"غناء سري" .. صراع الذات مع الواقع

"الفقدان" يشكل الثيمة الأساسية لنص منذر عبدالحر الذي يأتي على شكل تداع حرّ على لسان الأستاذ الجامعي الذي يعود لتتبع حياته الماضية بعد بلوغه الستين.
مسار السرد يتخذ خطين متوازيين يلتحمان ببعضهما البعض
الخط الأول ينساب بلغة شعرية تذكرنا بأن المؤلف هو شاعر معروف

بقلم: نزار عبدالغفار السامرائي

"…الفقدان الذي بدأت فيه رحلة الذات في وجدان العمر، هو العلامة الفارقة التي ميزت حياتي ونحتت الحزن في ملامحي، وأن لكل شخص في هذه الدنيا منطلقا لذاته، وهذا المنطق هو الذي يحدد ملامح حياته ومساراتها، وعليّ أن أدرك أنك وجدت في حياتي كنافذة للفقدان الذي هيمن على وجداني وذهني".
أبدأ بهذا الاقتباس الطويل من حوار يحدث فيه الأستاذ الجامعي صادق محمد عوض نفسه في الفصل الأخير من رواية "غناء سري" للشاعر والروائي والصحفي منذر عبدالحر، كون "الفقدان" يشكل، وفق قراءتي، الثيمة الأساسية للنص الذي يأتي على شكل تداع حرّ على لسان الأستاذ الجامعي الذي يعود لتتبع حياته الماضية بعد بلوغه الستين في لحظة مشاهدته وجه طالبة جديدة تصل قاعة المحاضرة متأخرة، ليسترد وهو على أعتاب الستين ذكرى حبه الأول عندما كان في الخامسة أو السادسة من عمره.
سنين طويلة يستردها بسرده وهو يحكي لنا عن تلك الأيام التي تناوبت فيها الأحداث والمصاعب والوجوه والمشاعر وهو ينتقل من مكان إلى مكان، فيرتحل من المدينة الى الهور ثم إلى قرية على أطراف المدينة قبل ان ينتقل الى البصرة (المدينة الكبيرة) ثم يعود الى القرية ومنها إلى القاهرة فبغداد (عواصم واسعة). حكاية حياة تبدأ بفقدان الحبيبة الصغيرة التي يقابلها بمشاعر من طرف واحد وتنتهي بفقدان صورة حبيبته الاولى، الطالبة سحر وزميلها عادل الذي يرتبط به بعلاقة أبوية ويرى فيه صورته وهو طالب بالكلية.
وفي الوقت الذي تتداعى الهواجس والمشاعر في داخل السارد/الأستاذ الجامعي، تنعطف في لحظة ليحدثنا عن حياته متدرجا من طفولته حتى وصوله إلى اللحظة التي يكتشف فيها أن الفقدان هو ما يميز مسار حياته.
وبهذا الشكل يتخذ مسار السرد خطين متوازيين يلتحمان ببعضهما البعض داخل كلّ فصل من فصول الرواية، الخط الأول ينثال بشكل تداع حرّ ليكشف عن المشاعر التي تصطرع داخل الرجل الستيني وهو يشعر بانجذاب نحو طالبته الصغيرة، فيما يتحرك الخط الثاني بمسار تاريخي ليحدثنا عن تاريخه الشخصي من لحظة الوعي الأول وصولا إلى اللحظة الراهنة. مع المرور بالأحداث الكبيرة التي شهدها العراق.
ولكلّ مسار من المسارين السرديين شخصياته التي تظهر وتختفي وفق مستلزمات الحكي، فيقتصر المسار الأول على شخصية (تخيلية) تتخذ وضع المروي له هي مها التي يتخيل الراوي أنه يبوح لها بمشاعره وهي تمثل تلك الفتاة التي شعر بالحب الأول إزائها عندما كانا طفلين رغم الفوارق الاجتماعية التي تفصلهما. 
يرافق هذه الشخصية شخصيتان أساسيتان هما سحر تلك الطالبة التي تشبه مها أو هو يتخيل أنها كذلك والتي تكون المحفز لسرد أحداث الرواية، وزميلها عادل المحب للشعر والذي يرافقها أينما كانت في الكلية. 
وتتشابه هذه الشخصيات الثلاثة في أن الراوي في النهاية يفقدهم جميعا، مها منذ الدراسة الابتدائية بانتقاله مع عائلته من المدينة الى الهور، وسحر التي تضطرها ظروف العراق إلى الهجرة مع عائلتها، وهو ما يدفع عادل إلى الاختفاء ، وباختفائهما يدرك الراوي ماذا يعني الفقدان له من أثر طيلة حياته. 

