الرواية تحب التحولات
قدمت الروائيتان العراقية أنعام كجه جي والسورية د. شهلا العجيلي جلسة حوارية متميزة أدارها الكاتب ياسين عدنان الذي أثار العديد من النقاط المهمة في روايتي الكاتبتين "النبيذة" و"صيف مع العدو" اللتين كانتا ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية ـ البوكر، الأولى راوحت بشكل رائع ما بين الزمن الماضي والزمن الحاضر، عبر رموز تجاورت وتحاورت وتتداخل وتتفاعل في الرواية، حيث كانت لحظة الربيع العربي منطلقا للحدث، لتذهب إلى حقبتين زمنيتين من تاريخ العراق الملكية والجمهورية، فيما رسمت الثانية وترسم مشاهد من حياة مدينة الرقة السورية على امتداد ثلاثة أجيال؛ فهي سيرة مدينة، ولكنها أيضا سيرة مواطنين يدفعهم سوء الواقع إلى الهجرة إلى أماكن بعيدة ولغات مختلفة، وإلى فقدان الهوية.
قالت أنعام كجه جي "منذ وعيت على الدنيا مثلا في سن الخامسة عشر وأنا أسمع عبارة مازالت تتردد حتى الآن وأنا فوق الستين، وهي "في هذه اللحظة الحرجة التي تمر بها أمتنا العربية"، اللحظة في التعريف القاموسي يعني "هنيهات"، معقولة لحظة تستمر من الستينيات إلى نهاية العشرية الثانية من القرن والحادي والعشرين، هذه لحظة طويلة مستطيلة، إذن عندما أنظر إلى الواقع اليوم أرى أننا وصلنا إلى لحظة أشد حراجة من كل ما مضى، كيف وصلنا إلى هذه اللحظة، لا بد أن نعود إلى مسبباتها. إنني لا أروي التاريخ، ولا أعود إلى ما هو موجود بالصحف وبالعناوين الكبيرة وفي التقارير الإخبارية، هذه كلها تتكلم عن الكبار، عن السياسة، عن الزعماء والوزراء والصراعات الحزبية، كل هذا الخليط، كل هذا التنافس، كل هذا التناحر ما تأثيره على البشر العاديين، على امرأة عجوز، على رجل اضطر أن يترك بلده، على شاب لا يستطيع أن يخطط لسنة مقبلة، هؤلاء الناس المطرودين الذين انحرفت مصائرهم بسبب الأوضاع والنزاعات السياسية هم الذين أحاول أن أتناولهم وأسلط الضوء عليهم.
أكتب من أجل التجارب الإنسانية وليس من أجل رواية لتسوق، إننا نعيش لحظة مهمة في التحولات، والرواية تحب التحولات
وأضافت أن تاج هذه البطلة الفذة لروايتي إنسانة عاشت في زمن غير طبيعي، عاشت في حياة واحدة حيوات متعددة، هذه السيدة الصحفية شاركت في بدايات التململ السياسي في العراق في الأربعينيات، كانت لديها صحيفة مقربة من القصر الملكي، رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ العراق نوري السعيد ساعدها في أن تكون لها صحيفتها وهي رئيسة تحرير في عام 1946، في لحظة تقف في شرفة الجريدة في شارع الرشيد وترى المظاهرات تنطلق ضد المعاهدة البريطانية العراقية، وتطالب بإلغاء المعاهدة، فهي تنفعل وتجد نفسها وقد نست وظيفتها وارتباطها بالقصر الملكي، وتنزل وتشارك المتظاهرين الذين يرفعونها على الأكتاف، ثم ننتقل إليها وهي على مشارف عامها التسعين تجري عملية في ركبتها في أحد المستتشفيات الفرنسية وترى شرطيا يقف على باب الغرفة المجاورة وتسأل من في الداخل حتى يقف شرطي على باب غرفته، وتكتشف أنه أحمد بن بلّة الرئيس الجزائري ذلك الذي يرقد في الغرفة المجاورة لها.
