصير.

فيلم "واحدة كده" فيلم مُعقَّد في صناعته. أستطيع أنْ أقسِّمه -ضمن منهجيَّات أخرى في تحليله- إلى ثلاثة أقسام: إطار قصصيّ، وقوالب شخصيَّة، ومعنيَيْنِ. وقد استغلَّ الصُنَّاع الإطار القصصيّ لبثَّ العُنصرَيْن الآخريْن. لكنْ قبل الاهتمام بهما علينا الوقوف مع شخصيَّة البطلة.

البطلة شابة تعيش مع أمِّها، وترتبط بمشروع زواج، وتعمل في شركة، وتعيش في حيّ "مصر الجديدة"، ومن هاتفها -الذي أظهره المخرج في لقطة- يتضح أنَّ ميسورة الحال. كلُّ هذه عناصر قد توحي أنَّها امرأة سعيدة تحفل بالأمل في حياة قادمة، ومستقبل مضمون -كما يُقال عن مثيلاتها-.

لكنَّ الحال غير الحال؛ فبمُجرَّد الاقتراب منها سنجد أنَّها تُعاني الأرق -فيما أوحى الفيلمُ بشكل دائم-، حالتُها المِزاجيَّة سيِّئة جدًّا، تحت عينَيْها هالات سوداء، وإذا دقَّقنا في ملامحها في مشاهد تحضُّرها للعمل سنجد عليها آثار تعب ظاهر، تعب يأتي من الداخل النفسيّ لا من الخارج الجسديّ. فهذه بشرتها الذابلة وهي في ريعان شباب، وهذا الانطفاء في ماء الوجه، وهذا المظهر الباهت الذي يتستَّر وراء ألوان التجميل. وبالعموم نلقى شابة -والشباب عهد الإقدام على الحياة- تمارس الحياة على استحياء بحُكم الواقع وحسب؛ بل تشكُّ شكًّا ظاهرًا فيما قالوا لها إنَّه "حياة".

إنَّ هذه البطلة المَهزومة لمْ يُبرِّر الفيلم هزيمتها بعامل واحد -شخصًا أو جهةً أو عنصرًا-؛ بل اعتمد على إظهار تضافُر المعاني التي تصنع الهزيمة في مرحلة عُنفوان الإقبال والإحساس بالانتصار. فضغوط عائليَّة في صورة أمِّها التي تعاملها كطفلة ما زالتْ في عهد ضفائر الشَّعر بعد الاستحمام، مع عدم إدراك بأنَّها قد انتقلت إلى مرحلة أخرى، قد تحتاج منها إلى معاملة مُغايرة واحتياجات تفوق صناعة شطائر الطعام المُعلَّب في عُلبة طعام المدرسة! وصورة الخطيب -الزوج في المُستقبل- الذي يُبدِّي رغبته على رغبتها، واحتياجاته على احتياجاتها، وتشعر أنَّه يحبها ويريدها وأنَّه لا يميل إلى التضحية لها في الوقت نفسه.

وضغوط اجتماعيَّة من أوَّل الجار الذي استخدم فيه الصورة النَّمطيَّة المتهالكة للمُسلِم المتشدد في الأفلام العربية -الرجل الذي يرتاب في كلّ مَن حوله ويتهمهم ويعاملهم بفظاظة وإنكار-، في شكل جارها الذي يراها مُتسيِّبةً مُنحلَّة؛ لأنَّها لا تلبس النقاب مثل زوجته -هكذا قدَّمَ الفيلم الموقف-. وزميلاتها في العمل: بين نظرة التفاهة المحضة وعدم الاكتراث إلا بالنفس، وما بين أخرى تغار منها فتوجِّه لها سهام التجريح الشائن في صورة نصيحة مسمومة.

