"أبناء الماء" تجسد صراع البشرية من أجل العيش والسلام

رواية عواد علي نداء إنساني أدبي ناعم يدعو كل ضمير حي كي يقف مع الحق والعدل والسلام والتآلف بين البشر، في كل مكان على وجه هذه الأرض.
كثرة الشخوص ووصف ظروفهم ومفاهيمهم في الرواية مهمة صعبة على القارئ
لكل شخصية دورها وحريتها للتحدث عن خبراتها وما مرّ بها

بقلم: نازك ضمرة

من منطلق عنونة رواية "أبناء الماء" استثارني الأديب العراقي عواد علي مؤلف هذه الرواية، وأعرف أنه متعدد المواهب، فالعنوان عتبة للنص كما يقولون، فماذا قصد عواد علي حين سمى روايته "أبناء الماء" الصادرة عن دار أزمنة، والتي جاءت في أكثر من مائتي صفحة؟ 
لماذا تسمية الرواية "أبناء الماء"؟ وهل يتضمن هذا العنوان محتوى التأويلات التي أراد الكاتب التعبير عنها؟ أو أنه بهذا العنوان يلخص ويعصر الحكاية في ذهن القارئ بعد قراءتها؟ وماذا قصد بـ "أبناء الماء"؟ هل قصد أن جميع العراقيين هم أبناء ما بين النهرين دجلة والفرات؟ أو إن تعرض بعضهم او معظمهم عانى التهجير القسري والتعذيب لأنهم مسيحيون يتعمدون بالماء حسب التعاليم الدينية؟ ولكن عقولنا لا تستطيع ان تغفل ما ينشر في الإعلام كل يوم عن غرق العشرات من المهاجرين كل يوم في أعماق البحار، وهم يحاولون النأي عن الظلم والفقر والتعذيب في بلادهم، ويمكن أن نسمي جميع المهجرين قسريا او اضطراريا بأنهم "أبناء الماء"، لأنهم نجوا من محنهم، ونعموا بالحرية والكرامة في أرض الاغتراب بعد عبور البحور والأنهار؟ ولأترك بقية التأويلات للقارئ. 
أول ما أثارني أثناء قراءة هذه الرواية هي قدرة عواد علي على لملمة الأحداث والتعقيدات التي مرت على شخوص الرواية، والتي تشكل مجموعة من القصص القصيرة، والتي تشبه الخيال، أو قد يكون فيها الكثير من الخيال. والنقطة الأكثر أهمية في هذه الرواية تركيز الكاتب على النزعة الإنسانية، خارجاً من قشور نشأته الأولى في طائفته التي لم أسأله عنها، ولست متأكدا منها، ولم ألتق به لنتحدث عن هذه الرواية، لكنني أعتقدت دائما أن عواد مسلم شيعي في نشأته، لكنّ سمو الفكر وعلو الثقافة وعمقها تجعل من الأديب إنسانا عالمي الفكر والتوجه.
وقبل أن أبدأ بعرض ما علق بذهني من ملاحظات بعد القراءة العجلى لهذه الرواية، لا بد أن أشير إلى مقدرة الكاتب الفنية الدرامية والسردية والتجميعية التوفيقة أثناء تناوله تحركات وحيوات نماذج من طوائف وإثنيات عراقية من مندائية وكردية وتركمانية وشيعية وسنة وايزيدية، إذ انتهز كاتب الرواية ظروف الاغتراب والتشرد والهرب من الموت وسيلته لجمع شخوص مختلفة في الدين والتربية والنشأة، ليعبر لنا عن مفاهيمه في الحياة والتعايش، جاعلا الحب يتجاوز الإرهاب الذي عاناه العراق ودول عربية أخرى، ذلك الإرهاب والموت الذي شرّد الكثير من طوائف النسيج العراقي الذي كان منسجما ومتآلفا، مما اضطر الكثيرين للهرب إلى بلاد فيها الحرية والكرامة التي ينشدها كل إنسان. 

