18 كاتبا مصريا في "سحر النيل"

الشاعر والناقد العراقي عذاب الركابي يتابع عددا من الإصدارات المصرية في مجال الشعر والرواية والقصة القصيرة.
الركابي يحتفي بنزيف أصابع المبدعين المصريين، وعطر قرائحهم الباذخ، بعد أن منحوه الإقامة المخملية في حقول قلوبهم
"أصداء السيرة الذاتية" هي سيرة الذات العاشقة والمفكرة المبدعة بلا حدود، وهو يرتب فروض الصلاة للكلمة الجادة والصادقة

تابع الشاعر والناقد العراقي عذاب الركابي عددا من الإصدارات المصرية في مجالات الشعر والرواية والقصة القصيرة، وكتب عنها في دوريات كثيرة داخل مصر وخارجها، وجاء الوقت الذي يجمعها بين دفتي كتاب حتى لا تتعرض للسهو وصدأ النسيان في مقبل الأيام، فاختار عنوانا غاية في الروعة والجمال، هو "سحر النيل – قراءة في الإبداع المصري المعاصر" الذي عنون به كتابه الصادر مؤخرا عن سلسلة "كتاب الهلال" بالقاهرة (العدد 827) برئاسة تحرير خالد ناجح.
ويرى الركابي أن هؤلاء المبدعين الذين يضمهم "سحر النيل" هم نغمة من نغمات صوت النيل العظيم، المموسقة أمواجه، ونسماته بهمس أرواحهم المعذبة بعشقه الذي غدا بشروط الصلاة،  رابضين في معبد أبديته وخلوده في سكون الأنبياء، وتسابيحهم الكلمات، وهي بذاكرة لا يطالها صدأ النسيان، تندلق بكل طزاجتها وسحرها، وهم سحرة، حبر كلماتهم عبق النيل، وإيقاع أمواجه، مصدر الإيحاء التعبيري والجمالي والنبوءة في أعمالهم، شعرا وقصة قصيرة ورواية.
وفي هذا الكتاب يحتفي الركابي بنزيف أصابع بعض المبدعين المصريين، وعطر قرائحهم الباذخ، بعد أن منحوه الإقامة المخملية في حقول قلوبهم، فصارت كل كلمة، وجملة، وعبارة، مصدر الوحي والحافز لولادة كتابة مغايرة، ورؤى جديدة في كتاب "سحر النيل".
في مجال الشعر يحتفي عذاب الركابي بالشعراء: أحمد فضل شبلول، وجرجس شكري، وعبدالعزيز موافي، وفاطمة ناعوت، ومفرح كريم.
ويقول عن قصائد شبلول إنها بدأت لتستمر، لأنها صورة لحياة، كلما عشتها بدأت، وغناء جارح مكتوب بأحرف رتَّبتها زرقة البحر، وجنون الموجة، وخيوط الضوء، وإيقاعات المطر، قصائد كتبتْ نفسها بعطر الجسد العاشق، وورق الروح الهائمة بكل ما هو حياتي وحميمي وجميل. قصائد تؤرخ لهم إنساني عاصف بحالة حزن شديدة، غير محبطة، يرفع من قدسيتها حلم وعشق يحمل في تفاصيله كل أسرار القصيدة.

إبراهيم أصلان في قصصه القصيرة فنان يشكل، بل يرسم، بحب ومهارة وشاعرية وتقنية عالية، وكأنه يؤلف صورا وأنغاما بواسطة الكلمات

