عزيزة كاتـو، شاعرة يسكنها الحزن والغضب
الأربعاء 2002/06/05
بقلم: أحمد فضل شبلول

"يوميات امرأة تبحث عن هوية" الديوان الأول للشاعرة عـزيزة كاتو الذي طال انتظارنا له، والذي يؤسس لها كشاعرة سكندرية معاصرة نفخر بها ونضعها في مصاف الشواعر العربيات في العصر الحديث من أمثال: نازك الملائكة، وفدوى طـوقان، ووفاء وجدي، وملك عبد العزيز، وعاتكة الخزرجي، وثريا العريض، وغيرهن على امتداد الوطن العربي، مع اختلاف رؤية وأدوات كل منهن في التعبير الشعري سواء في الشكل التفعيلي أو الشكل العمودي.
وقد انحازت عزيزة كاتو في ديوانها هذا إلى القصيدة التفعيلية، فاحتوى على إحدى وثلاثين قصيدة من الشـعر التفعيلي، كانت الغلبة فيه لتفعيلات بحر المتقارب (عشر قصائد) ثم تفعيلات بحر الرجز (تسع قصائد) ثم تفعيلات المتدارك الأصلي (خمس قصائد) فالمتدارك الخببي (ثلاث قصائد) فتفعيلات الكامل (قصيدتان) والوافـر (قصيدتان). وبذلك لا نرى أية قصيدة عمودية في هذا الديوان، وبطبيعة الحال فإن الانحياز إلى شكل شعري ما لا يعني عدم قدرة الشاعر على الكتابة في أشـكال شعرية أخرى. وإنما الشكل هنا مجرد اختيار وتوافق نفسي وموسيقي أو إيقاعي للتجربة الشعرية التي تأخذ بيد الشاعر ـ أو يأخذ الشاعر بيدها ـ أثناء عملية الإبداع، فيشعر بالارتياح وهو يلجأ إلى هذا الشكل الذي تفرضه طبيعة التجربة وتغذيه أثناء عملية الخلق الفني.
من هنا كان ارتياح عزيزة كاتو للشـكل التفعيلي في كل قصائد ديوانها "يوميات امرأة تبحث عن هوية"، الأمر الذي ينفي عجزها عن الكتابة في أشكال شعرية أخرى.
ومن خلال قراءتنا لقصائد الديوان نكتشف عالم عزيزة كاتو الشعري الذي يعتمد على مفردات أساسية، تنسج الشاعرة من خلالها تجربتها، وهذه المفردات، هي: الحب ـ الحزن ـ الموت ـ السـكوت ـ الزمان ـ البحر ـ الحلم ـ الوحدة ـ الاختباء أو الاختفاء ـ الجِدار ـ السواد.
وستحاول هذه الدراسة الوقوف على مفردة واحدة من عالم هذه المفردات وأبعادها في شعر عزيزة كاتو، وهي مفردة الحزن.
الحـزن صفةٌ ملازمة للإنسان بعامة، وللإنسان المصري على وجه الخصوص، فمنذ أن هبط آدم ـ عليه السلام ـ إلى الأرض، والحزن يلازمه كظـلِّه، حتى بعد أن تاب الله عليه بكلمات، إذ وقعت بعد ذلك واقعة قتل قابيل لأخيه هابيل، ولنا أن نتصور كمَّ الحزن والألم الذي سببته هذه الفعلة الشنعاء في فجر حياة البشرية، لمجموعة البشر الصغيرة التي كانت تعيش على الأرض في ذلك الوقت.
وفي عالم الشعر، أعتقد أنه لا يخلو أي ديوان شعري عربي معاصر من نبرة الحـزن ورنة اليأس في قصائده، بل إن هناك قصائد ودواوين كاملة اتخذت من هذه اللفظة أو الكلمة عنوانا لها، بل إن الحزن هو مدار التجربة الشعرية لدى الكثير من الشعراء المعاصرين، وأحيانا يصل الحزن إلى مرتبة التأمل الفلسفي، فيصبح تأملا فلسفيا حزينا قد يقود إلى التطهر، وقد يقود إلى الجنون.
