يوسف البحري: المسرح العربي يحتاج إلى تشريعات وكوادر وتمويلات 

المسرحي التونسي يؤكد أنه لا يوجد مسرح صاف مطلق منغلق عمّا حوله في السياق الثقافي العام.
لا توجد حدود صارمة بين الفنون وإنما توجد تفاعلات واختيارات تعود إلى ثقافة الفنان المسرحي واطلاعه ومرونته الفكريّة
هل لدينا فنّانون لكنهم مصابون بالكسل في كتابة معيشهم المسرحي؟

يتمتع المؤلف المسرحي والدراماتورج والسيناريست والقاص التونسي د. يوسف البحري، بحضور بارز في المشهد التونسي خاصة والعربي عامة، كونه يتابع عن كثب المشهد المسرحي العربي نتيجة مشاركاته سواء بالأعمال المسرحية أو كعضو في العديد من لجان تحكيم المهرجات المسرحية العربية أو كناقد وأستاذ جامعي بجامعة سوسة له دراسات كثيرة في المسرح والسينما والأدب.
من مسرحيات البحري "حقائب" إخراج جعفر القاسمي، وقد حصدت جائزة أفضل عرض مسرحي من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي 2010، والجائزة الذهبية لمهرجان المسرح الحر بالأردن 2011، و"التبديلة" التي أخرجها عبدالغني طارة، والتي شاركت في المهرجان الدولي للضحك 2012، و"زنفة النساء" إخراج الفرنسي اليل فاردار، و"خطوات" التي تم اختيار نصها ضمن أحسن 30 نصا في مسابقة النص العربي المعاصر 2012، "الفَخ"، و"رائحة حرب"، كما أشرف فنيا على مسرحية بازار لفرقة الدن بسلطنة عمان والتي حازت على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان المسرح الخليجي. ومن أعماله في القصة والرواية مجموعة "قصص تُكتَب مرتين" ورواية "كِيفْ كِيفْ".
في هذا الحوار مع البحري نتطرق إلى تساؤلات تخص رؤاه في عالم المسرح تونسيا وخليجيا وعربيا.
بداية وانطلاقا من لجوء المسرحيين لمسرحة الرواية أو اقتباسها أو إعدادها قال البحري "لا يوجد مسرح صاف مطلق منغلق عمّا حوله في السياق الثقافي العام. الحكايات التي يوظفها المسرح تأتي من الأساطير ومن أحداث التاريخ ومن أحداث المجتمع والأفراد ومن الأخبار المتفرقة في الصحافة والإعلام على مدى تاريخ المسرح. وتتميز عناصر الحكاية المسرحية في النص الدّرامي وعناصر النص الحيّ (على الخشبة) فنّيا وتقنيا بالتفاعل الدائم مع الفنون الأخرى والظواهر المحيطة بالفن المسرحي. 

الفكر المنظومي لا نجده إلا في الشارقة ويعود ذلك إلى ظاهرة ضخ الأفكار دون توقّف مما جعل السياسة المسرحيّة مرنة وناجعة ضمن أهداف مضبوطة.

المسرح ليس اختراع حكايات جديدة بالضرورة بل هو بناء مسرحيات لها كيان فنّي وثقافي أصيل أي لها فرادة تحقق الإمتاع الفنّي والعمق الفكري. شكسبير مثلا فعل ذلك ولا أحد يصف أعماله بكونها اقتباسا وإعدادا. وقبل ذلك كانت التراجيديات الإغريقية مستمدة من الأساطير ومن أحداث التاريخ، ولم يذكر أرسطو أنها اقتباس بمعنى أنها ليست إبداعا أصيلا. 
ما يربط بين فن الرواية وفن المسرح من اقتباس أو إعداد هو شكل من أشكال انتقال الحكايات بين الفنون أو انتقال تقنيات أو عناصر فنّية أيضا. لا توجد حدود صارمة بين الفنون وإنما توجد تفاعلات واختيارات تعود إلى ثقافة الفنان المسرحي واطلاعه ومرونته الفكريّة وروح الابتكار لديه وذكائه وشجاعته في تخطي أوهام الأحكام الفنّية المنتهية والنمطية. لذلك أرى أن انفتاح المسرح على الفنون الأخرى هو أمر من طبيعة الممارسة المسرحية كتابة وإخراجا نصا مكتوبا ونص خشبة في نفس الوقت. 