وفي محطة من محطاتها حياتها العديدة اشتغلت مع المخابرات الفرنسية وارسلتها باعتبارها تجيد العربية لمساعدة كوميندوز ذهبوا للقاهرة لاغتيال بن بلة حين كان لاجئا بمصر قبل استقلال الجزائر، هي تتصور أنه باق على قيد الحياة خمسون عاما إضافية، هي لم تشِ به حيث تراجعت في اللحظة الأخيرة، ثم ترى انطلاق الربيع العربي في تونس الذي التقت برئيسه بورقيبة في العراق عندما جاء يطلب التأييد لاستقلال بلده في أربعينيات القرن الماضي، فشيء مترابط بشيء، تاريخ بعيد عن التاريخ، تاريخ ما يهمله التاريخ، أي ظلال التاريخ أحاول أن ألملمها.
ورأت كجه أن بطلتها تاج كانت سابقة لزمانها، فهي متمردة وجريئة ولم تهرب من بيت العائلة ولكن انفصلت عنها هربا من زوج والدتها الذي تعلمت منه الكثير كونه كان رجل علم ودين وله مجلس أدبي، وهي تجلس في أعلى السلم تستمع إلى النقاشات التي تدور بينه وبين ضيوفه، وقد اكتسبت لغتها والشعر العربي والفقه وكل معارفها ليس من المدرسة ولكن من استماعها لنقاشات صالون زوج والدتها، فلما حاول أن يتحرش بها قامت أمها بإبعادها، فذهبت لتعيش مع عائلة صديقة ودخلت ميدان الصحافة، ذكية وجميلة وجريئة وطموحة واستطاعت أن يكون لها صحيفة، وبفضل الصحيفة ذهبت إلى كراتشي وتنقلت بين الإذاعة العربية في كراتشي إلى فرنسا.
هي لا تمثل المرأة العربية بشكل كامل، ولو فتح للمرأة العربية المجال وأعطيت الإمكانيات لاستطاعت القيام بالكثير من الأدوار والأعمال. في الشرق تتباين مستويات الحرية المتاحة للمرأة من بلدان المغربي العربي إلى مصر إلى بلاد الشام والعراق، إلى الخليج، المنطقة لها شروطها، وليس هناك منظومة اجتماعية مشتركة، فما يقال عن المرأة التونسية لا ينطبق على الخليجية أو العراقية.. وهكذا. وتاج كانت خليطا من ذلك فهي من أصول إيرانية نشأت في العراق وعملت في الخارج، هي امرأة حرة.
ولفتت كجه جي إلى أنها أحيانا تسأل هل تجدين نفسك في تاج؟ وقالت "أقول هي أجرأ مني بكثير وبالقياس لها اعتبر نفسي امرأة جبانة".
وحول تشبيك هذا العالم المتعدد الشخوص والأحداث والأمكنة في عالم رواية "النبيذة" وتضفيره بطريقة مشوقة، قالت كجه جي "التشويق مهنتي، أنا صحفية، القارئ اليوم يواجه صحفا كثيرة ومجلات بالعشرات، الآن بدأت تخفت، لكن في الفترة التي اشتغلت بها في بداياتي كانت هناك منافسة شديدة في الصحافة، فإذا لم تمسك القارئ منذ البداية يذهب عنك ولا يكمل المقال، وكذلك الرواية، الرواية الآن بالكاد تجد من يقتنيها، القراء انفضوا عن الكتب، لوجود وسائل أخرى، حتى ليقال إن الكتاب يحتضر، أنا أدعو هذا القارئ إلى مأدبة، ولا بد أن أقدم له طبقا شهيا، فأختار الجمل القصيرة والمشاهد السريعة.