ولعل من أشهر قصائد الشعر العربي المعاصر تعبيرا عن هذا الحزن قصيدة "الحزن" للشاعر صلاح عبد الصبور، التي يقول في مطلعها:
يا صاحبي إني حزين
طلع الصباح، فما ابتسمتُ، ولم يُنِر وجهي الصباح
والتي يقول فيها بعد ذلك:
الحزن يولد في المساء، لأنه حزنٌ ضرير
حزنٌ طويلٌ كالطريقِ من الجحيم إلى الجحيم
حزنٌ صموت
والصمت لا يعني الرضاءَ بأن أمنيةً تموت
وبأن أياما تفوت
حزن تمدَّد في المدينة
كاللص في جوف السكينة
كالأفعوان بلا فحيح
الحزن قد قهر القلاع جميعَها وسبَى الكنوز
وأقام حكاما طغاه
الحزن قد سَمَلَ العيون
الحزن قد عَقَدَ الجباه
ليقيمَ حكاما طغاه
الحزن يفترش الطريق ..
(ديوان الناس في بلادي، قصيدة الحزن، الأعمال الشعرية الكاملة، ص 36)
والحُزْنُ والحَزَن (بالتحريك) في اللغة هو: الهَمُّ، وهو ضد السرور ونقيض الفرح. وفي المخصص لابن سيده الأندلسي المتوفي سنة 458 هـ، الكَرْبُ: الحزن الذي يأخذ بالنفس، والمَوْقُوم والمَوْكُوم: الشديد الحزن. أما الواجِم: فهو من اشتدَّ حزنُهُ حتى يُمْسِكَ عن الكلام. والشَّجْوُ هو الحزن. وشجاني وأشجاني بمعنى أحزنني وأغضبني. والشَّجَنُ أيضا هو الحزن، ودُهِمَ دَهْمًا أي حَزِنَ. والوَلَه: الحزن، وقيل ذهاب العقل من الحزن. والرَّسِيس: باقي الحزن في القلب. والكَمَد: أشد الحزن.
وفي كتاب التلخيص في معرفة أسـماء الأشياء لأبي هلال العسكري المتوفي بعد سنة 395 هـ، الأسيف: السريع الحزن والبكاء. والعَمِيدُ: الحزين، والتَّرَح: الحزن.
وقد عقد أبو منصور الثعالبي في كتابه "فقه اللغة" فصلا في تفصيل أوصاف الحزن، فقال: الكَمَد: حزن لا يُستطاع إمضاؤه. والبثُّ: أشد الحزن. والأسى واللهْف: حزن على شيء يفوت. والوجوم: حزن يُسكت صاحبه. والأسف: حزن مع غضب، من قوله تعالى: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبانَ أسفا". والكآبة: سوء الحال والانكسار مع الحزن، والترح: ضد الفرح.
وقد ورد الفعل "حَزَنَ" بصيغه المختلفة ومشتقاته اللغوية اثنتين وأربعين مرة في القرآن الكريم. ولكنَّ لفظة "الحًزْنُ" ـ على هذا النحو ـ جاءت مرة واحدة في كتاب الله العزيز في قوله تعالى عن نبيه يعقوب "وابيضتْ عيناه من الحُزْنِ فهو كظيم" (يوسف، الآية 84).
وفي ديوان الشاعـرة عزيزة كاتو يعد الحزن أحد أهم ملامح تجربتها الشعرية، بل إنها تتخذ من لفظة الحزن والأحزان عناوين لبعض قصائدها، مثل "أحزان قديمة، والسقوط في بئر الأحزان".
