'السرد المفتون بذاته' .. كينونة تتجلى في السرد العربي الحداثي

وجود إبداعي متخيَّل

\"السرد المفتون بذاته\" مصطلح لا يعبر عن جنس أدبي جديد متكامل الهوية لكنه يكرس لنزعة مغايرة في الكتابة السردية، والمصطلح نفسه وإن كانت صياغته جديدة لم يعتدها القارىء العربي إلا أن ما يدل عليه ليس جديدا، فمنذ نصف قرن وثمة صياغات متداولة لمفاهيم نقدية مثل ”الميتا قص”، أو “الميتا سرد”، أو “الميتا فكشن”، وقد تمت ترجمته إلى ”ما وراء الرواية”، و“ما وراء القصة”، “وما وراء السرد”، إلا أن الناقد العراقي الأكاديمي رسول محمد رسول، استطاع تقديم هذا المفهوم في دلالات مركزة للمصطلح، إذ أطلق عليه ”السرد المفتون بذاته”، انطلاقا من أول استعمال له في قراءة لرواية “ساق البامبو” للكويتي سعود السنعوسي، وقدم عنه أحدث كتبه “السرد المفتون بذاته من الكينونة المحضة إلى الوجود المقروء”.

وفيه يعرف المصطلح بأنه ”احتفاء الكتابة الروائية بذاتها، ويعني أيضاً بأنه الرواية التالية أو الرواية الثانية، أو الحكاية التحتية التي تظهر داخل الرواية التي تحمل عنواناً واسماً لمؤلف ما”.

وهو وجود إبداعي متخيَّل، وقد تحولت كينونته المحضة أو الأساسية إلى موضوعة حكائية من خلال تمفصلها في مسالك أجناسية جمالية حكائية، كالقصص والروايات والمسرحيات، تلك التي تتضمن حكاية تالية، أو حكايات داخل حكاية كبرى يدخل فيها معمار الكتابة، وأحوال الكاتب، والقارئ والمقروء والقراءة، والناقد، والناص أو المؤلف، والناشر والنشر والمنشور، والمخطوطات، والملفات، والرسائل، والمظاريف، والصور الفوتوغرافية، واللوحات التشكيلية، كفواعل وعوامل مسرودة في عمل إبداعي متخيل وممهور بعنوان مركزي هو عنوان لقصة، أو رواية أو مسرحية.

• السرد إزاء نفسه

يستعرض د. رسول تاريخ المصطلح، موضحا ظهوره في عام 1925 عندما نشر الروائي والناقد الفرنسي جورج دوهاميل كتابه “مقال عن الرواية”، ثم تلاه “جيرار جينيت” عام 1967 في كتابه “خطاب الحكاية”، بعد ذلك تطور استخدام المصطلح. فروبرت شولز اشتغل نقديا في هذا الحقل دون أن يقدم له تعريفا مانعا، وقد حاول في عام 1970 تعريف ما وراء الرواية عن طريق تفسير طبيعة التخييل الروائي التجريبي المعاصر له عبر أربعة محاور في النقد الأدبي يسميها بالشكلي والبنيوي والسلوكي والفلسفي، رابطا تجليات ما وراء الرواية بتلك المدارس النقدية المختلفة.

بينما تنامت إسهامات آخرين مثل الروائي والناقد الأميركي ويليام غاس فقد هدف في كتابه ”السرد وصور الحياة” الصادر في 1970، إلى اصطفاء مصطلح يقترب بوصفه الدلالي من روح التغيرات التي اجتاحت الرواية، وذلك انطلاقا من قناعته بأن عالم ما وراء النظريات يوجد في الرواية، كما يوجد في الرياضيات واللغة والأخلاق، مشيرا إلى تجارب بورخيس وصمويل بيكيت ونابوكوف وغيرهم ممن تصدوا لتيار الرواية التقليدية فاقتربوا من عوالم ما وراء التخييل القصصي، حيث خلص إلى تعريف ما وراء القص بأنه ”القص الذي يجذب الإنتباه إلى نفسه كونه صنعة ليطرح الأسئلة عن العلاقة بين السرد والواقع″.

وفي فرنسا كان تزفيتيان تودوروف وتجاربه التي وظفت كينونة السرد كأحد العوامل الداخلة في الكون الدلالي للأعمال الإبداعية، مستخدما مصطلحات مثل الإستعارة والوصف النصي وذلك في كتابه ”شعرية النثر” 1971، ويواصل الكتاب استعراض رؤى المنظرين الغربيين من المؤسسين لنزعة ما وراء السرد وصولا إلى “باتريشيا واو” و”ديفيد لودج”، مؤكدا أن رؤاهم إستقرائية، فتلك النزعة في الكتابة الروائية سبقت التنظير لها لكن وجدت في التنظيرات رؤى دفعتها قدما إلى الأمام لتحقق الشيوع باعتبارها نزعة إنسانية عامة.