وضغوط مُجتمعيَّة في العمل بوصفه عملًا -لا حيِّزًا اجتماعيًّا-؛ فقد كان العمل في الفيلم مصدر ابتزاز ماليّ، وملل داخليّ، وإجبار للتعامُل مع غير المُؤهَّل. وكذلك معاني أخرىتكثفت في مشهد نصيحة الزميلة لها، وفي المشهد الأخير. كلُّ ما سبق صنع هذا البطل المهزوم؛ والفيلم به حسّ نِسْويّ، لكنه خلا من تلك الثنائية البغيضة التي تقيمها النسوية بين الرجل والمرأة، وانساب في جنبات أعظم فُسحةً ليشير إلى أبطال مهزومين نجد أمثالهم مئات الآلاف في أوطاننا؛ شباب في عُمر الزهور يضيقون ذرعًا بكُلِّ شيء، ولا يعلمون أنَّهم تحت تأثير "الاستلاب" الذي يُمارَس عليهم من جهات عدَّة في المُجتمع؛ استلاب لإرادتهم، ولاختيارهم، ولأوطانهم وخيراتها، ولتعبيرهم عن إرادتهم، ومن قبلُ استلاب لتعليمهم بأي معيار جودة.

حتى نجد الشباب يشعرون بضغط هائل لا يدرون مصدره؛ لكنَّه يظهر في هروبهم إلى مُمارسات سقيمة -مثل المُخدِّرات التي صارت تُباع كأنَّها حلوى في الطُّرُقات-، ويظهر في اختيارات خاطئة في كلّ مناحي الحياة، ويظهر في حالة استقطاب هائلة وكأنَّ المُجتمع الواحد فريقَا كُرةِ قدمٍ يتنافسانِ؛ إمَّا أن تكون معنا أو علينا، ويظهر في رُوح شكّ بين النفوس بعضها بعضًا، ويظهر في حالة اختناق طافح؛ وكأنَّ المُجتمع بركان خامد لا يدرك كيف ينفجر، ولا متى لحظة الانفجار. فمَنْ المسئول عن هذا يا ترى؟! ولعلَّ كلمة "المسئوليَّة" تشير بأصابعها إلى الجُناة الحقيقيِّين!

ولننظُر إلى مشهدَيْن كانا يُمثِّلانِ وَهْمَ الخلاص من شَرَك المُجتمع الخانق الذي تعيشه بطلتنا المهزومة. الأوَّل هو مشهد الاستحمام؛ فما طفقت تدخل إلى الحمَّام حتى تغيَّرتْ الموسيقى، لتدلَّ على أنَّها على وشك مُغامرة سحريَّة. ليس هناك عَجَبٌ في الأمر؛ فمجتمع ضاغط على رقاب الجميع لصالح أفراد تكون فيه لحظات استحمام تحت ماء دافئ لحظاتٍ سحريَّة! على الأقلّ قد وجدت فيها بطلتنا بعضًا من الأمان والشعور بالدفء والهروب من اختناق الواقع. والمشهد الآخر هو أثر مُحادثة بينها وبين زميلها؛ حيث نجد ارتسام الابتسامة للمرَّة الأولى على وجه البطلة. من محض كلمات قليلات عن مُقاومة الضغط وإعادة البحث عن الحياة!

هذه كانت "الواحدة" التي تناولها الفيلم. أمَّا تلك الصور والتخييلات التي عرضها الفيلم في غالب المشاهد؛ فهي للتعبير عن حالة "القَوْلَبَة" المُجتمعيَّة. وهذه القولبة من آثار أو أعراض المُجتمع المختنق أيضًا؛ الذي -كما سبق- سرعان ما يبدأ في الشَّكّ الذاتيّ، والتفتُّت الداخليّ من الكيان المُجتمعيّ المُوحَّد النسيج، إلى كيان مسخ مُهترئ من كلّ جانب.

وقد اعتمد المُخرج على تصوير أو تخييل أفكار الشخصيَّات الأخرى تجاه البطلة، وإبدالها مكان اللقطة الحقيقيَّة التي الأصلُ أنْ نراها. فمنذ المشهد الأوَّل المُمتدّ نجد تصويرًا لتخيُّل شخصيَّة البطلة من أمِّها في صورة الطفلة تقعد على سريرها، وهذا الجار وتخييله إيَّاها بصورة تشبه البغايا، وهذا المخطوب يتصوَّرها مرَّةً في هيئة فتاة خجول مستبشرة الوجه تلبس فستانًا ورديًّا، ومرَّةً أخرى في هيئة سجَّانة منقبضة السِّحنة ترتدي ثياب السجَّانات. وهكذا يمضي الفيلم في استدعاء تصوير الشخصيَّة في قوالب من ذهن المُحيطين بها.