تقول في نهاية قصيدتها الأولى "كل ما أريد" والتي عبرت فيها عن شوقها للحبيب، وحلمها بلقائه:
فآه
لو تمتد لي يداك الآن
آه
فإنني حزينة
وكل ما أريد أن أراك
وكل ما أريد أن أراك
(كل ما أريد، ص 22)
وتقول في قصيدتها التي عنونت بها الديوان "يوميات امرأة تبحث عن هوية"، وهي قصيدة يلفها الحزن من أوَّلِها إلى آخرها، فالجو النفسي كله جو حزن، حيث:
يولد فينا الموت
في رحيل كل يوم
(يوميات امرأة تبحث عن هوية، ص 26)
هكذا تكون البداية، فماذا ننتظر من امرأة يولد فيها الموت، ويبهت فيها الحلم البعيد، ويستعيد الخوف ظله المنسي، سوى الحزن والرحيل إلى عالم الفقد والأحزان، تقول:
أرحل في مهب الريح والأحزان
تقودني لغير ما مدى
لغير ما عنوان
(القصيدة السابقة، ص 26، 27)
إنها تبحث عن هويتها في عالم الأحزان، فلا تلوذ إلا بالفرار:
وجدتني بلحظة
ألوذ بالفرار
وداخلي سجينة
تموت ها هنا
مقطوعةَ اللسان
( القصيدة السابقة، ص 28)
وعندما تفيق من أحزانها وغيبوبتها لا تجد شيئا، فالحلم فاتها، وفاتها الأوان، فلا تملك سوى العودة إلى الحزن مرة أخرى، وتحاول اللجوء إلى البحر أو العودة إليه (ككل سكندري مولع بالبحر، ويظن أن فيه الشفاء) علَّها تشفى من حزنها المقيم، فلا تجد إلا الشعابَ الحزينة، فتسأل ماذا تغير فيه (أي في البحر)، وماذا تغير فيها:
فماذا تغير فيه
وماذا تغير فيّ
وكيف إذا جئته اليوم ينكرني
يَشيح بأمواجه في السكون
ويرحل في صمته الأبدي
(العودة إلى البحر، ص 32)
ولعل اللون الأسود يربطنا ـ أو يذكِّرنا ـ دائما بالحزن، وهو في ذاكرتنا وفي معتقداتنا الشعبية، رمز للحزن والخوف من المجهول والفقد والكوارث، ولعل هذا اللون في مصر ـ على وجه التحديد ـ يعد من أكثر الألوان تعبيرا عن حالة الموت والفقد والألم، وقد أجادت الشاعرة التعبير بهذا اللون عن حزنها وخوفها في كثير من قصائدها، تقول:
يا ويلي
من غيمات سود
حتى العطرَ
تقتله في الغيمات السود
قد تندم يوما
قد تندم
لكني أبغضت عيونك
أبغضت لياليها السودا
فالشوق بأعماقي يهدا
ويموت
(لن تفهم، ص 27، 28)
وإذا كان اللون الأسود هو المسيطر على عالم الألوان التي ورد ذكرها في الديوان، وهي على كل حال قليلة، فإن هناك اللون الرمادي الذي لجأت إليه الشاعرة للتعبير عن عالم الكآبة والملل والعزلة وانعدام الرؤية، ومن هنا كثر في ديوانها هذا اللون إما صراحة أو تلميحا، مثل: السحب الرمادية، الإسفلت الحجري، سحب داكنة اللون، عتمة الصمت.
حتى عندما تذكر ألوانا أخرى مبهجة مثل الأخضر، أو الأبيض ..، فإنها تستجلبها من الزمن الماضي الجميل الذي تتمنى عودته، مثل قولها:
فأسندُ القلب طويلا لجبين الذكريات
ثم أبكي
آه لو السنين الخضر عادت
ورجعنا للوراء
(السقوط في بئر الأحزان، ص 86)
ومثل قولها:
يا أغنيتي الخضراء
أحن إليك
(القصيدة السابقة، ص 88)
أو أنها تذكر الألوان الزاهية لتنفيها عن عالمها الداكن الحزين. تقول في مطلع قصيدة "أوراق الخريف":
المدينة تخلع أثوابها
الزاهيات
ترتدي ثوبَها الداكنَ
تدخل تحت غطاء
الشتاء الثقيل
(أوراق الخريف، ص 93)
إنها هنا تخلع الأثواب الزاهيات ذات الألوان المزركشة والمبهجة، لتعطي الحضور الأقوى للون الداكن الذي يوحي بالسكون والهدوء المشوب بالحزن.