وأرى أيضا أنه لا توجد كتابة بالمعنى المطلق فكل كتابة هي إعداد واقتباس وتحويل واستلهام وتأثر وأخذ وتوظيف. فالابتكاريّة لا تكمن في مواد الكتابة بحدّ ذاتها أو تقنياتها بل في الرؤية الفنّية والفكريّة التي توجد وراء عمليّة الصنع الفنّي. أما الكتابة بمعنى الإنشاء المطلق الذي لا مثال له ولا حاضنة له ولا صلات جينيّة له بغيره فهي وهم".
ورأى البحرى أنه لا توجد عقبات تواجه الكاتب المسرحي أو المخرج عند تحويل الرّواية إلى نصّ مسرحي. ففي حال وجود عقبات فهي موجودة في شخص الكاتب المسرحي أو في شخص المخرج. الفرق الجوهري بين فن الرّواية وفن المسرح هو أن الرواية نقوم على شخصيات يقدّمها سارد يسمح أحيانا بنوافذ حوار بين الشخصيات وأن المسرح يقوم على شخصيات تقدّم نفسها مباشرة بلا وسيط على الخشبة تتحاور فيما بينها ولا أحد ينقل للمتفرّج ذلك الحوار. وإذا كان الكاتب المسرحي أو المخرج كسولا في عمليّة التحويل فيمكن أن يكتفي باقتطاع الأجزاء المتعلّقة بالحوار في الرّواية دون الانتباه إلى أن روح المسرح ليس في الحوار في حدّ ذاته بل في الصّراع الذي هو جوهر الدّراما. وإذا كان الكاتب المسرحي أو المخرج متحايلا وعاجزا عن التعاطي مع النص الروائي قراءة وتحليلا وتحويلا فقد يعمد إلى القفز على النص الروائي والاكتفاء بإشارات سطحيّة تربط الرواية بالمسرح ويذهب إلى الزخرفة الفنّية والإبهار التقني للتغطية على غياب عمليّة التحويل التي تحتاج إلى الدّراسة بفن الرّواية وفن المسرح معا وإلى الهدوء والصبر وإلى شجاعة الإنجاز ومراجعة الإنجاز دون توقّف حتى الوصول إلى درجة من الجودة.
وأكد البحري أن دور المسرح لا يقتصر على "التحريض" على الوعي والتنوير فقط. فمنذ نشأة ممارسة المسرح عند الإغريق إلى اليوم ومنذ بداية فهمه نظريا عند أرسطو في كتاب الشعر تغيّرت أدوار المسرح وتنوّعت واتّسعت وضاقت. ويمكن القول إن "الوعي والتنوير" ليس لهما طريقة واحدة في المسرح هي "التحريض" عليهما بواسطة مسرحيات تصنيعها نخبة وجمهور الناس "ينتقلون" إلى الوعي والتنوير بواسطة تلك المسرحيّات. هناك وسيلة أخرى هي نشر المسرح بين الفئات الاجتماعيّة والعمريّة وبين جهات البلاد. ففي تونس مثلا تخلو أغلب المدن والقرى والتجمعات السكانيّة من وجود المسارح المجهّزة اللائقة بالممارسة المسرحيّة وبالعروض أو تخلو من وجود المسارح أصلا. والأمر نفسه بالنسبة إلى المؤسسات التعليميّة من مدارس وجامعات. لا توجد فرصة التعرّف على المسرح أصلا أو التمرّس بصنعه وفهمه في أغلب البلاد فكيف الحديث عن دوره في التحريض على "الوعي والتنوير"؟
وأشار البحري إلى أن المسرح في تونس يكاد ينحصر في قاعات موجودة بشارعين بالعاصمة و"غيتو" مغلق اسمه "مدينة الثقافة" وبدل ان تبنى المسارح في شتى جهات البلاد وقع بناء قاعة "بمدينة الثقافة" وضع لها إسم "مسرح الجهات" كأنك تقول بدلا عن أن تسافر إلى اليونان تقوم بجلب اليونان إلى بيتك. أغلب البلاد التونسية تعيش في مرحلة ما قبل 1909 أي في مرحلة ما قبل أول مسرحيّة صنعها التونسيون "صدق الإخاء". لا يزال المسرح في تونس في تلمس البدايات الأولى مع عجز كبير في الهيكلة ووضع السياسات ورسم الخطط . 