وقد انتقلت تلك النزعة إلى الإبداع العربي منذ ثلاثينيات القرن العشرين على يد طه حسين وتوفيق الحكيم، وعرفتها العراق عبر تجارب جبرا ابراهيم جبرا في الخمسينيات، لكن كتابتهم كانت ذات طابع إرهاصي قبل صياغة وتداول مصطلح عربي يفسرها، لكن العقود التالية شهدت تطورا للمصطلح وللنزعة القصصية المعبرة عنه على يد روائيين ونقاد أمثال إدوار الخراط ومحسن جاسم الموسوي وسعيد يقطين وصلاح الدين بوجاه الذي استلهم أفكار جينيت وبارت وبوتور في تناوله لأعمال صبري موسى وخصوصا رواية “فساد الأمكنة”، حيث خلص إلى أن أهم خصائصها يتمثل في ”نفي الحدث رغم قيمته الوظيفية، والإلحاح على الحالة المحكومة بمنطق خارجي، وتفجير البناء وفق اختيارات داخلية نابعة من النص، وتداخل ضروب الخطاب المسرحي والشعري والملحمي والسيري توسيعا لآفاق الرؤية، ورغبة في عقد وفاق جديد مع فن القص العربي القديم”.

• من الكينونة إلى الوجود

لا يمكن النظر إلى \"السرد المفتون بذاته\" كمجرد تقنية بلا مضمون، فهو يكتسب هويته من انتمائه لبنية ما بعد تقنية أو وجود حكائي متخيل له خطابه الجمالي والمضموني، أما إذا ظهر كمجرد كينونة محضة فسوف يكون جثة بلا روح، فلا بد لذلك السرد من التجسد في قصة أو رواية، فهو بذلك يظهر بوجهين: الأول داخلي أو خلفي بوصفه نظاما يقدم ذاته المحضة كبنية قابلة للإنخراط في شكل تعبيري، والثاني معلوم بوصفه موضوعا مسرودا، هنا تنتفي الحاجة لإستعارة المصطلحات الغربية إذ تتكاثف معانيها عند معنى يجسده الدكتور رسول في مصطلح ”السرد المفتون بذاته”. وهو المصطلح الذي لم يتبلور بعد في نظرية متكاملة لكن ذلك لا يعني غياب العناصر التي تشغل البناء المعرفي للسرد المفتون بذاته، ومنها الناص أو الكاتب، والتجنيس، والمخطوط، ومعمار الحكاية، والشخصية والقارىء، بل وفعلي الكتابة والقراءة نفسيهما، فمثلما يشرك – هذا النمط من السرد – القارىء في بناء المعنى، تقوم القراءة بنفس الدور، كما في رواية ”دمية النار” لبشير مفتي حيث يقرأ الراوي المخطوط الذي تركه رضا شاويش.

وبالنسبة للكتابة فالتناص المركزي في هذا النوع من الروايات يحرص على تفعيل الكتابة من خلال تسريدها كأحد المدارات، كما في \"متاهة آدم\" لبرهان شاوي حيث يطرح السرد المفتون بذاته أولوية الكتابة التي تتكرر عبر تجارب تدوينية متواترة.

• عمل الحطاب

الناقد الأكاديمي رسول محمد رسول - وعبر أربعة فصول شغلت مساحة ثلثي كتابه - رصد تاريخ مصطلحات ما وراء السرد وما وراء الرواية متتبعا تناميها وتطورها في نظريات النقد الغربي، كذلك استعرض تجارب النقاد العرب في التعامل مع هذا المفهوم، ثم بلور رؤيته الخاصة التي تحاول بناء مفهوم بديل غير معرب يتمثل هذه المفاهيم، فإن توقف جهده عند صوغ المصطلح سيكون كالحطاب الذي جمع حطبا كثيرا، لكن لم يشعل النار، وحتى لا يقول أحدهم: ما جدوى عمل الحطاب بدون نار؟ فكان لا بد أن يتوقف في الفصل الأخير عند عدد من النصوص الروائية العربية التي انتهجت أسلوب السرد المفتون بذاته كنمط في الكتابة الإبداعية.

ومن هذه النصوص التي توقف عندها رواية لطفية الدليمي “عالم النساء الوحيدات”، فيشير للتناص بين العنوان المركزي للرواية وعنوان المخطوط الذي تجده الراوية الأنثى فيشكل رواية داخل الرواية، ويتوزع السرد بين ما تقرأ منى في المخطوط وبين ما ترويه عن حياتها الخاصة، في تجربة سردية يحضر فيها الطابع الأنثوي مقابل غياب الطابع النسائي. (خدمة وكالة الصحافة العربية)