وقيعة الهامش كمحاججة للمتن في ثلاثيات الزبيدي التقابلية

كل عمل من الأعمال النحتية الأربع للنحات العراقي محمد ناصر الزبيدي يتكون من ثلاث متون جسدية مستقلة عن بعضها لتؤلف في النهاية عملاً متكاملاً يُكمل مبتداه منتهاه ليس بالتماثل والتطابق في الإطار العام لجسد كل منحوتة على حدة بل بتآزر الأجساد الثلاثة لإيصال مقولة العمل النهائية وما تنفتح عليه من مستويات التحليل والتأويل.

على عكس قاعدة التبئير التي ينزع إليها المنطق أو منطق المعالجة، كأداة للإحاطة والمحاصرة، من أجل وصوله إلى الحقيقة، ينزع الفن للتشطير وتعديد أسطح التمظهر، كأداة لتوسيع قواعد الجدل، في محاججته للقول ان وجوه الحقيقة تتعدد بعدد زوايا النظر وشرفات الإطلال عليها، ومن هنا جاءت رؤية ادوارد هوبر "ما يمكننا قوله بالكلمات لا نحتاج أن نعبر عنه بالفن".

إذاً يتصدى الفن لانتزاع وتجسيد ما تعجز اللغة عن تقديمه أو التعبير عنه؛ وعلى هذا الأساس يظهر الفنان ليقدم لنا الهدايا التي تعجز الحياة عن تقديمها لنا.

وبهدي من مقولة الفنان، بابلو بيكاسو "اللوحة الفنية مجموعة من عمليات التدمير" نستطيع التسلل إلى عالم أي فنان، سواء كان رساماً أو نحاتاً، من أجل محاولة القبض على بعض الإشارات "التدميرية" للسطوح المستوية التي تمثل خامة عمله والفكرة المحرضة على انشائه، في الآن ذاته.

هذا ما قرأته، كمانشيت دلالي، وأنا أقف على عتبة الدخول إلى عوالم ومضاضات أربع من الأعمال النحتية، المتكاملة في إداء رؤية لحظة من لحظات تجلي النحات العراقي محمد ناصر الزبيدي، وهي التي سأضعها تحت عنونة، أرجو أن لا تبتسرها "ثلاثيات الوقيعة التقابلية"، بسبب كونها تتقابل من ناحية الشكل والمعمار الانشائي العام، وتختلف في المقولات وشفرات اشاراتها.

في هذه المنحوتات يعمد الفنان الزبيدي إلى تقنية التمويه الشكلي، فهو يجترح ثلاثة نماذج أو أوجه لفكرة منحوتاته الأربع، وبهيكل أو إطار عام متشابه، مع فروق جوهرية في التفاصيل التشريحية والاشارية، وبثلاث أجساد أو متون لكل منحوتة، وهي التي تكوّن بتكافلها وتعاضدها، في النهاية، منحوتة واحدة بثلاثة وجوه أو تمظهرات لتشكل فضاء ومقولة العمل النهائية، بصيغة تكافل المتون الثلاثة.

على صعيد التجريب، تكاد تكون هذه المنحوتات، تجربة أولى ومتفردة في تاريخ النحت العراقي، من حيث الشكل وبناء جسد العمل ومتنه، إضافة إلى تشعب رؤيته ومقولته لأكثر من زاوية ودلالة، وهو ما يفتح هذا الجنس من العمل على مستويات متعددة ومتكاثفة، في القراءة والاشارة والتلقي.

وكما أشرت، فإن كل عمل من هذه الأعمال النحتية الأربع، يتكون من ثلاث "فكرات" أو متون جسدية مستقلة عن بعضها، لتؤلف في النهاية عملاً متكاملاً ويُكمل مبتداه منتهاه، ليس بالتماثل والتطابق في الإطار العام لجسد كل منحوتة على حدة، بل بتآزر الأجساد الثلاثة لإيصال مقولة العمل النهائية وما تنفتح عليه من مستويات التحليل والتأويل، كعمل متكامل يتكون من ثلاثة أجزاء.