الروائي والشاعر منذر عبدالحر استطاع أن يتجاوز تجربته السابقة في الكتابة الروائية نحو الأفضل، فيما بدى توجهه الشعري واضحا في ثنايا القص، حيث وظفه بما يعطي عملية السرد جمالية أكثر سواء بذكر مقاطع شعرية أو آراء نقدية.

ولا أدري هل لحظة إدراكه لفقدان عادل هي ما جعله يعود بالذاكرة إلى أيامه الأولى، أم أننا أمام سرد خطي متواصل منذ لحظة وقوع نظراته على وجه سحر وهي تدخل باب قاعة المحاضرة، إذ لحظة الفقدان هذه تجعلنا نعود مجددا إلى إحدى شخصيات المسار الثاني للسرد، وهي شخصية سهاد زميلة الأستاذ في جامعة البصرة عندما كان طالبا والتي تضطرها الظروف السياسية أيضا إلى مغادرة العراق مع عائلتها، رغم اختلاف طبيعة الظروف كون سهاد وعائلتها منتمين إلى حزب معارض أي هم جزء من الصراع السياسي والفكري آنذاك، فيما سحر وعائلتها ليستا جزءا من الصراع القائم الآن، ومع ذلك كانت النتيجة واحدة.
وإضافة إلى سهاد وأبيها فإن المسار الثاني يتناول شخصيات عديدة تتمثل بعائلة الأستاذ (أبيه، وأمه، أخوه، وجده، أعمامه وأبنائهم، وبناتهم التي تصبح إحداهن زوجة له) وصولا إلى الأشخاص الآخرين الذين يظهرون في تاريخ العائلة مثل زميل أبيه في مكبس التمور أو المرأة اللعوب التي ترتبط مع عمه بعلاقة قبل أن تصبح غانية في ملهى بالبصرة برفقة زوجه، أو تلك الفتاة التي تهرب مع حبيبها ما يتسبب بحرق مكبس الأمور، أو الشيخ عائد الذي يلعب دورا أساسيا في حياة الأستاذ.
ويمكننا أن نلاحظ هنا أمراً جدير بالإشارة والتأويل؛ وهو أن وفاة الجدّ أدى إلى تفكك العائلة (الأخوة وأبنائهم) وانهيار تجارتهم، فيما وفاة الأب (أب الأستاذ، عمه) لم يكن له ذلك التأثير، إذا لم نقل إنه أعادة أواصر العلاقة بين العائلة، حيث إن الأستاذ يعود إلى عمه الذي يصبح (كبير العائلة) ويتزوج ابنته، كما أن العم المبتعد عن أخوته يعود إلى احتضانهم مجددا، كما أن الشيخ عائد يزوج ابنته لأخ الأستاذ الأصغر، كما يزوج ابنه من أختهم. وهذا يتوافق مع سير الأحداث الخارجية المتعلقة بالأوضاع العامة في البلد. 
ولكننا هنا لا نريد أن نفرط بالتأويل، وندع الحكاية تنساب بأحداثها الواقعية دون انحراف نحو أبعاد أخرى. فالأستاذ الجامعي الفاعل الأساسي في الرواية لم ينحز نحو تفسير الأحداث بالشكل الذي يمكننا من الوصول إلى تأويل أحداثها، رغم أنه المؤبر الذي ينقل لنا الأحداث من زاوية رؤيته هو واكتفى بعرضها لنا، رغم أنه يلمح إلى امتلاكه موقفا فكريا أو سياسيا معينا، لم يكشف عنه بوضوح سوى أنه معارض للأفكار المهيمنة أثناء فترة النظام السابق الذي حكم العراق قبل 2003، كما أنه يشير إلى أن زميلته سهاد، ووالدها كانا معتنقين لـ "فكر تقدمي" دون تسمية مباشرة لهذا الفكر رغم أن دلالة الحدث تشير إلى الأفكار الشيوعية.