ولعلنا نلاحظ أن العيون السود التي يتغنى بها الكثير من الشعراء، تتحول عند الشاعرة إلى شيء بغيض، مكروه، ويتحول مكان اللقاء بينها وبين الحبيب إلى غابة من عيون تكرهها لأنها ستفرض عليها السكون ثم الحزن خلال هذا اللقاء، فتصف الآخرين ـ كما وصفهم سارتر ـ بأنهم الجحيم:
جحيمٌ هم الآخرون
(الحدود، ص 40)
والآخرون ـ مبعث حزن الشاعرة وخوفها ـ هم: البحر والعاصفات، والريح والليل والصمت والكون والذكريات والغروب والشروق، أي أن الطبيعة نفسها هي مبعث حزن الشاعرة، وهذا يخالف ما تم التعارف عليه من أن الطبيعة تعد أهم مصدر من مصادر سعادة الإنسان، بل إن البعض ينادي بالعودة إلى الطبيعة ليشفى الإنسان من أمراض العصر.
وتعد قصيدة "أحزان قديمة" ـ وهي واحدة من أجمل وأهم قصائد الديوان ـ من أكثر القصائد التي يطفح فيها الحزن والهم الكبير، على الرغم من أن كلمة "أحزان" لم ترد فيها إلا مرة واحدة فقط، في قول الشاعرة:
يتناثر الحلم القديم بلا أثر
تمحو ظلال الزيف أشرعتي
بأحزان عقيمة
فتغيب آلاف الصور
(أحزان قديمة، ص 43)
والقصيدة تتحدث عن القدس، وبها معارضة قوية، أو تناص ـ بل شجب ـ لأغنية فيروز "زهرة المدائن" التي تقول فيها:
الغضب الساطع آت
وأنا كلي إيمان
الغضب الساطع آت
سأمر على الأحزان
فتقول الشاعرة في نبرة حزن ويأس وغضب واضحة:
ويصير جرحك رجع أغنية سقيمة
تحكي عن الغضب الذي يأتي
ولكن ليس يأتي ..
أو هكذا صارت قصائديَ القديمةُ عنك
باهتةً بدون ملامح
وبدونِ سمتِ
(القصيدة نفسها، الصفحة نفسها)
وليس هذا هو التناص الوحيد مع إحدى أغنيات فيروز، ولكنْ هناك تناص آخر في قول الشاعرة:
كانت ضحكات الأصحاب تجلجل
في أرجاء البهو
بينا فيروز تغني
عمن ينتظر بلا جدوى
أحبابا أبدا لا يأتون
(ليلة في جوتنبرج، ص 51)
ودائما يستدعي ذكر القدس في جوانحنا البطل القومي صلاح الدين الأيوبي الذي نصَّب نفسه سلطانا على مصر عام 1171م، وأصلى الصليبين حربا حامية وهزمهم في معركة حطين الفاصلة عام 1187م، وحرر بيت المقدس من أيديهم القذرة. وتتوجه عزيزة كاتو في ديوانها هذا ببكائية إلى صلاح الدين (ونلاحظ دلالة العنوان الذي يحمل "بكائية") تقول في مطلعها:
أتيتك يا صلاح الدين
صارخةً
أفتش عن بقايا النصر
في حطين
تقذفني رياح الليل (والشر)
وتوقد جرحي المنسيَّ
منذ سنين
