قضاء لبناني قيد التحقيق

يشهد لبنان ظاهرة جديدة هي التظاهر أمام قصور العدل والسجون احتجاجا على محاكمة أو تحقيق قيد الإجراء أو مطالبة بعفو. وكأن هناك محاكمتين: واحدة أمام القاضي في القاعة، وأخرى أمام الناس في الشارع. الأولى تدين أو تبرئ لاحقا، والأخرى تبرئ سلفا. لا تقتصر هذه التصرفات على القضايا السياسية والإعلامية، بل تطال قضايا جرمية وجنائية.

تكشف هذه الظاهرة أمورا عدة: التشكيك بالقضاء، أو الخوف من ضغط السلطة السياسية على القضاء، أو الشعور بالمظلومية، أو التأثير على القضاء، أو الشعور باهتراء الدولة وانحيازها، أو عدم التمييز بين الأمن والقضاء، أو رفض العدالة، أو تحوير مفهوم حقوق الإنسان.

في التحليل نجد أن هذه التظاهرات لا تقصد مؤسسة القضاء حصرا بقدر ما تستهدف الدولة بما هي مؤسسة المؤسسات في المجتمع والمشتبه بأنها تضغط على القضاء لتغيير مسار الأحكام. حين يفقد المواطنون الثقة بالدولة، يفقدون بالتالي الثقة بكل مندرجاتها. لا نؤمن بالكنيسة إذا لا نؤمن بالله. وبما أن الدولة صارت منذ سنوات وسنوات عن حق أو عن باطل مرادفة الفساد، صار القضاء وهو إحدى ركائز الدولة نظير الفساد أيضا حتى لو كان نزيها. هناك قضاة يستحقون نظرة فضلى

وما دعم هذا الانطباع بالأدلة العينية نمط حياة بعض أعضاء السلك القضائي، المسارات المشبوهة لدعاوى ذات طابع سياسي أو أمني أو إداري أو مالي أو طبي، التأخير المتعمد في البت في الملفات لتبقى سيفا مصلتا، ودور المخابرات في ظل النظام الأمني اللبناني - السوري السابق. لقد بلغ التشكيك بالعدالة حد أن صار مواطنون يتحاشون اللجوء إلى القضاء لنيل حقوقهم مفضلين الاحتكام إلى التسوية المباشرة أو إلى التحكيم، حتى أن البعض منهم يتنازل عن حقوقه وينساها.

وطالما تظل السلطة السياسية تتدخل في تعيين القضاة وتعدل التشكيلات القضائية وتحولها محاصصة سياسية خلافا للكفاءة والأهلية، سيستمر التشكيك بالقضاء، وسيدفع القضاء ثمن ارتياب الناس بالسلطة. فبقدر ما يبتعد القضاء عن السلطة يقترب من الناس، وبقدر ما يقترب منها يبتعد عنهم. فالناس يعتبرون القضاء هيئة تضمن حقوقهم حيال الدولة أيضا، لا تجاه الخصم فقط. وإذا كانت هذه هي المعادلة في الدول المحترمة فكم بالأحرى في لبنان؟

أظهرت الدراسات في أوروبا أن الضغط السياسي على القضاء أضر من الفساد على القضاة. فالأول حالة جماعية تضر بالجسم القضائي ككل، بينما الآخر حالة فردية تسيء إلى قاض محدد. منذ سنة 1990 والسلك القضائي يخوض معارك صامتة للحفاظ على استقلاليته. في ظل الاحتلال السوري، نصب بعض ضباط المخابرات التابعين للنظام الأمني اللبناني السوري أنفسهم قضاة ومدعين عامين ومسطري مذكرات توقيف ومصدري أحكام. كانت مكاتبهم محاكم من دون قوس محكمة، وكان بعض القضاة يرتادونها ويتباهون على أقرانهم الذين نأوا عن هذا السلوك.

الفصل التام بين السلطة السياسية والقضاء نقاش دستوري وقانوني قديم في أكثر من دولة. في 15 كانون الثاني/يناير 2018، رفض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طلب رئيسي مجلس القضاء ومحكمة التمييز قطع التسلسل التراتبي بين وزير العدل والنيابات العامة، لكنه وعدهما بأن تلتزم الوزارة توقيع التشكيلات كما يرفعها إليها مجلس القضاء الأعلى الفرنسي.

لأن السلطة القضائية، غير المنتخبة من الشعب تصدر أحكامها "باسم الشعب"، طبيعي أن تبقى السلطة السياسية المنتخبة مرجعية دستورية توقع التعيينات القضائية لتعطي القضاة شرعية النطق "باسم الشعب". والتوقيع يعني أن توافق المرجعية السياسية الدستورية على اقتراحات مجلس القضاء الأعلى المرتكزة على الكفاءة والأهلية، لا أن تجري هي التشكيلات على أساس الولاء السياسي والمحسوبية كما يجري في لبنان عبر العهود المتوالية.

من ينكر أن هناك مرشحين للقضاء يتوسطون السياسيين ليدخلوا السلك القضائي، وأن هناك قضاة يلجأون إلى السياسيين ليحظوا بمنصب قضائي، وأن هناك مواطنين يذهبون إلى النافذين لبلوغ قاض أو مدع عام. ومن ينكر بالمقابل وجود قضاة ومدعين عامين يرفضون الوساطات ويفضلون كرامتهم وشرف المهنة/الرسالة على التسكع أمام أبواب السلطة؟ إن شجاعة القاضي توازي نزاهته. والنزاهة في هذا الزمن شجاعة.

في استطلاع رأي أجرته مؤسسة "إيڤوب" سنة 2017، تبين أن 45% من الفرنسيين و 75% من الأوروبيين يعتقدون أن العدالة لا تعمل بشكل جيد في دولهم. وفي كتابه "على الرئيس ألا يقول ذلك"، (Un président ne devrait pas dire ça) يحمل الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند على مؤسسة القضاء الفرنسي وينعتها بالجبن وينتقد المدعين العامين الذين يتورطون في السياسة.

مع توسع مفهوم الحريات، بات الانتقاد سهلا والتشكيك مباحا في كل شيء بما في ذلك المحرمات والحرمات. لذا، لا بد للسلك القضائي أن يبادر قبل غيره إلى تشذيب جسمه وتحصين سمعته من خلال تفتيش قضائي صارم، وفصل واضح بينه وبين السياسيين والأمنيين.

وفي هذا السياق يجدر بالدولة أن تتخذ الإجراءات التالية: 1) خلق ناد للقضاة على غرار النادي العسكري يسهم في بقاء القضاة ضمن بيئتهم المميزة. 2) تحسين رواتب القضاة ليبقوا بمنأى عن العوز تجاه متطلبات الحياة. 3) زيادة عدد القضاة لتتمكن المحاكم من بت الدعاوى بسرعة، فالحاجة هي إلى نحو 750 قاضيا، فيما ليس المتوفر سوى 520. حان الوقت لإطلاق سبيل القضاء.