ومن الشعر ما قَتل قائله
لا يعدم الانسان المبدع والناجح في مسيرته وحياته، من افراد يتمنون له الفشل أو السقوط أو ربما الموت! وهذا بطبيعة الحال يكون من نفوس شريرة ونتيجة دوافع واختلالات نفسية، مثل دوافع الحسد أو البغض أو الطمع، أو حب الذات! ومن أجل هذا فانهم يسعون لتفريغ هذه الشحنات النفسية حتى وان كان نتيجة ذلك ازهاق تلك الشخصيات البريئة والناجحة والمتميزة والمبدعة!
قصة القصيدة التي سأتحدث عنها بعد أن سئمنا اخبار الحروب، ونفاق ومداهنة السياسيين في الوقت الراهن، هي نموذج لهؤلاء المبدعين الذين كانت اقدارهم الموجعة (وقدرنا أيضا) أن تغتالهم النفوس الشريرة، قبل ان يصل الينا الكثير من نتاجهم واشعارهم المتفردة والبديعة!
وقصتها كما قدم لها العلامة عبدالعزيز الميمني: ان ملكة اليمن آلت على نفسها ان لا تتزوج الا بمن يقهرها بالفصاحة والبلاغة ويذلها في الميدان، فلم يتفق ذلك لأحد مدة طويلة، فسمع بها بعض الشجعان البلغاء، وجاء يطلب محلها، فمر ببعض احياء العرب، فأضافه كبير الحي وسأله عن حاله فأخبره بما هو فيه، واطلعه على القصيدة المذكورة، وكان ممن خطب المرأة سابقا، فحمله الطمع ان رضخ رأس الرجل بحجر الى ان مات، واخذ القصيدة المذكورة واضافها لنفسه، وذهب إلى المرأة ليخطبها وذكر أنه كفؤ لها فقالت: من اي الديار أنت؟ قال: من العراق.
فلما اطلعت على القصيدة، رأت فيها بيتا يدل على ان قائلها من تهامة، فصرخت بقومها وقالت: الزموا هذا فانه قاتل بعلي، فأخذوه وعذبوه، فأقر بما فعل، فرجعوا اليها به، فأمرت بقتله فقتلوه وآلت على نفسها ان لا تتزوج بأحد بعده، كرامة لهذه القصيدة.
وقبل ان نطالع نص القصيدة التي عزيت إلى سبعة عشر شاعرا كل منهم قد ادعاها لنفسه وهو يكذب في دعواه، ينبغي ان نشير إلى ان قصتها جاءت بشكل مختلف عند "جرجي زيدان"، فقد ذكر في قصتها:
ان فتاة من بنات امير من امراء نجد بارعة الجمال اسمها "دعد "، كانت شاعرة بليغة، وفيها انفة، فخطبها الى ابيها جماعة كبيرة من كبار الامراء وهي تأبى الزواج الا برجل اشعر منها، فاستحث الشعراء قرائحهم ونظموا القصائد فلم يعجبها شيء مما نظموه، وشاع خبرها في انحاء جزيرة العرب وتحدثوا بها، وكان في تهامة شاعر بليغ حدثته نفسه أن ينظم قصيدة في سبيل تلك الشاعرة، فنظم تلك القصيدة، وركب ناقته وشخص إلى نجد، فالتقى في طريقه بشاعر شاخص اليها لنفس السبب وقد نظم قصيدة في "دعد"، فلما اجتمعا باح التهامي لصاحبه بغرضه وقرأ له قصيدته، فرأى ان قصيدة التهامي اعلى طبقة من قصيدته وأنه اذا جاء بها إلى" دعد" اجابته إلى خطبته، فوسوس له الشيطان ان يقتل صاحبه، وينتحل قصيدته فقتله، وحمل القصيدة حتى أتى نجد، ونزل على ذلك الأمير واخبره بما حمله على المجيء، فدعا الامير ابنته ، فجلست بحيث تسمع وترى، واخذ الشاعر ينشد القصيدة بصوت عال على جاري عادتهم، فادركت " دعد " من لهجته أنه ليس تهاميا، ولكنها سمعت في أثناء انشاده ابياتا تدل على ان ناظمها من تهامة، فعلمت بنباهتها وفراستها ان الرجل قتل صاحب القصيدة وانتحل قصيدته، فصاحت بأبيها : اقتلوا هذا الرجل انه قاتل بعلي. فقبضوا عليه واستنطقوه فاعترف.