(بكائية إلى صلاح الدين، ص 75)
وهي تعبر عن حزنها الكبير عن ما آل إليه حالنا ـ نحن العرب ـ في هذا الزمان الرديء الذي ألجأ الشاعرة إلى هذا الكم الهائل من الحزن والغضب. تقول في مقطع آخر من هذه القصيدة:
أتيتك يا صلاح الدين
لو تدري
فتحت جلودنا
شاهت ضمائرنا
وتحت عباءة الإيمان
نمعن في خطايانا
تناءينا
غرقنا في حكايانا
فنامت أعين الثأر
وصار العار إكليلا
وباقات من الزهر
أضعنا القدس والأقصى
ونحكي دونما خجل
عن المجد الذي كانا
(القصيدة السابقة، ص 76)
ولعلنا ونحن نتقدم خطوات على درب الشاعرة ـ في ديوانها هذا ـ نكتشف أن من أهم أسباب حزنها المقيم والساكن في روحها وفي فكرها، هزيمة الخامس من يونيو 1967، حيث ينفجر بركان الأسى والحزن بعد هذا التاريخ المشئوم، فتكتب قصيدتها "بعد السقوط" التي تقول في مطلعها:
وعدت إليكِ
مهاجرة في بحار الغيابْ
بلا لهفة العائدين
لحضن الشواطئ بعد اغتراب
كشفت احتراقي
وحزني إليكِ
بكيت دمي نازفا في التراب
وعمَّدت جرحي لديكِ
بنهر الأسى والعذابْ
(بعد السقوط، ص 82)
ومن الحزن والهم القومي، إلى الحزن الذاتي الذي عبرت عنه الشاعرة وصورته في أكثر من قصيدة.
وإذا كانت الأشياء بضدها تُتبيَّن، فإن لجوء الشاعرة إلى مفردات مثل: الضحكات، والأغنيات، والشعر الذهبي، والزجاج الفضي، والركن الحالم، في قصيدتها "ليلة في جوتنبرج" يعمق من حجم حزنها ومأساتها أكثر، ومن وعيها بهذا الحزن الذي خلفه رحيل الحبيب عنها في ليلة كان المطر فيها:
يداعب شعر الحسناوات الذهبي
فيتضاحكن ويسرعن الخطو
ليسقط ملتاعا
في أحضان الإسفلت الحجري
كانت ضحكات الأصحاب تجلجل
في أرجاء البهو
(القصيدة السابقة، ص 51)
وتصور الشاعرة حجم حزنها بعد ذلك في قولها:
فيفاجئني وجهك
يخطفني من بين الأصحاب
ويتركني ..
في أقصى أطراف الكون المجنون
ويجري .. ليراوغني
أعدو نحوك من أقصى العالم
حتى أقصى العالم
بحثا عنك
لكني .. يا ويلي .. لا ألحق بك
(القصيدة السابقة، ص 52)
ولعل هروب أو ابتعاد الحبيب عنها على هذا النحو المحزن والمخجل معًا، دفع الشاعرةَ إلى الهروب منه عندما أخذ يتبعها من مكان إلى آخر، تقول في قصيدة "هروب":
طرقتُ البابَ .. بعد البابِ ..
لم تفتح ليَ الشمسُ ..
وعاد الليل .. والخوفُ ..
وعادت كل أوهامي الضبابية ..
وأهرب منكَ ..
ألمح وجهك المخبوءَ يتبعني ..
فأرتجفُ ..
