كليوباترا ومحمود سعيد .. حوارية الموت والخلود

لو كان النصر لي في تلك الموقعة، لتغير وجه مصر ووجه الكرة الأرضية، فأنا ابنة الحضارات والثقافات الثلاثة: الإغريقية والمصرية والرومانية.
أريد أن أُرسم في لوحة عظيمة شاهقة تدخل كل القصور والبيوت مثل لوحة "موناليزا" المعلقة على جدران كثيرة في العالم
من لا يقرأ التاريخ يظل أبد الدهر طفلا صغيرا

أخبرتُها أنني لا أرسم الشخصيات التاريخية، ولا الشخصيات الأسطورية، فقط أرسم الشخصيات الشعبية، وأجاملُ الأقارب والمعارف برسمهم بناء على طلبهم، وأحيانا أرسم الطبيعة، وقد أكثرت من رسمها في السنوات القليلة الماضية.
-    ولكنك تستطيع.
-    نعم أستطيع ولكن لا أريد.
-    أنت حر، ما لم تضر.
-    وأنا لم أضر أحدا بعدم رسمي وتلويني له.
-    ولكنك تضرني الآن!
-    كيف؟
-    أنت تسير فوق بقايا قصري.
-    أين هو؟
-    إنه تحت الماء.
-    أسمع أنه توجد إسكندرية أخرى تحت الماء.
-    إنها إسكندريتي التي غرقتْ أكثر من مرة دون أن أستطيع إنقاذها!
-    وستغرق ثانية جراء التسونامي الجديد الذي سيحدث بعد عدة عقود.
-    وكيف عرفت هذا؟
-    رأيت المستقبل.
-    أو لم تر مستقبلي بعد موقعة أكتيوم البحرية؟

أنا ذاهب الآن إلى موتي
- أو تظن أنها خالدة مخلدة منذ العام 30 قبل الميلاد وحتى الآن؟

-    هذا ماض وليس مستقبلا.
-    كان مستقبلا لي.
-    نحن في القرن العشرين، وأنت تتحدثين عن أحداث وقعت قبل الميلاد.
-    كنت أريدك أن ترى .. لو كان النصر لي في تلك الموقعة، لتغير وجه مصر ووجه الكرة الأرضية، فأنا ابنة الحضارات والثقافات الثلاثة: الإغريقية والمصرية والرومانية. ومن لا يقرأ التاريخ يظل أبد الدهر طفلا صغيرا.
-    أنت تبالغين.
-    لا أبالغ .. ولكنت ساعتها كلفتك أن ترسمني في إحدى لوحاتك، مثلما رسمت لوحة حفل افتتاح قناة السويس تكليفا.
-    وأنا لا أقبل التكليف.
-    حتى لو كنت قد عينتُك رساما في البلاط الملكي؟
-    هناك أكثر من رسام عالمي عُين رساما في البلاط الملكي أو رسام الملك وخاصة في فرنسا وإسبانيا وإنجلترا، مثل جويا، وفيلاسكيز، وتوماس لورنس، وفينترهالتر، وهذا الأخير بفضل التكليف الملكي في البلاط الإنجليزي أصبح أعلى رسامي البلاط أجراً في أوروبا. ولكن عن نفسي أعتقد أنني لم أكن أقبل ذلك.
-    وإذا طلبت منك أن ترسمني الآن؟
-    لقد صُنعتْ لك تماثيل كثيرة موجودة في العديد من البلدان.
-    التماثيل المصنوعة لي ثقيلة سواء كانت من الرخام الأبيض أو الجرانيت أو الحجر الجيري أو البرونز أو النحاس أو المعادن المختلفة، وأنا أريد أن أُرسم في لوحة عظيمة شاهقة تدخل كل القصور والبيوت مثل لوحة "موناليزا" المعلقة على جدران كثيرة في العالم. ولعلك تستطيع إظهار أنفي بشكل أقصر مما جاء في التماثيل التي صُنعت لي، فقد قال عني الكاتب الفرنسي بليز باسكال: "لو كانت أنف كليوباترا أقصر، لتغير وجه العالم كله".
-    بكل أسف سيدتي .. أنا ذاهب الآن إلى موتي.
-    أنا حورسة العظيمة، سيدة الجمال، مفيدة النصيحة، سيدة الأرضين، ملكة الملوك، كليوباترا الإلهة محبة أبيها .. بل أنا إيزيس الجديدة .. أستطيع أن أمنحك الخلود – مثلما مُنحتُه أنا - إذا رسمتني كما أريد.
-    أراكِ الآن واقفة على متن سفينتك المذهبة ذات الأشرعة الأرجوانية كفتاة جميلة بملابس حورية من البحر .. ولكن كيف مُنحتِ الخلود؟
-    ستجد هذا في رواية ستكتب بعنوان "الماء العاشق".
-    إنها روايات.
-    ولكنها تستند إلى الحقائق، وتزيح اللون الباهت الرمادي عن الأشياء لتبدو شفافة ومشعة بعد إزالة الصدأ منها والرواسب عنها.
-    إذن أنت تقدرين الألوان وتفهمين معناها.