مهما يكن من أمر ورغم اختلاف سرد الروايتين اللتين يؤكد رواة الشعر انهما موضوعتان، فمن المؤكد أن قائلها والذي اختلف الرواة أيضا في اسمه ولم يتفقوا عليه! وهذا من شأنه ان يجعل القصيدة أكثر ألقا وسحرا، فقد ذكر الألوسي في كتابه "بلوغ الأرب" واحدا وعشرين بيتا من هذه القصيدة وقال: "وفي الشعر الجاهلي كثير من اوصاف النساء المحمودة من ذلك قول بعضهم من قصيدة..." لكنه لم يذكر اسم القصيدة، ونسبها الى احد الشعراء الجاهليين، وقال آخرون انها من غفل شعر ذي الرمة، مع ان ذا الرمة شبب طول حياته بــ"مي بنت عاصم" وليست "دعد" المذكورة في القصيدة، وقال الاخفش: هي القصيدة اليتيمة ولم يذكر اسم قائلها، اما ابو العباس المبرد فقد قال: هي القصيدة التي لا يعرف قائلها وهي اليتيمة وهذا هو الاقرب الى الصواب كما ذكر المحققون..من المؤكد ان قائلها قد ترك شعرا بديعا وأثرا خالدا باقيا. النص يقول فيه:
هَل بِالطُلولِ لِسائِل رَدُّ
أَم هَل لَها بِتَكَلُّم عَهدُ
أبلى الجَديدُ جَديدَ مَعهَدِها
فَكَأَنَّما هو رَيطَةٌ جُردُ
مِن طولِ ما تَبكي الغيومُ عَلى
عَرَصاتِها وَيُقَهقِهُ الرَعدُ
وَتُلِثُّ سارِيَةٌ وَغادِيَةٌ
وَيَكُرُّ نَحسٌ خَلفَهُ سَعدُ
تَلقى شَآمِيَةٌ يَمانِيَةً
لَهُما بِمَورِ تُرابِها سَردُ
فَكَسَت بَواطِنُها ظَواهِرَها
نَوراً كَأَنَّ زُهاءَهُ بُردُ
يَغدو فَيَسدي نَسجَهُ حَدِبٌ
واهي العُرى وينيرُهُ عهدُ
فَوَقَفت أسألها وَلَيسَ بِها
إِلّا المَها وَنَقانِقٌ رُبدُ
وَمُكَدَّمٌ في عانَةٍ جزأت
حَتّى يُهَيِّجَ شَأوَها الوِردُ
فتناثرت دِرَرُ الشُؤونِ عَلى
خَدّى كَما يَتَناثَرُ العِقدُ
أو نضحُ عزلاءِ الشَّعيب وقد
رَاح العَسيف بملئها يعدُو
لَهَفي عَلى دَعدٍ وَما حفَلت
إِلّا بحرِ تلَهُّفي دَعدُ
بَيضاءُ قَد لَبِسَ الأَديمُ أديم
الحُسنِ فهو لِجِلدِها جِلدُ
وَيَزينُ فَودَيها إِذا حَسَرَت
ضافي الغَدائِرِ فاحِمٌ جَعدُ
فَالوَجهُ مثل الصُبحِ مبيضٌ
والشعُر مِثلَ اللَيلِ مُسوَدُّ
ضِدّانِ لِما اسْتُجْمِعا حَسُنا
وَالضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدُّ
وَجَبينُها صَلتٌ وَحاجِبها
شَخطُ المَخَطِّ أَزَجُّ مُمتَدُّ
وَكَأَنَّها وَسنى إِذا نَظَرَت
أَو مُدنَفٌ لَمّا يُفِق بَعدُ
بِفتورِ عَينٍ ما بِها رَمَدٌ
وَبِها تُداوى الأَعيُنُ الرُمدُ
وَتُريكَ عِرنيناً به شَمَمٌ
وتُريك خَدّاً لَونُهُ الوَردُ
وَتُجيلُ مِسواكَ الأَراكِ عَلى
رَتلٍ كَأَنَّ رُضابَهُ الشَهدُ
والجِيدُ منها جيدُ جازئةٍ
تعطو إذا ما طالها المَردُ
وَكَأَنَّما سُقِيَت تَرائِبُها
وَالنَحرُ ماءَ الحُسنِ إِذ تَبدو
وَاِمتَدَّ مِن أَعضادِها قَصَبٌ
فَعمٌ زهتهُ مَرافِقٌ دُردُ
وَلَها بَنانٌ لَو أَرَدتَ لَهُ
عَقداً بِكَفِّكَ أَمكَنُ العَقدُ
وَالمِعصمان فَما يُرى لَهُما
مِن نَعمَةٍ وَبَضاضَةٍ زَندُ
وَالبَطنُ مَطوِيٌّ كَما طُوِيَت
بيضُ الرِياطِ يَصونُها المَلدُ
وَبِخَصرِها هَيَفٌ يُزَيِّنُهُ
فَإِذا تَنوءُ يَكادُ يَنقَدُّ
وَالتَفَّ فَخذاها وَفَوقَهُما
كَفَلٌ كدِعصِ الرمل مُشتَدُّ
فَنهوضُها مَثنىً إِذا نَهَضت
مِن ثِقلَهِ وَقُعودها فَردُ
وَالساقِ خَرعَبَةٌ مُنَعَّمَةٌ
عَبِلَت فَطَوقُ الحَجلِ مُنسَدُّ
وَالكَعبُ أَدرَمُ لا يَبينُ لَهُ
حَجمً وَلَيسَ لِرَأسِهِ حَدُّ
وَمَشَت عَلى قَدمَينِ خُصِّرتا
واُلينَتا فَتَكامَلَ القَدُّ
إِن لَم يَكُن وَصلٌ لَدَيكِ لَنا
يَشفى الصَبابَةَ فَليَكُن وَعدُ
قَد كانَ أَورَقَ وَصلُكُم زَمَناً
فَذَوَى الوِصال وَأَورَقَ الصَدُّ
لِلَّهِ أشواقي إِذا نَزَحَت
دارٌ بِنا ونوىً بِكُم تَعدو
إِن تُتهِمي فَتَهامَةٌ وَطني
أَو تُنجِدي يكنِ الهَوى نَجدُ
وَزَعَمتِ أَنَّكِ تضمُرينَ لَنا
وُدّاً فَهَلّا يَنفَعُ الوُدُّ
وَإِذا المُحِبُّ شَكا الصُدودَ فلَم
يُعطَف عَلَيهِ فَقَتلُهُ عَمدُ
تَختَصُّها بِالحُبِّ وُهيَ على
ما لا نُحِبُّ فَهكَذا الوَجدُ
أوَ ما تَرى طِمرَيَّ بَينَهُما
رَجُلٌ أَلَحَّ بِهَزلِهِ الجِدُّ
فَالسَيفُ يَقطَعُ وَهُوَ ذو صَدَأٍ
وَالنَصلُ يَفري الهامَ لا الغِمدُ
هَل تَنفَعَنَّ السَيفَ حِليَتُهُ
يَومَ الجِلادِ إِذا نَبا الحَدُ