الكاتب المسرحي التونسي
ليس لي مقترحات جاهزة 

وإذا دققنا النظر في السياسة المسرحيّة إن وجدت أصلا وفي خريطة البنية التحتيّة المسرحيّة جغرافيا وفي الفئات الاجتماعيّة والعمريّة وفي المؤسسات التي يرتادها الشباب خاصّة فإننا نكتشف أن أغلب البلاد التونسية في مرحلة ما قبل المسرح وليست في مرحلة "ما هو دور المسرح".
ولفت البحري إلى أن الفنان المسرحي في شتّى وظائفه كاتبا أو مخرجا أو ممثلا أو سينوغرافا أو دراماتورجا أو مصمم شريط صوتي أو مؤلف موسيقي أو سواه ينبغي أن يكون حرفيا وفنانا في نفس الوقت أي يتمتع بالمهارة في الصناعة المسرحيّة من ناحية ويتمتع برؤية جماليّة وفكريّة وثقافية من ناحيّة أخرى. وفي تجارب فنيّة كثيرة قد تخون ناحية ما الفنان أو النّاحيتان. أما العمل المسرحي فينبغي أن يكون مثيرا للإعجاب الفوري والاستمتاع من ناحية وأصيلا في مقاربته الفنّية والجماليّة وعميقا في معالجته الفكريّة الثقافيّة من ناحيّة ثانيّة وهذا ليس في متناول الجميع.
وأضاف أن هذا الامر يطرح مسألة "التكوين" أي ما الذي يوفّره التكوين الأكاديمي أو غير الأكاديمي للمسرحيّين؟ ومالفائدة من التكوين إذا كان مجرّد تلقين لمعارف ومهارات دون العمل على "شخصيّة" المسرحي؟ وقبل ذلك ما هي البيئة الفنّية والثقافيّة الموجودة الان؟ وما هو الصنف من الناس الذين تجتذبهم الممارسة المسرحيّة في هذه البيئة في العالم العربي؟ كيف نفسّر تدفقات هجرة المسرحيّين إلى التلفزيون في بلدان عربيّة كثيرة؟ وأين هي كتب "المعيش" المسرحي على النحو الذي ظهر مع بيتر لويس وستانسلافسكي وسواهما؟ أليست كتب المعيش مما يساعد على أصالة تجارب المسرحيّين وتفردها ومعرفة مدى تأثير الفنّانين؟ أليست دليلا على بحوث المسرحيّين أثناء الممارسة ووعيهم بالمفاهيم والأدوات وقدرتهم على تطويرها وتكشف رؤيتهم الفنّية؟ أم إنّنا في العالم العربي ليس لنا سوى حرفّيين مسرحيين وليس لنا فنّانون؟ هل لدينا فنّانون لكنهم مصابون بالكسل في كتابة معيشهم المسرحي مثلا؟
وأوضح البحري "قبل أن نسعى إلى العثور على الإجابة في نوعية الأشخاص الذين تجتذبهم الممارسة المسرحيّة يجب أن نفكّر في ماهيّة المؤسسة المسرحيّة التي تقوم بوظائف التكوين والإنتاج والتوزيع والبحث والنقد وسواها. هل هي من الناحية الإداريّة والماليّة واللوجستية والتسيير اليومي والتخطيط وصلتها بالمجتمع وبالدولة قادرة على إنتاج النوعيّة الرفيعة والديمومة في إنتاج النوعيّة أم لا؟ ثم هل لدينا في أغلب العالم العربي مؤسسات مسرحيّة فعليّة أم شبه مؤسسات أم ما قبل المؤسسات أم مؤسسات مشوّهة؟ انظر إلى ما يقع في تونس مثلا. توجد مؤسسة مسرحيّة وحيدة تتوفر فيها أركان المؤسسة المسرحيّة الحقيقية وهي المسرح الوطني التونسي لكنها الآن مشوّهة تماما بتسلّط الشخص "المدير العام" وتحويل المؤسسة لخدمة أعماله المسرحيّة الخاصّة ولخدمة أفراد من عائلته ومن أصدقائه بعيدا عن وجود برامج واستراتيجيات وأفكار وقيم مسرحيّة. أما ما بقي من هياكل في تونس في القطاع العمومي والقطاع الخاص فهي لا تتوفر على الشروط اللازمة لتوصف بكونها مؤسسات".