أما عن جرجس شكري، فيقول عنه الركابي إن المفردة الشعرية الجميلة التي يستخدمها شكري راقت له، فهي مزيج من العفوية والبساطة والعمق معا، تلقائية إلى حد الانتشاء، وسليطة إلى حد الابتهاج، تومض ببرق الإيحاء، وتحمل الكثير وتعد بالكثير، ملفتة لغزارة شحنتها الشعرية، خفيفة الظل، وذات إيقاع حياتي، والتقاط يومي مميز، مفردة جديدة متفجّرة، تحكي كل شيء في لمحة وومضة شعرية مدهشة ومثيرة.
وعن صورة النساء في ديوان الشاعر عبدالعزيز موافي يرى عذاب الركابي أن الشاعر يقوم بدور النحّات والرسام، وهو يشكل بورتريها يجدد في العين ماءها، وينزع من القلب بنضه الخامل، ويعيد للجسد الناحل رياضته الملائكية، في تراكيب شعرية، تردم أنفاق البلاغات الخاوية، بمواكب فنها وتوهجها اللغوي، وإذا كانت للكلمات كل هذا السحر، فإن للمرأة – المخلوق الخرافي المقدس – كل هذه الحياة والعذوبة والغموض المحبب والإغواء، ولا يروض هذه الذات إلا شاعر امتلك في إعماق روحه ومنجم جسده كل كنوز الحميمية والدفء والرقة والحنان.
وعن فاطمة ناعوت يشير الركابي إلى أنها شاعرة مكهربة شرايينها بلحظات الحب، والشوق والحنين، تقاوم وتراوغ بجسارة الحلم، ونقاء ماء الذاكرة، وهي تشتغل في كل نص من نصوصها الشفافة على مفردة حالمة، تلقائية توحي بالكثير، وتهييء لقارئها لحظة جذب من دون تكلف أو افتعال أو انفعالات مزخرفة.
وعند ديوان "يد على كتف الميدان" للشاعر الراحل مفرح كريم يتوقف عذاب الركابي ليقرر أنه رغم كل ما يكتب من نقد حول شعر الأحداث والمناسبات وملخصه أنه حالة ضاجة من الحماس والانفعال بما جرى ويجري، فإن قصائد ديوان مفرح كريم هي انفعال مصهور بوعي تحول إلى تظاهرة غاضية تتصدرها لافتات شعرية بعيدا عن الهتاف الوقتي، مكتوبة بخضرة شجرة الإبداع الحقيقي الصادق. قصائد لا تنقل الحدث، بل هي الحدث نفسه.
وفي مجال القصة القصيرة يتوقف الشاعر والناقد عذاب الركابي عن أعمال إبراهيم أصلان، وإبراهيم عبدالمجيد، وخالد محمد غازي، وحسن اللمعي، وسهير شكري، ومحمد المخزنجي.
وهو يرى أن إبراهيم أصلان في قصصه القصيرة فنان يشكل، بل يرسم، بحب ومهارة وشاعرية وتقنية عالية، وكأنه يؤلف صورا وأنغاما بواسطة الكلمات، وهو يريد لقصصه القصيرة أن تُقرأ كلوحات تشكيلية ترتدي عمق ودفء اللوحة والقصيدة معا.  

Literary criticism
ذاكرة لا يطالها صدأ النسيان

أما إبراهيم عبدالمجيد فهو لاعب وتقني ماهر، والكلمات تراوغه بعيني نسر وجسد سحابة ممطرة، وهو في مجموعته "سفن قديمة" يقدم لعبة الكلمات ذات الإيقاع الإبداعي والإنساني، فهي نزيف الروح المثقلة بأعباء الحياة والتي تأخذ شكل التعليق الجرئ على واقع يعالج بالحلم المتلو بالحلم.
وفي قصص خالد محمد غازي تظهر المرأة بطلة ومرتكزا رئيسيا، وهو بأسلوبه السهل الممتنع، يتجاوز في المرأة البطلة شكلها ومظهرها ويسبر أغوارها، حيث قراءة المرأة من الداخل، تارة يشاركها حلمها الجميل منتميا ومباركا له، وتارة أخرى يأخذ بيدها إلى الخلاص.
ويقول عن المجموعة القصصية "حرائق سيدي مفرّح" للقاص حسن اللمعي إنها بسيطة، تلقائية الإيقاع، أخاذة في سلاستها وخفة ألفاظها البعيدة كل البعد عن التكلف والزخرفة والاستعارات المضنية، تخلد بعمق معناها، وسمو هدفها، وشخصياتها المؤثرة تخرج عن كونها شخصيات ورقية لخفة ظلها.
ويرى عذاب الركابي أنه من خلال قصص "امرأة لا تطل من النافذة" لسهير شكري، تبدو كتابة الأنثى، وهي تجمّل الحياة، وتكهرّب في سحرها الواقع، لتغيره. كتابة تشبه تغريد طائر وحيد غريب. الوحدة والظمأ والوجود القلق مصدر الجذب والإثارة فيها. وكل قصة في المجموعة نافورة جذب ودهشة، وذلك هو جوهر الجمال والمتعة في قصص سهير شكري.
ويشير المؤلف إلى أن القاص محمد المخزنجي يعيش قصصه بحالة تأملية راقية ممغنطة بعصارة الروح المعذبة التي تتلذذ بلحظة العذاب، لحظة الإيحاء، ولهذا يسجل له أنه كاتب قصة سيكولوجية بامتياز كبير! صبره وأناته وحرقته وصدقه وعناوين قصصه الطويلة تقول ذلك. إن قصصه تكتبه، لكنه لا يبدو شاكيا أبدا، بل في نشوة من يجد نفسه في أحضان أنثى بارعة الجمال.
وفي قسم الرواية يدرس عذاب الركابي، رواية "نبوءة الحكيم آبور" للسيد نجم، و"لهو الأبالسة" لسهير المصادفة، و"الحالة دايت" لسيد الوكيل، و"غرفة ترى النيل" لعزت القمحاوي، و"عيون البنفسج" لعلاء الديب، و"نقوش في الذاكرة" لمحمد الجمل، و"أصداء السيرة الذاتية" لنجيب محفوظ، وهي سيرة الذات العاشقة والمفكرة المبدعة بلا حدود، وهو يرتب فروض الصلاة للكلمة الجادة والصادقة، ويضع فقها للالتزام، تربته الإبداع والابتكار والجديد بدون قيود أو حدود أو حواجز، لتعيش الكلمات البيضاء المضيئة.