-    بطبعية الحال .. أنا كنت راعية الفنون والثقافة في الشرق كله أثناء سنوات حكمي، وكانت التماثيل والجداريات هي الأكثر انتشارا في عصري. لم تكن اللوحات والإطارات قد انتشرت بعد، وكان النحات الأثيني جايوس أفيانوس إيفاندر يعمل مستشارا لي في الفنون التشكيلية.
-    أتذكر أنني شاهدتُ لكِ – أثناء جولاتي الأوروبية على المتاحف والمعارض - ثلاثة رؤوس من الرخام؛ الأول بمتحف الفاتيكان، وهو تمثال نصفي من الرخام الطبيعي، والثاني في متحف برلين وهو رأس كبير من الرخام، والأخير في متحف مونتيمارتين، أحد متاحف كابيتولين بروما، ويعرف بتمثال إيزيس كليوباترا.
-    وغيره وغيره .. غير أنني لا أحب تلك الصورة التي أمر أوكتافيوس برسمها لي مع اثنين من الثعابين، وسار بها في موكب نصره في روما عام 29 قبل الميلاد، لذا أدعوك بشدة وألحُّ في ذلك أن ترسمني في لوحة شاهقة – كما تراني الآن – لا أريد تمثالا جديدا، ولكني أريد لوحة ملونة بريشة أحد عباقرة الرسم والتلوين في مدينتي الحبيبة الإسكندرية.

مرّ طيف ملك الموت "مَبْهَج" أمامي، فأفسد كل شيء، كنت على وشك أن أوافق على اقتراح الملكة كليوباترا بأن أرسمها مقابل أن تمنحني الخلود، لأرسم العالم كله بعد ذلك، وأرسم الحياة بكل أشكالها وألوانها ومباهجها في آناء الليل وأطراف النهار.
ليس هذا فقط، ولكن تبخرت الملكة كليوباترا من أمامي.
لقد كانت فرصة عظيمة لن تتكرر أبدا أفسدها مبهج، فأحزنني كثيرا.
-    أو تظن أنها تستطيع ذلك؟
-    هي وعدت.
-    أو تظن أنها خالدة مخلدة منذ العام 30 قبل الميلاد وحتى الآن؟
-    هي التي قالت، ونصحتني بقراءة "الماء العاشق".
-    أو تظن أن هناك ماء عاشقا؟
-    ولم لا ..
-    يعشق مَنْ؟
-    الله سبحانه وتعالى.
-    إنه من مخلوقاته، والمخلوق يعشق خالقه. أتدري أن هذا اللفظ "العشق" الذي تتغنون به، وتكثرون منه في كتاباتكم وأحاديثكم وعناوين كتبكم وشعركم وأغانيكم، لم يرد على الإطلاق – لا هو ولا مشتقاته – في القرآن الكريم. 
-    ما الذي ورد إذن، تعبيرا عن العشق وحالاته، خاصة أن هناك "العشق الصوفي" لله؟
-    وردَ الحبُّ بكل مشتقاته وتراكيبه 83 مرة في القرآن الكريم، وجاءت كلمة "محبة" وليس "عشق" عندما خاطب الله سبحانه وتعالي النبي موسى فقال له في سورة طه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي} ولم يقل له وألقيت عليك عشقا مني.
-    ولكن هناك ما يعرف بالعشق، مثل العشق الصوفي، أو لم تسمع عن "شهيدة العشق الآلهي"؟
-    ومن هي تلك الشهيدة؟
-    إنها رابعة العدوية.
-    هي أشياء في خيالكم أنتم أيها الناس.
-    ذكرتني ببيتين لأمير الشعراء أحمد شوقي.
-    وما هما؟
-    جاذبتني ثوبي العصي وقالت ** أنتم الناس أيها الشعراءُ
فاتقوا الله في قلوبِ العذارى ** فالعذارى قلوبهن هواءُ
-    فعلا هي قلوب من الهواء والأهواء كما قال أميركم الشاعر. والأهواء لا تستقر على حال. 
-    عموما في اللغة العربية: كل محبوب معشوق، واشتقاق العشق من العَشَقة وهي اللبلاب لأنه يلتوي على الشجر ويلزمه.
-    عموما أكمل مسيرتك إلى لحظتك، ولا تجنح إلى كليوباترا أو إيزيس. ولا بد من  أن تكون على يقين من أنني آخذ الروح إلى مكان تخلد فيه إلى الأبد.