إنه تكنيك الايهام بوقع النظرة الأولى أو تلقي الملامسة الأولى لوجه العمل، في اطاره الانشائي الخارجي، قبل تجاوز سطوة ووقع قراءة النظرة الأولى والغوص في تلافيف ومسارب العمل الداخلية وما تنفتح عليه وتفضي إليه شفرات العمل السرية أو المدغمة في التفاصيل التي يكمن فيها شيطان الابداع.

ورغم أن الفنان محمد الزبيدي يمارس نحته على الخشب، "كخامة هي الأكثر لدانة وطواعية من بعد الطين" إلا أنه يوقف ضربات سكاكينه ومكاشطه على جسد الخشب الخارجي، من دون أن يستغوره إلا  في ضربات قليلة، إلا أنه ينجح في فصد وقيعة متن منحوتاته، عبر براعته في رسم خطوط توغله في جسد الفكرة، رغم تشبث هذه الخطوط بجسد المنحوتة الخارجي وعدم توغلها في العمق الموهوم لتقدير عين المتلقي.

إنه يخطفنا من لحظة حسنا الزمني ليدرج بنا في تفاصيل الجسد الإنساني، كممثل للحضور الفاعل والملموس للذات والكينونة الإنسانية، عبر سلسلة من خطوط التمويه التي تشير إلى مراحل الخنق والقمع والتكبيل التي يتعرض لها الإنسان في حريته وحقه في التعبير عن ذاته، بتضييق كل فضاء من حوله، وحصره في زنزانة القمع والترهيب التي تمارسها عليه أشكال القمع وسلطاتها، السياسية والاجتماعية والدينية، وإلى أن تحيله إلى مجموعة من الأشرطة، كما تجسد هذا إحدى منحوتات هذه المجموعة، مع تركه للمتلقي عملية تسمية هذه الأشرطة وإحالاتها وتأويلاتها، من دون تدخل منه، كمنشئ ومرسل، كي لا تتحول سلطة الفنان فيه إلى وسيلة قمع مضافة على المتلقي، وهذه هي وقيعة المنشئ المبدع في استدراج المتلقي ليكون جزءاً من عملية خلق الفكرة والتعبير عنها.

إنها وقيعة الفنان العارف لاستدراج المتلقي ليكون مشاركاً حراً وفاعلاً في عملية نحت السؤال واطلاقه في وجه قوى وسلطات قمعه ومصادرة حريته، التي هي– حريته - فحوى وغاية وجوده، ولتسجيلها كطرقة على بوابة الشقاء الإنساني، بتعبير ألبير كامو، وإنه، ككينونة، أكبر من وجوده العياني المتمثل بالجسد القابل للطي والاندثار.

ومن جهة أخرى، وكما تؤكد منحوتة الرؤوس، بوجوهها الحزينة المصفرة "وهي المنحوتة فاتحة اللون الوحيدة في المجموعة" التي تتضمنها المجموعة، فإن الذات الإنسانية مدعوة للفعل المضاد للقمعوعدم الاستسلام للقهر والحزن، أي دعوة لصنع الحياة وتحقيق الذات، بدل الاستسلام للحزن والتوجع الذي جسدته وجوه المجموعة الصفراء الثلاث.

بقي أن نذكر ان الفنان قد اعتمد تقانة التقابلية هذه "تكرار المظاهر الخارجية أو جمع ثلاثة زوايا نظر في فضاء أو تحت سقف جامع" من أجل تجسيد مراحل (تطور) نكوص واضمحلال الذات الإنسانية، في حالة استسلامها لمطارق قمع السلطات ومصادرتها لحريتها وتغيب ارادتها عن فعل الخلق الذي هو فحوى وجودها الأول.