عنوان عتبة للنص
جاءت في أكثر من مائتي صفحة

هذه المقدرة والذاكرة الواسعة التي تميز بها الكاتب عواد علي، ضغطت عليّ لأكتب انفعالاتي وتأثري بهذا العمل الأدبي الإنساني العالمي المميَّز، مما جعلني أتمنى أن يترجم هذه العمل الأدبي إلى لغات مختلفة. لكن أرى صعوبة تحويل هذه الرواية إلى فيلم سينمائي، وخاصة في العالم العربي، لكثرة موضوعاتها الحية وصلاحيتها لتتحول لمسلسل درامي طويل لثلاثين حلقة أو قد يمكن تمديده لمائة حلقة، وسيكون أكثر واقعية وشهرة ومتعة ومنفعة للمجتمع العربي ككل، لأن إخراجها في فيلم سينائي سيكون من الصعب إيجاد ممثلين أكفياء ولتكاليف الانتقالات إلى أماكن مختلفة من العالم بظروفها ومواقعها ولغاتها وترابطات العائلات المرافقة، ثم إن عامل التمويل مهم ويكون في العادة عائقا أكبر يواجه منتج الفيلم. 
ثم يأتي كاتب السيناريو الذي قد يجد صعوبة قصوى في تجسيد فكر الكاتب الأصيل بدقة بسبب تعقيدات الحياة والأماكن والظروف المتغيرة بقسوة اأو بحميمية، في أجواء من الخوف والقلق والموت والتهجير والتفجيرات والحب والرضا والانسجام والتنافر، كل تلك العناصر كانت هي ما قامت عليه هذه الرواية. فهي تشبه إعجازا توفيقيا، فتلك الشخوص مختلفة المشارب والمآكل والمذاهب والأصول، جعل المؤلف يتخذ الاغتراب والهجرة القسرية مجالا  للتقارب بينهم حتى وإن اختلفت معتقداتهم، فالحب هو نفسه دين متفق عليه، وينسجم مع أي دين، وبحر الحب يحمل أي مركب لأي صنف أو جنس أو دين مهما اختلفت النشأة والثقافة والتراث، فالحب والضحك هما لغة البشرية التي تجعل من الأماكن جنات مناسبة لكي نحياها، ولنعمر الوجود بالبشر والإنتاج والشجر.
رواية "أبناء الماء" تجسد صراع البشرية من أجل العيش والسلام، فهي حكاية كل مكان على هذه الأرض، ومثل هذه العذابات والقلق والهجرة والتهجير حصلت وما زالت تحصل في كل مكان على الأرض التي نعرفها ونعيش عليها، فالهجرات والتهجير مثل هبوب الهواء غير المرغوب فيه، والذي لا نراه في الأجواء، تارة شمالا وأخرى جنوبا، وتارة شرقا وثانية في الغرب، مرة ريح مزلزلة، وأخرى ناعمة أو هي عاصفة أو نسيم يحمل الخير والأمل، ويحفز على المحبة والسلام والأمن، فتعقيدات الحياة التي عاشتها الشخوص في هذه الرواية ترمز لحياة الإنسان وكفاحه وصبره وتحركاته على مدى الزمان واتساعات الأماكن، فهي رواية كل شعب حتى لو بدا أن ذلك الشعب آمنا راسخا مستقراً، لكن مطالب الحياة في كل مكان هي نشاط وقلق وسعي للسلام والحب والجمال والاستقرار، والتهجير والحروب والدمار هي التهديد الذي يفسد حياة الإنسان ويضطره للهجرة القسرية من أرضه ووطنه ومن الأماكن التي ولد بهاوتربى عليها، فالتهجير يحصل عادة بالإكراه أو بالخوف من الموت والتعذيب، علنا أو خفية، وخلق ظروفا صعبة على البشر يضطرهم للهجرة والنجاة من الموت. فالرواية نداء إنساني أدبي ناعم يدعو كل ضمير حي كي يقف مع الحق والعدل والسلام والتآلف بين البشر، في كل مكان على وجه هذه الأرض. 
وعليّ أن أشير بأن هذه الرواية كأنها مصفوفة هندسية تتطلب استخدام معادلات وترتيبات متوازنة مترابطة صحيحة لتبقى متماسكة متوازنة التقدم للوصول إلى حل أمثل أو للوضع الطبيعي، لكنها تحتوي على مجموعة مواقف متناقضة حينا، ومتوافقة أحيانا أخرى او مترابطة لتتفاعل مع ذكاء القارئ أو لتختبره أو تحيره أو تحفزه للبحث عن حلول لشخوصها الواقعين تحت ضغوط مفروضة عليهم، ودون إرادتهم، وحسب المعطيات والافتراضات والرغبات وما ينقص النفس البشرية الآمنة أو مايلزمها. 
وفي موقف يصف فيه المؤلف واحدة من نتائج الاحتلال الأجنبي المسيحي للعراق، جاء على لسان أحد الشخوص "لم يخطر ببالنا قط أن ذلك اليوم سيكون من أشد الأيام قسوة ومرارة على أسرتنا ونحن نتهيأ للتحرر من خطايانا وآثامنا، رغم المضايقات الشديدة التي بدأ يتعرض لها المسيحيون في المدينة بعد الاحتلال". 
ومن نتائج الاحتلال أيضا، نشوء طبقة نفعية تتستر بالدين لتستغل الناس المسحوقين، وتثري أو تصل لمراكز سلطة قوية، فتثير نعرة الدين والطائفية، لتظل مسيطرة بينما الناس يعانون من عذاب المحتل أولا، ومن وكلا ء المحتل الوصوليين الذين أمسكوا بسلطة تحكمية، لتبقي الناس في ورطات الصراع الطائفي والديني. 

