"زينة" .. اختلاط الأنواع والأجناس الأدبية

رواية السيد حنفي ليست رواية تقليدية، فهي عمل فكري فوق كونها عملا فنيا ممتعا.
بينما كان ويليك يجد صعوبة في التمييز بين الأنواع، نجد نحن استحالة ذلك
المكان عبارة عن رمال ليس فيها أية معالم سوى الأكفان المعلقة في الفضاء

بقلم: د . ثائر العذارى  

حين تحدث رينيه ويليك في كتابه المشترك مع أوستن وارن الموسوم بـ "نظرية الأدب" عن نظرية الأنواع الأدبية. عبّر عن إحساسه بتداخل الأنواع، حتى لا يكون من السهل التمييز بينها، وتنبأ بانهيار النظرية إن عاجلا أو آجلا .
وبعد أكثر من نصف قرن على تلك النبوءة، نعيش اليوم عصرا تصبح فيه المعضلة أكثر تعقيدا، فبينما كان ويليك يجد صعوبة في التمييز بين الأنواع، نجد نحن استحالة ذلك، بل لقد اختلطت الأجناس ذاتها (النثر والشعر) وأصبحنا مضطرين لاستخدام كلمة "نص" لوصف عمل أدبي لا نتمكن من نسبته إلى نوع أو جنس محدد.
"زينة" عمل أدبي تختلط فيه الأنواع والأجناس، فالكاتب يوظف تكتيكات الرواية والمسرحية معا، ويصوغ أفكاره معتمدا خيالا شعريا مصوغا بلغة شعرية، ليقدم لنا عملا أدبيا لا نستطيع نسبته إلى أي من هذه الفنون الثلاثة، ولأن عنصر السرد غالب فيها فسنسميها رواية تجوزا.
صممت بيئة الرواية بتكنيك شعري، فالمكان الرئيسي فيها يقع على الحدود بين الحياة والموت، إنه المكان الذي يدخله الموتى حال مغادرتهم الحياة وقبل دخولهم (حياة الأموات الأبدية)، ولهذا فالمكان عبارة عن رمال ليس فيها أية معالم سوى الأكفان المعلقة في الفضاء، وفي هذا المكان الوحيد يدور حوار الشخصيات الذي يرسم صورا لمدن كانت تعيش فيها شخصيات الرواية قبل موتها، والقارئ يتعرف على تلك الصور من خلال تكنيك flashback الذي تمر به الشخصيات على التوالي.
غير أن البيئة الرملية التي تشبه البرزخ الذي تحدثنا عنه المأثورات الدينية تبقى لها السيادة على السرد، ليبقى الرمل والتصحر والأكفان ورائحة الموت صيغة رئيسة للرواية.

طغيان المدنية المعاصرة أدى إلى إلغاء الفردانية والذاتية والوجدان، حتى صار الناس بلا ملامح وبلا أسماء، بل بلا حياة حقيقية

