وهم التنافس على الغناء

غناؤنا العربي اليوم يمضي على هواه من دون أن يكون ثمة فعل نقدي ينمي الإبداع الكامن فيه ويشخص الضعف والركاكة والوهن الذي أصابه.
التحدث عن علوم الغناء ليس كأداء الغناء
من يمحو أمية مغني اليوم

فكرة التنافس على الغناء التي تشاع اليوم في برامج تلفزيونية وأحاديث صحافية تنم عن جهل مريع بالدرس الأول في علوم الغناء!

المغني المندفع بفكرة التنافس الوهمية، يفترض أن ثمة مغنيا آخر في سباق معه، وهذا أمر غير صحيح مطلقا، إذا كان ثمة تنافس فهو مع نفسه وصوته ودربته على الأداء، أما الآخر فله طريقه المختلف، قد يوجد نوع من التقليد والتأثر، لكن بالتأكيد لا يمت بصلة لفكرة المنافسة بين صوتين. أقرب تعبير لهذا الأمر يمكن أن يكون الغيرة أو الحسد.

لا أحد من المطربين الذين يعلنون بأعلى أصواتهم اليوم بأنهم في منافسة شديدة، يوضح لنا ما هي الشروط الموضوعية لمثل هذا السباق، وإلى أي نتيجة يمكن أن يؤدي؟

من السهولة بمكان أن نصل إلى نتيجة مفادها أن المغني يتنافس مع نفسه ومع طبيعة صوته وقدرته على الأداء، ذلك هو المهم، التدرب على الأداء، المران، مخارج الحروف، فهم المقامات والإيقاعات، التعبيرية في الأداء، فكرة الغناء من الرأس بعد الارتقاء بغناء الحنجرة، ذلك أقصى ما يمكن أن يعبر عنه المغني.

تلك مواصفات يتعلمها الدارس لعلوم الغناء، ولسوء حظ المسامع اليوم أن نسبة كبيرة من مطربي اليوم لا يعولون عليها بقدر ما يعولون على مظاهر شكلية تستقطب لهم الأنظار على حساب المسامع.

الثورة الغنائية المتصاعدة في العالم العربي، تكاد تستحوذ على مساحة شاسعة من اهتمامات الجمهور بالسطوة الإعلامية المتدفقة، ولا تترك له الخيار، يرافقها في ذلك جفاف نقدي تذهب ضحيته الذائقة السمعية التي يعمل من أجلها النقد.

من البساطة أن نعد مئات الأصوات التي ظهرت خلال عقد واحد، سواء بجهدها الشخصي أو بدعم تجاري وإعلامي لشركات تلفزيونية وموسيقية، هذا العدد من المغنين لم يكن ليظهر خلال نصف قرن في ما مضى، مما أخل في المتراجحة الطبيعية لعلاقة الناس مع الغناء، وزاد من الضغوط على الأسماع.

والمؤسف في ذلك الغياب النقدي المرافق لهذا العدد من الأصوات، وعدم قيام نفس الجهات التي تخرج الكم الكبير من المغنيين، بدعم فعل نقدي مرافق لهم ومقوم لأدائهم ومنم لتجربتهم، لذلك ولدت أجيال غنائية على مدار العقدين الماضيين من دون أن ترافقها حركة نقدية موازية، غناؤنا العربي اليوم يمضي على هواه من دون أن يكون ثمة فعل نقدي ينمي الإبداع الكامن فيه ويشخص الضعف والركاكة والوهن الذي أصابه.

لقد تم اختيار مغن عراقي شهير في الأوساط الخليجية لتقديم برنامج تلفزيوني يعنى بشؤون الغناء، المؤسف في هذا الأمر أن شهرة هذا المغني لن تنقذه، لأنه ببساطة متناهية أمي في علوم الغناء ولا يمتلك أفكارا لكي يقترحها، وهو أيضا فقير في لغته، لقد أوقع نفسه في مطب موسيقي ليس بمقدور صوته أن ينقذه، لأن التحدث عن علوم الغناء ليس كأداء الغناء.