وأكدت كجه جي القضية ليست قضية تشويق بقدر أن الإنسان يجب أن يكتب ما يتمنى أن يقرأ، أنا أكتب ما أتمنى أن أقرأ، وعندما أذهب إلى معرض كم كتابا أستطيع شراءه، أتمنى أن أشتري 500 كتاب، لا أستطيع الآن قراءة هذا العدد ولا حتى 50 كتابا، عندما يتقدم الإنسان بالعمر يبقى له قليل من الوقت، لذا أحب أن أقرأ ما أحب قراءته، لكن في فترات سابقة من عملي بالصحافة كنت أجبر نفسي لقراءة كتاب حتى أكتب عنه، اليوم ليس لدي الوقت لذلك، وأمام الشاب اليوم خيارات كثيرة غير القراءة، ثم تأتي المأساة العراقية لتضيف ثقلا عليه، يعني سيقرأ عن الموت والمقابر الجماعية والسجون والتعذيب والرهائن والاختطافات وجثث مفقودة، هذا يدفعه للاختناق، والإنسان إذا اختنق لا يستطيع مواصلة الحياة، ولهذا دائما أدس في رواياتي بعض الفكاهة والأغاني والأمثال الشعبية التي تحفظ ثقافة الشعوب باعتبارها خلاصة الحكمة الشعبية.
ورأت شهلا العجيلي أن روايتها رواية أجيال، وقالت "حاولت أن أتعرف قبل أن أعرف المتلقين، وقبل أن أشتغل على هذا العمل، على هذا التاريخ الإشكالي والهجين منذ انهيار الامبراطورية العثمانية، كيف تفككنا إلى هذه الدول وكيف بنيت هذه الكيانات القومية وكان لديها حلم أن تحقق دولة متكاملة وهي أصلا أفرادها اجتمعوا من جنسيات وأعراق وأديان متعددة، كيف فرضت عليهم عبر كل هذا التاريخ الطويل هويات وتغيرت هذه الهويات بطريقة سياسية، الحقيقة أنه سؤال اللحظة، حيث نعيش في المنطقة العربية إرادات لتغيير هوياتنا القومية التي عشنا عليها خمسين أو ستين عاما وأكثر.
وأضافت "طريقة عملي دائما تنطلق من هذا البناء أو هذه الحكايات التي رويت لنا منذ الطفولة وشكلت وعينا، الآن سؤال المنطق: أن هذا الوعي الذي أعطي لي أريد أن أسائله، أريد أن أسائل هذا التاريخ وهذا البناء الذي قدم لي، فأفكك هذا البناء، وعندما بدأت تفكيك هذا البناء اخترت فترة العشرينيات من القرن الماضي، اخترت فترة الحرب العالمية الأولى وما بعدها لأنها كانت بداية هذه الهجنة ولم تكن الحدود بين بلاد الشام واضحة ومن ثم يسهل التنقل، والفن باعتباره أكثر أشكال الحياة قدرة على الانفلات والتحرر من التابوهات والسلطات السياسية، فكرت كثيرا أن آتي بشخصة تقدم هذه الهجنة الثقافية وجدت ذلك في بديعة مصابني، وطبعا الروائي له علاقة بالفن والسينما والتشكيل وغيرها من معارف الحياة، وليس محصورا في لغة الكتابة والأدب، وجدت في بديعة أنها فتاة شامية من أسرة فقيرة، ومهما كانت العائلات وقتها تعيش في حرية اجتماعية لكن تبقى في إطار منظومة الإمبراطورية الإسلامية التي سقطت منذ قليل، ثم طبعت بطبائع أهل الشام، عاشت في بيروت ودمشق ثم مصر، بوينس آيرس، هجنة كبيرة، هجنة في شكل الموسيقى والرقص، وهذا ساعدني على الكتابة.
بديعة مصابني شخصية ناجزة لا أستطيع أن آتي بها إلى الرواية ثم لا أشتغل عليها. هذه المرأة التي ترقص في فرقة بديعة هي شخصية متخيلة أحضرتها وصنعت لها سياقا خاصا مناسبا لمنطق تلك المرحلة، وأتيت بها إلى مدينة الرقة، فكيف سأحمل هذا المكان البسيط ثقلا معرفيا وتاريخيا وحركات اجتماعية بحيث يوازي بيروت ودمشق والقاهرة وكولونيا، لا أستطيع فعل ذلك دون أن آتي له بشخصيات مضيئة وأضعها في هذا السياق.