وحول ما إذا كانت لديه مقترحات للخروج بالمسرح مما هو فيه، قال البحري "ليس لي مقترحات جاهزة لإخراج "المسرح العربي" برمته مما هو فيه. ففي كل بلاد توجد مشاكل في المسرح تحتاج إلى معاينتها بحد ذاتها وتحتاج إلى حلول خاصّة بها. وفي كلّ بلد توجد مشاكل في التكوين المسرحي وفي الإنتاج المسرحي وفي سبل تمويل الإنتاج وفي توزيع العروض، وفي التشريعات والنظم المتعلّقة بالمسرح، وفي نمط المخرجات المسرحيّة وسواها لا تشبه المشاكل في بلاد أخرى. 
المسرح يحتاج إلى تشريعات وإلى كوادر وإلى تمويلات وإلى بنى تحتية وإلى منصات توزيع وتثمين للمنتوج وفي أغلب البلاد العربيّة لا نعرف هل توجد سياسات مسرحيّة أم مجرّد توجهات أم مجرّد وجود لنشاط مسرحي هكذا بدون تخطيط ورؤية. ومازالت علاقة المسرح بالمجتمع ملتبسة في بلاد عربيّة كثيرة بسبب أو بآخر مما يحرم الفن المسرحي من الحاضنة الاجتماعيّة. ويمكن أن نستثني الأوضاع المسرحيّة في الشارقة حيث يوجد نموذج متكامل للتخطيط والتنفيذ والتطلّع لمستقبل يصعب العثور عليه في باقي المنطقة العربيّة.
وأكد البحري أنه يتابع المسرح الخليجي عامّة لكن علاقته بالمسرح في الإمارات أقوى "لأن إحاطتي به أوسع من غيره ولأنّني جزء من زخمه. إنّه يتميّز بكونه ليس مجرّد أنشطة تقام ومسرحيات يتم صنعها. وإنّما توجد رؤية وآليات تخطيط وكفاءة في التنفيذ ومصداقيّة في النتائج والمخرجات. يتجلّى ذلك في الشارقة تحديدا حيث يتم العمل بمفاهيم جديدة في تنظيم وهيكلة المسرح. فالمنصات المهرجانيّة مثلا بلغت درجة عاليّة من الجودة. وتترابط فيما بينها بحيث تمتد من الصحراء إلى المدينة ومن مسرح الطفل إلى أيام الشارقة ومن المسرح الثنائي إلى المسرحيات القصيرة ومن المسرح المحلّي إلى المسرح الخليجي ومن المسرح المدرسي إلى المسرح الكشفي إلى مسرح الفرق الأهليّة، ومن المهرجان الواحد إلى الموسم المسرحي من شهر ديسمبر الى شهر أبريل. وهذا الفكر المنظومي لا نجده إلا في الشارقة ويعود ذلك إلى ظاهرة ضخ الأفكار دون توقّف مما جعل السياسة المسرحيّة مرنة وناجعة ضمن أهداف مضبوطة. ويكاد نموذج الشارقة في المسرح ينفرد عربيا بالتطلّع إلى المستقبل ضمن خطط وآليات تجعل من الخطط واقعا فعليا.