وهذه الهيمنة للمكان الواحد تقرب العمل من المسرحية، فأي مخرج مسرحي لن يحتاج لأن يبذل جهدا كبيرا لإخراجها مسرحية بفصل واحد، فالمكان واحد والحوار المسرحي محدد وجاهز للحفظ .
في الرواية أربع شخصيات رئيسية لها حضور محدد في مجرى السرد "رحال" الراوي، "زينة" بطلة الرواية، "الآخر"، و"فؤاد". وهناك شخصيات أخرى ترسم من خلال الحوار مثل "ضياء" صديق فؤاد و"سعيد الجنوبي" زوج زينة وغيرهما، وهناك شخصيات جماعية هي شخصيات "العازفين" التي تشبه الكورس في تكنيكات المسرح.
ويلاحظ، فيما يخص شخصيات الرواية أنها في الغالب ليس لها أسماء فـ "الآخر" لا نعرف اسمه، و"الرحال" ليس اسما حقيقيا، و"زينة" ذاتها مشكوكا في اسمها ووجودها أصلا.
وفي معظم أجزاء الرواية تظهر الشخصيات بدون ملامح، بحيث يصعب التعرف عليها، وهذه ثيمة مهمة تخدم البنية الجمالية فضلا عن إرشادها القارئ إلى الثيمة الرئيسية التي يريد الكاتب إيصالها في النهاية.
يبني الكاتب سرده بطريقة غاية في التعقيد. فكل أحداث الرواية الأساسية تصلنا عبر الحوار الطويل بين الشخصيات الرئيسة وأحيانا عبر حوار لشخصيات غائية من خلال تكنيك flashback   الذي تمر به تلك الشخصيات، ولكن ينبغي أن ينتبه القارئ إلى أن كل تلك الحوارات تصلنا عن طريق الراوي "رحال"، ولذلك فإن الأحداث تمر بمرشح واحد عن طريق البنية:
"قال الرحال : ...................... "
فسيفرض الراوي علينا سلطة رؤيته، أو مرشحين عن طريق البنية: 
"قال الرحال، قالت زينة: ................... "
فتمر الأحداث عبر رؤيتين متعارضتين، وأحيانا ثلاثة مرشحات: 
"قال الرحال، قال فؤاد، قال الحكيم:..........................."
هكذا تصبح الحقائق هلامية لا شكل لها ولا وجود، متناثرة بين رؤى الشخصيات المتداخلة، وهذا هدف فني وموضوعي من أهداف الكاتب كما سنبين لاحقا.
تعرض الرواية في حبكتها صورا شعرية للتجربة الإنسانية الدائبة في البحث عن بنية اجتماعية مثالية. فهناك المجتمع الشيوعي الذي جاء منه فؤاد، والمجتمع المعسكر الذي جاء منه رحال، والمجتمع الإسلامي الذي نرى فيه الشيخ حسن والعم عبدالمقصود، أما زينة فهي العامل المشترك بين كل مجتمعات الرواية، فهي موجودة فيها جميعا لكنها غامضة مجهولة والكل يطلبها ويبحث عنها.
وإذا كانت زينة رمزا للحقيقة الضائعة، فقد ظهرت الحقيقة إذن في هذه الرواية بصورة عاهرة فاتنة مراوغة يظن الجميع أنهم ضاجعوها، لكنها في النهاية ليست ملكا لأي منهم.
وسيرى القارئ كيف سيكون من الصعب عليه تحديد موقف وجداني من زينة، فهو سيكون منجرا وراء شخصيات الرجال في الحكم النهائي عليها بأنها امرأة بلا قلب تبتغي اللذة المادية منهم ثم تنبذهم بغير رحمة، وبعد قليل يجد نفسه متعاطفا معها في إحساسها بالظلم وبحثها الدائب عن شاعرها، وهذه غاية من غايات الرواية. 

البيئة الرملية
الكاتب يوظف تكتيكات الرواية والمسرحية معا

زينة هي الحقيقة الضائعة التي نحب الوصول إليها لكنها أبدا تفلت من بين أيدينا في اللحظة التي نظن أننا أمسكنا بها .
 وبعد فإن "زينة" ليست رواية تقليدية، فهي عمل فكري فوق كونها عملا فنيا ممتعا، لقد ذكرني مشهد البرزخ بصورة اليوت في الأرض اليباب التي أظهر فيها الناس العابرين على جسر لندن كحشد من الأموات.
طغيان المدنية المعاصرة أدى إلى إلغاء الفردانية والذاتية والوجدان، حتى صار الناس بلا ملامح وبلا أسماء، بل بلا حياة حقيقية، وأترك للقارئ البحث عن صورة الله والأنبياء واليهود والمارد الأميركي والدكتاتورية والمخابرات والاعتقال السياسي والإعدام في ثنايا الرواية التي أتمنى أن يستمتع بقراءتها.