ومع تأثر السارد بهذا التوجه لزميلته ووالدها إلا أنه لم يكن يحمل انتماء معينا يصرح به، وانما بقي بحدود التأثر الذي لم يظهر بوضوح على الأفكار التي يطرحها والتي تنحاز نحو الذاتية، وربما هذا ناتج عن أن السارد لا يروي إلا ما يعرفه هو، فلا يحدد توجهات الآخرين وأفكارهم ومشاعرهم، أما ما يخص ذاته فيحصره بمراجعة لأحداث الماضي والمشاعر التي تضطرم داخله "غناءه السري"، والتي تجعله في حالة صراع بين انجذابه للطالبة الجديدة، ليس لذاتها ولكن لكونها بحبه القديم "الطفولي" الذي لم يفارقه، من جهة وبين حبه لزوجته، ابنة عمه، التي رافقته بصبر وأنجبت له بنتين وولد. 
وبالعودة إلى مساري السرد؛ فإن الخط الأول ينساب بلغة شعرية تذكرنا بأن المؤلف هو شاعر معروف، لديه الإمكانية بنسج اللغة بشكل جذاب ليعبر عن ما يتصارع داخل أستاذ النحو في كلية الآداب، من مشاعر يحاول أن يكتمها لكنه لم يستطع الفكاك منها فيعمل على محاورة فتاته الأولى التي لا يعرف عنها شيئا، لكنها تحتل موقع المسرود له/المروي له، الذي يفضي إليه بكل مكنونات نفسه من مشاعر وذكريات.
وفي نقطة ما ينعطف السرد من تلك الأنثيالات نحو الواقع فيبدء الراوي/السارد بالحديث عن تاريخ العائلة لتنعطف اللغة أيضا نحو الجمل الإخبارية التي تهدف إلى إيصال المعلومة إلى المتلقي بشكل مباشر، حتى أنه في أحيان ما يذهب إلى ذكر جزئيات لا تجد من الضرورة أن تترادف على الذاكرة بعد سنين طويلة وأحداث كثيرة وكبيرة، ما يجعل القارىء يشعر بأن انسيابية التلقي هي الأخرى تتغير بشكل مفاجيء، وكأنها تعرضت إلى مطب اصطناعي يوقظه من لحظة الاستمتاع بأنثيال اللغة المعبرة عن المشاعر، ليتحول إلى مجرد متلق لمعلومات تهدف إلى الحكي بدون الغوص إلى العمق، قبل أن يعود ثانية إلى الخط السردي الأول، وهكذا يتناوب الخطان على الظهور في الخطاب السردي وكأنه قد أدمج قصتين في خطاب واحد، الأولى تتحدث عن اللحظة الراهنة والأفكار التي تدور برأس الراوي، والثانية تتحدث عن السيرة الذاتية للراوي نفسه. وما يحسب للكاتب أنه أوجد عبر تواصل الحكي نقاط تلاق بين القصتين تشكل لحظة انعطاف في زمن السرد دون أن يخلّ بانسيابيته، ولولا تغير لغة السرد لما شعر المتلقي بذلك الانعطاف لتمتزج اللحظة الحالية، بالزمن الماضي. 
ولما كان العنوان يشكل العتبة الأساسية لفهم النص فأننا نستطيع أن نقول إن انثيالات اللحظة الراهنة التي تدور في نفس الراوي والتي لا يريد أن يعرف بها أحد هي البؤرة التي يعمل الكاتب على إيصالها لنا فيسميها داخل النص "غنائي السري" وهو فعلا غناء لا يمكن البوح به أجاد الكاتب في التعبير عنه، متلاعبا بسير السرد وزمنه.
لقد استطاع الروائي والشاعر منذر عبدالحر أن يتجاوز تجربته السابقة في الكتابة الروائية نحو الأفضل، فيما بدى توجهه الشعري واضحا في ثنايا القص، حيث وظفه بما يعطي عملية السرد جمالية أكثر سواء بذكر مقاطع شعرية أو آراء نقدية أو جعل أحدى شخوصه (الطالب عادل) شاعرا شابا يحمل بذرة الإبداع في قصائده. كما أن لغة السرد بعموميتها جاءت "محلقة" حقا كما وصفها الناشر في الغلاف الأخير للرواية.