(الهروب، ص 48)
فهي على الرغم من عدم استجابة الشمس لها، وعلى الرغم من أن كل الأبواب موصدةٌ في وجهها، فهي تفضل الهروب من ذلك الحبيب الذي يحزنها أكثر مما يفرحها. وهي كثيرا ما تهرب أو تسقط في قاع حزنها (فأهوِي إلى قاع حزني) وقد لا يكون لحزنها هذا قرار، فتضيع في غيبوبة الوهم والمستحيل، وتتلاشى في عتمة الصمت، وفي ملح السنين البَوَار، أو تعيش في رتابة السكون. وهي عندما تريد أن تقاوم حزنها (الغريب) هذا، لا تستطيع، فهي قد ألفته، وهو قد ألفها:
قاومتُ حزنيَ الغريبَ في المساء
ما استطعتُ
واجهتُ خوفيَ القديمَ ذات ليلة
فضعتُ
وأُغلقت معابر السعادة
(المدار المغلق، ص 57)
لاشك أن حزن الشاعرة هذا حزن غريب عنها، لأنه أكبر منها ومن قدرتها الإنسانية على نسيانه أو عدم معايشته، ومن هنا فهي تصفه بأنه حزن غريب، ليس هذا فحسب، ولكنها كثيرا ما تضيف ياء الملكية إلى الحزن فيصبح "حزني" وكأنها امتلكت هذا الحزن رغم غرابته، وهي عندما تريد أن تمسح عنها هذا الحزن لا تجد من يساعدها في ذلك:
لا حلم في عيوننا الجديبة الدموع
يمسح الأحزان
يغسل الندم
فهي ـ بمفردها ـ لا تستطيع أن تقاوم حزنها، ولا تجد من يساعدها على ذلك، فيصبح حزنها حزنا مركبا لا تستطيع الخلاص أو الفكاك منه.
وأخطو إليكَ
ولا أستطيع
وترحل نحوي
ولا تستطيع
(الحب والخوف، ص 63)
وإذا كان الزمان كفيلا بمحو الحزن أو حتى تخفيفه (فالحزن عادة يبدأ كبيرا، ثم يبدأ في الصغر تدريجيا إلى أن يتلاشى) فإنه عند عزيزة كاتو لا يصغر ولا يتلاشى أبدا، بل إن الزمان نفسه ـ الذي هو كفيل بمحو الحزن أو تخفيفه كما ذهبنا من قبل ـ يضيع في تعاقبه، وكأنه تجمد أو توقف عند حزنها الكبير:
أوَّاه حينما يضيع من زماننا
تعاقب الزمان
وتفقد الأشياء شكلها
ولونها
مع السأم
وينضب الحنان
(المدار المغلق، ص 58)
وتعترف الشاعرة ـ في معظم قصائدها تقريبا ـ بأنها تعيش الحزن وتتنفسه، ومن هذا الحزن تنسكب أشعارُها ـ أو تستلهمُ أشعارَها ـ لتخففَ عنها وعن مأساتها، وتذكرنا في ذلك باعتراف الشاعر صلاح عبد الصبور في قصيدته "الحزن" التي أشرنا إليها من قبل. تقول الشاعرة في قصيدة عنوانها "أغنية حب صغيرة" ونلاحظ أنه على الرغم من احتواء العنوان على كلمة "أغنية"، إلا أن الحزن هو المسيطر على الجو العام للقصيدة، وعلى الرغم من تغنيها بعيني الحبيب، فإنه:
عيناكَ نورسانِ في أواخر النهار
ينقِّرانِ قلبيَ الحزينَ دائما .. دائما
فيسكب الأشعار
(أغنية حب صغيرة، ص 65)
ولعل تكرار اللفظ "دائما" مرتين على هذا النحو في السطر قبل السابق، يوحي بالامتداد الزمني، أو بالعمق الزمني، الذي تعيشه الشاعرة مع هذا الحزن، وكأنها ـ كما سبق القول ـ ألفت هذا الحزن الكبير، وألفها هو أيضا، فلم تفلح معه عينا الحبيب اللتان شبهتهما الشاعرة بالنورسين في أواخر النهار، ولعلنا نتساءل: ولماذا في أواخر النهار ؟ إنه مشهد الغروب، ذلك المشهد الحزين، حينما تودع الشمس بحرنا وترحل في موكب جنائزي قوامه الاحمرار الشفقي، ووسط هذا المشهد الجنائزي يحلق طائر النورس الحزين والمتعب من رحلته النهارية على شواطئنا المتوسطية، في مشهد من أروع المشاهد الطبيعية في مدينة الإسكندرية لحظة الغروب، ويبحث طائر النورس الحزين والمتعب عن مكان يرتاح إليه، فلم يجد إلا قلبا حزينا، هو قلب الشاعرة فينقره، لينبهها بوجوده، فتنسكب الأشعار الحزينة.