وأشارت العجيلي إلى أنها لا تتمنى أن تكون أي من هاتيك النساء في روايتها المرأة العربية اليوم، لأن التاريخ الذي عاشته كل امرأة من النساء اللاتي قدمت لهن نماذج في الرواية هو تاريخ مؤسف ومحبط للمرأة تحديدا، تاريخ حملها أعباء ثقافية واجتماعية ولم تكن سعيدة، أنا أعتقد أن كل إنسان رجلا كان أو امرأة خلق ليكون سعيدا وأن تكون حياته أقل شقاء على الأقل، لكن المكابدات التي ليست من صناعة الحلم وإنما بسبب إرادات الآخرين، إرادات سياسية وسلطوية بالدرجة الأولى، الإنسان لا يحقق أحلامه، هو يقوم بأدوار للآخرين ومن أجل مشاريعهم، والمرأة العربية هي الحلقة الأضعف، ومع ذلك فالنساء اللاتي قدمتهن عندهن طريقهن لإقامة الحياة وأود البيت والفرح والتحرر والمتعة بكسر التابو.
وأوضحت "هذه الطفلة الموجود بالرواية دائما ما أستخدمها حيث تستطيع أن تمرر عبرها ما تريد أنت، تنتقد المجتمع والعائلة، استرداد الطفولة إذا كانت غنية يمثل مخزنا هائلا للأفكار والمشاعر، وشخصيا دائما ما أنصت لحوارات ونقاشات الأطفال ودمج ما أسمع بسياق النص، أقرأ الشعر لأنه يعيد للطفولة، إن الروائي لديه الكثير من الأدوات ويستطيع أن يتقمص العديد من الأدوار، دور الطفل، دور المجنون، دور الفنان، فلا يظنن القارئ العزيز أننا نجلس إلى المكتب لتتدفق الأفكار، إننا نبحث ونقرأ ونتابع السينما والمسرح ومختلف أنواع الفنون، ولذا فإننا مسؤولون عن كل ما نكتب من حالات نفسية، لذلك شعر المتلقي أن طفلة هي من تتكلم، لكني بذلت مجهود كبيرة، عدت لأصدقاء الطفولة لأتذكر أحاديثنا المشتركة، وربما البعد عن مكان طفولتي ـ الرقة تحديدا ـ خلق لدي نوستالجيا جمالية".
وقالت العجيلي "اختلف الأمر عند لميس في مرحلة الشباب، فهرلاء الذي عاشوا طفولتهم في الرقة في ثمانينيات القرن الماضي هم قريبون مني عمريا، هذه المرحلة كانت مرحلة مساءلة، مرحلة كابوسية، لا تتكلم فالحيطان لها آذان وعيون، هناك حكايات شفاهية داخل أسوار الرقة وتخرج يوما ما لتتحول إلى عمل مكتوب، النساء عبر التاريخ اعتمدن على المشافهة، فكل ما قلن من حكايات هي مرويات شفهية. نحن هذا الجيل من الروائيات من حولن حكايات الجدات والآباء وكل دواوين العائلة، حولن هذا المروي الإنساني النسائي والذكوري إلى كتابة روائية. ليس عقدا مفككة ولا أحاديث شعبية بل رواية لها ضابط وموضوع وإشكاليات، هنا تتجلى الصنعة الأدبية.
وأكدت أن المعلومات المعرفية والتاريخية في روايتتها تابعة للشخصيات وليست مقحمة، وهي معلومات صحيحة وحقيقية وموثقة، وهذا سبب لقاء شخصتين رئيسيتين في الرواية والعودة إلى ألمانيا، ولنلاحظ أن الرواية في العالم قائمة على أبحاث معرفية، بل إنني تعرفت على أشياء كثيرة جدا من قراءة الروايات تعرفت على الصيد وصناعة القوارب وصيد الأسود وصناعة الأسلحة.
وختمت العجيلي مؤكدة على أنها تقدم تجارب إنسانية ليست مؤدلجة أو مغشوشة، "لقد كتب كثيرا عن الحرب لكن الذي يبقى هو هذا الكم الإنساني البريء من الأجندات والإرادات وغواية الظهور والفن. فعلا أكتب من أجل التجارب الإنسانية وليس من أجل رواية لتسوق، إننا نعيش لحظة مهمة في التحولات، والرواية تحب التحولات".