وعد بلفور والذاكرة العربية

الألزهايمر السياسي العربي وصل إلى مستويات تجعل من وعد بلفور وعدا بالزواج لم يتحقق.
عبارة "الهبة الفلسطينية" صارت بديلا لمصطلح "الانتفاضة"
نحن في أشد صور ضمور الفكر العربي وفي أسوأ صوره الثقافية والسلوكية

في خمسينات وستينات القرن الماضي وما بعدها، كنا ننتظر الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر، ليكون مناسبة مقدّسة للتعبير عن الغضب العربي إزاء الوعد البريطاني لليهود بإنشاء دولة لهم في فلسطين. كانت هذه المناسبة في بيروت تحديدا، لها نكهتها الخاصة، مسيرات ونشاطات وفعاليات تغطي الحدث، الذي كان يوما بالنسبة للكثيرين، مفصلا مركزيا في تاريخ العرب الحديث، حيث كانت البداية في تفتيتهم وتجزئتهم ولو بعد حين.

المفارقة اليوم، أن هذه الذكرى مرّت دون أثر يذكر في الإعلام اللبناني والعربي، وإذا كان ثمة أثر، فهو خجول ولا يكاد يسمع أو يرى. والمفارقة الأسوأ في ذلك، أن نسبة كبيرة جدا بين طلاب الجامعات، وبخاصة المتخصصة في العلوم السياسية مثلا، لم تعرف تاريخ الوعد، ولا حتى مضمونه، والمضحك المبكي أيضا، أن الإيماءات التي ظهرت على بعض وجوه المستصرحين في أحد التقارير التلفزيونية، أظهرت وكأنهم قادمون من عالم آخر، فإحدى الطالبات مثلا، جنحت بخيالها إلى صور نمطية أخرى، وكأنها تود القول عن هذا الوعد، انه "وعد بالزواج وقد أُخل به"، وهي مواءمة نمطية مع عيد العشاق مثلا، إنها فعلا غرابة العرب والدرك المخيف الذي وصلوا إليه!

طبعا تشكل هذه الظاهرة، صورة نمطية لدى الكثيرين من العرب أكاديميين وغير أكاديميين، وهي صورة من صور كثيرة، تعبر عن واقع مأساوي، في السلوك الذي أجبر العرب عليه، وهو إغراقهم بتفاصيل حياتية كثيرة، بهدف إجبارهم على نسيان القضايا المركزية، التي ينبغي أن تكون جزءاً من يومهم المعاش. فمن يتحمل مسؤولية ذلك في مجتمعاتنا العربية؟ طبعا السلطة وهو جواب معروف، لكن الأمر يتعدى ذلك بكثير، فالأنظمة هي التي أوصلتنا إلى هذا المستوى من "الأزهايمر السياسي"، ذلك لا يعفينا نحن "المثقفون إذا كنا كذلك"، من دور ما، يمكن أن يُلعب في إعادة إحياء ما تبقى من قضايا في الذاكرة الجمعية لمجتمعاتنا وقضايانا، بخاصة في محيطنا الأكاديمي على الأقل.

ففي قراءة سريعة لبعض المناهج الأكاديمية في جامعتنا العربية، ومنها جامعتنا اللبنانية مثلا، لا أثر موزون للقضية الفلسطينية، وهي قضية يمكن أن تدرس كأمر عابر ضمن مادة أو مقرر في فصل معين، وبحسب ما يراه الأستاذ مناسبا، بينما كانت القضية الفلسطينية تُدرس مثلا، كمادة مستقلة في برامج العلوم السياسية، إضافة إلى مقررات متصلة بها في محاور دراسية أخرى، أما اليوم فهي غير موجودة مثلا، وقد ألغيت بداية تسعينيات القرن الماضي، بعد انسياب فكر السلام العربي الإسرائيلي ومفاوضاته إلى عقول وأذهان العرب، ما أثر على سلوك وفهم شبابنا الذين عاشوا حالة تلقينية ملتبسة للكثير من القضايا المركزية العربية ومنها القضية الفلسطينية.

والمفارقة الأغرب الذي تظهر هنا أيضا، ليست فقط ببعض القضايا، بل في المصطلحات التي ترافق تغطية الحدث الفلسطيني مثلا، فيستعمل مصطلح "الهبّة الفلسطينية" مثلا بدلا من مصطلح "الانتفاضة الفلسطينية"، رغم أن أدوات المواجهة الفلسطينية ووسائلها ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، وآثارها هي واحدة في كلتا الحالتين، أي بمعنى آخر، بتنا كذلك نبحث عن المصطلحات المخففة لطبيعة المواجهة وآثارها ونتائجها، والمضحك المبكي أيضا في الموضوع، أن بعض مقدمي الأخبار والبرامج السياسية، يلفظون مصطلح "الهبّة الفلسطينية"... "الهِبْة الفلسطينية".ألا يستحق هذا الأمر، إعادة نظر من قبل القيمين على وسائل إعلامنا، اللهم إلا إذا كان المقصود هو كذلك.

باختصار وبوجل وخجل شديدين، بتنا اليوم في أشد صور ضمور الفكر العربي، وفي أسوأ صوره الثقافية والسلوكية، ما يؤشر إلى مراحل قادمة ستكون أشد قسوة علينا، في طريقة فهمنا للكثير من قضايانا وطرق ووسائل حلها، وتخطي تداعياتها، ما يستدعي التنبه لما هو أعظم وأفظع، لنكون مهيئين علميا وعمليا، لا أن نكون متنبهين بالسجية أو بالفطرة أو كما هو شائع فينا بالصدمة.