صعوبة تحويل هذه الرواية إلى فيلم سينمائي
تجسيد فكر الكاتب الأصيل

يقول الدكتور أحمد النعيمي في كتابه "الآفاق الإنسانية في الأدب والفكر": "الخلل المؤدي إلى صراعات وحروب الإبادة الجماعية لا تكمن في الثقافات نفسها، إذ يمكنها أن تتعايش وتتجاور وتتفاعل إذا ما توفرت النوايا الحسنة لممثليها، بل يتحمله أولئك الذين يرغمون الثقافات على أداء أدوار غير مفصلة لها، وليست من طبيعتها وجوهرها من خلال فرض إملاءات عليها لتحويلها إلى خطابات تحريضية عنصرية أو طائفية أو عرقية، أمثال هؤلاء يغلبون المصالح والطموحات الشخصية على الجوهر الإنساني للثقافة" (الفصل الثاني صفحة 23). 
وأعتقد ان لا شرط على الناقد تلخيص أحداث الرواية للقارئ، فتلك ليست مهمته، لكن الأهم هو وجهة نظرك وانطباعك عن جهد الكاتب وفنه والمحرك الفاعل في نفسه، إن استطعت التقاطه. ولقد أصبح معروفا أن الرواية هي تأريخ ما يهمله المؤرخ من تفاصيل ومنمنمات حياة الأفراد والمجتمعات عبر فترات التاريخ، فالرواية هي سجل آخر فاضح ومفسر للتاريخ والمعاش والثقافة والأسرار التي تجري بين ثنايا سطور التاريخ لتروي تحالف البشر وتآلفهم وتناقضاتهم والصراعات العلنية والمخفية التي تداعب نفوسهم أو تعبث بها. 
ولذلك كانت رواية "أبناء الماء" صرخة مدوية في أجواء النفس البشرية، مذكرة بالنزعة الإنسانية التي علينا العمل على التمسك بها، لأنها هي المركب الذي ينجينا من الغرق في محيطات الفوضى والتمردات والإنانية والفرقة والشخصنة المتطرفة والتعسف. 
ومع هذا يعتقد كاتب هذه السطور أن مؤلف الرواية نفسه تعب كثيرا حتى استطاع ان يتوقف عند محطة للراحة، لكن الحكاية لم تنضج، ولم تكتمل، فأمام الكاتب مشوار طويل لكتابة المزيد من الأجزاء الروائية لإرضائنا وإنجاز ما جال في خاطره من مشاعر إنسانية لحياة أفضل ولمجتمع نحاكي فيه عدالة السماء ما أمكن.
وقبل إنهاء هذا المقال، لا بد أن أنوه بأبعاد ثقافة مؤلف هذه الرواية وسعتها، فثروته المعرفية الواسعة تجلت في مواقع كثيرة في الرواية أذكر منها الأمثلة التالية: "كما لو أنه ذلك الصبي الباكي ذو القميص الأحمر في لوحة جيوفاني". (ص 38). 
وفي (ص 52) جاء ما يلي على لسان ميران الصابئي: "يقول كتابنا المقدس الكنزاريّا: يا أصفيائي أيها المؤمنون، لا تمجدوا الشمس والقمر، هو الله الذي أمر، فكان لهما وللكواكب هذا الضياء، لكي ينيروا به الظلماء". ومثال تاريخي آخر: كان الحزب قد أسس محطة في القامشلي عام 1979 محاذية للحدود العراقية، يمكن أن ينقل الرفاق عبرها السلاح، الذي تتبرع به المنظمات الفلسطينية المناضلة إلى قاطع "بهدينان". (ص 88).  
"اسمي ميران، ومعناه بالتركية يوم القمر، أذربيجانية ومولودة في باكو" (ص 100)، "لإن الزرادشتيين يعبدون إلهاً واحداً ويصلون له خمس مرات يومياً" (ص 103)، "تيريز هلسة التي كانت مع آخرين اختطفت طائرة قادمة من بروكسل إلى مطار اللد عام 1972 ولدت وعاشت في مدينة عكا بفلسطين، من أب أردني وأم فلسطينية وجرحت نتنياهو حين كان مع الجنود الذين هاجموا الطائرة" (ص 110)، "كانت المغنية العظيمة سليمة مراد، وزوجها ناظم الغزالي" (ص 112). "حي الرسامين في لاهاي سمي كذلك لأن شوارعه وساحاته تحمل أسماء أشهر الرسامين الهولنديين، مثل فان كوخ، ويوهانس فيرمير، ورامبرانت فان راين، ومايندرت هويما، وبيت مودريان" (ص 120). 
"معلومات عن فندق النجوم في كندا، كل غرفة من غرفه الثلاثين تحمل اسم فنان أو رياضي أو أديب مشهور مثل سيلين ديان والمخرج السينمائي جميس كاميرون، والنحات بيل ريد...". (ص 130). 
ولعلّ كثرة الشخوص ووصف ظروفهم ومفاهيمهم في الرواية موضوع البحث هي مهمة صعبة على القارئ، ولكنني أعتقد أن هذه الحال كانت أصعب بكثير على الكاتب نفسه، لسببين: أولهما التوفيق بين الظلم والتهجير القسري وبين الحب والتفاهم خارج الوطن، ثم بسبب المتابعات المتباعدة أو المتقطعة، وبأسلوب بوليفوني (متعدد الأصوات)، وإعطاء كل شخصية دورها وحريتها للتحدث عن خبراتها وما مرّ بها، وكاتب النص كان حذرا وجيد المتابعة ليخرج القارئ فاهما جوهر ما أراد الكاتب قوله عن حياة الاغتراب والتهجير القسري.