ولكن يبدو أن هذا النورس ـ أو الحبيب ـ قد تغير وصار عابسا وانتقلت إليه عدوى الحزن:
فصار عابسا جَهْما
ملتحفا بالحزن والكآبة
بعد أن كان:
يهل رائقا مبتسما
فما الذي غيره ..؟ تتساءل الشاعرة:
فما الذي غيَّر هذا الوجه
وذلك السمتَ الذي ألفته
يهل رائقا مبتسما
ما الذي غيَّره
فصار عابسا جهما
ملتحفا بالحزن والكآبة
باعثا للسقم والرتابة
(لقاء، ص 69)
لا تجيب الشاعرة عن أسئلتها السابقة من خلال تنامي القصيدة، ولكنني أعتقد أن عدوى الحزن قد انتقلت إلى هذا الحبيب، فتغير على هذا النحو.
ولكن هل ستظل الشاعرة بعد كل هذا مستسلمةً للحزن الكبير الذي تعيشه، والتي عبرت عنه وصورته بكلماتها أجمل وأبلغ تصوير، وجعلتنا نعايشه معايشة صادقة، لأنه حزن صادق نبيل، هل ستظل مستسلمةً لهذا الحزن، أم ستعلن تمردها عليه؟ إنها قرب نهاية ديوانها تحاول أن تصارع الحزن والهم، وأن تخرج من الشباك التي ألقاها الحزن على قلبها، فتقول في قصيدتها "كبرياء":
وها أنا ذا في دروب المساء
أصارع في ظلمة الليل حزني
لأعطي إلى الشمس وجهي غدا
شامخ الكبرياء
فيا موسم الصمت والدفء
خذني
(كبرياء، ص 104، 105)
وهي في نهاية ديوانها لا تملك إلا الدعاء ترفعه إلى الخالق عز وجل ليمحو الظلام الضرير الذي يقف حجر عثرة في طريقها، وينتشلها من عالم الحزن والكآبة، تقول في آخر قصائد الديوان:
أتيتك في داخلي قلبيَ المستجير
أتيتك والحزن في خاطري
وخطو المسا في الهزيع الأخير
فلا توصد الباب دوني
وهبني دثارا من الدفء
هبني سلاما
يمر على جرحيَ الغائر
ويمحو ظلامي الضرير
(ابتهال، ص 106)
هكذا عاشت هذه الدراسة مع عالم لفظة واحدة من قاموس ألفاظ الشاعرة عزيزة كاتو في ديوانها "يوميات امرأة تبحث عن هوية"، وهي لفظة الحزن التي تكررت بأشكالها المختلفة في هذا الديوان صراحة ثلاثا وعشرين مرة، وإيحاءً ضمن صور وكلمات كثيرة، أشرنا إلى بعضها في الصفحات السابقة.
ولعلنا نتفق أخيرا على أن يوميات هذه الشاعرة على هذا النحو الذي تقدمه لنا، تختلف شكلا ومضمونا عن يوميات امرأة أخرى كتب عنها ذات يوم الشاعر نزار قباني، وهي "يوميات امرأة لا مبالية"، فيوميات عزيزة كاتو تنبع من أرض هذه الأمة ذات التراث العريق، والتي تحاول الصمود والتحدي، والوقوف في وجه الغزاة الجدد باختلاف ألوانهم وأسمائهم، على عكس يوميات امرأة نزار قباني اللامبالية، لذا جاء كل هذا الكم من الحزن والأسى والغضب المنتج والمثمر عند شاعرتنا عزيزة كاتو.
أحمد فضل شبلول ـ الإسكندرية