الفيلم يصور الشخصيَّة في قوالب من ذهن المُحيطين بها

ثُمَّ يردُّ هذا التخييل لها؛ فلمْ تتلقَ فقط الصور والقوالب من الآخرين بل هي صدَّرتها أيضًا. وذلك في مشهد تصويرها زميلها الذي يسألها عن أقلّ تفاصيل العمل في هيئة الحمار، وفي مشهد الحمَّام وتصويرها في هيئة الفتاة الحبيسة مُجتمعيًّا بالزيّ الأسود -قد يكون تصوُّرها مرةً استدعاءً لنصيحة الزميلة، وقد يكون تصوُّر الزميلة لها-، وفي تصويرها للمجتمع كلّه في المشهد الأخير.

أمَّا عن المعنيَيْن؛ فيتمثَّلانِ في مشهدَيْن هُما الأفضل من وجهة نظر صُنَّاع العمل، وعليهما كان ارتكاز الفيلم. الأوَّل مشهد المحاورة بين البطلة وبين زميلها "حازم سمير" المُنسجم رائق المِزاج، الذي لا يأبه بشيء في الحياة، وهو لا يهوِّن من شأن الضغوط -في حقيقة الأمر- بل يهرب منها هربًا، مُكرِّسًا لمنحى "اللا اكتراث".

يبدأ المشهد من زاوية خلفيَّة للبطلة في استراحة العمل في الهواء الطَّلق، والمشهد مُظلم مُعتَّم. ثمَّ يأتي الزميل، فتسأله عن سرّ ابتسامته الدائمة. فيجيب -بعد أنْ يعكس المُخرج الزاوية فنجد الزميلَيْن والشمس قد أشرقتْ عليهما بعد أنْ كانت مُعتَّمة في معكوس الزاوية- أنَّه لا يعطي فرصة للهموم والضغوط في التحكُّم فيه، ويدعوها للتأقلُم على الضغط، وأن تتمرَّن على مُدافعتها. مِمَّا يسبِّب لها بعض الانفراجة في أساريرها، بمُجرَّد حديث عابر تلتمس فيه الأمل من الخروج من حيِّز الاختناق.

المشهد الآخر وهو أهمُّ المَشاهد على الإطلاق؛ ونجد فيه حُلم البطلة أثناء استرخائها في سيارة العودة، وفي الوقت نفسه هو من تخييلات البطلة لمُجتمعها. وتفتح عينَيْها على ميدان (هو ميدان الإسماعيليَّة في حيّ مصر الجديدة) وتنظر من شباك السيارة. وحينها تتجوَّل بنا الكاميرا المحمولة؛ لنرى كثيرًا من الأشخاص الذين يمثلون في مجموعهم حالات وأوصاف المُجتمع. لتعبِّر عن لامعقوليَّة المجتمع، وعبثيَّته، وجنونه في أحيان، ومَظهريَّته في أخرى، وكثير من سلبيَّات. ثمَّ نجد البطلة تجلس على مقعد، ومن ورائها حافلة تسير إلى آخر الطريق ثمَّ تستدير مع المنحنى عائدةً على البدء. وكأنَّه يقول إنَّ المدينة ستظلُّ في طريقها غير مُبالية بما يحدث.

لقد تمتَّع الفيلم بالكثير من عناصر الجودة؛ مثل الموسيقى التي قادها محمد ناصف والتي واكبت انحناءات الفيلم المُتعدِّدة، والصوت الذي حرص المُخرج على استدعائه -أقصد هنا صوت المُحيط- في غالب المَشاهد. وكذلك التصوير الذي اعتمد على استخدام الزاوية الواسعة في الغالب، والزاوية العلوية العمودية في مشهدَيْن.

وبالقطع، كان لتمثيل البطلة ريهام عبدالغفور الدور الأبرز؛ حيث قادت دفَّة الشخصيَّة بمهارة وسلاسة غير غريبتَيْن عنها وعن موهبتها الرفيعة. التي نتمنى أنْ تنال مكانتها من تمكين العمل ومن التكريم، وأنْ تتصدَّر المواهب الحقيقيَّة بدل آفات الزِّيف التي تتصدَّر. وهنا نسأل ويسأل الفيلم معنا: هل ستمضي المدينة في طريقها، أم أنَّ المدينة وأهلها لهم رأي آخر؟!