أكبر من تراجعات القرني.. مال ومخابرات وراء صناعة الإرهاب

إعلان تراجعات بعض الصحويين الإسلاميين تعامل مع عرض فقط إنما يقف خلف هذا التعصب والإرهاب أفكار اعادت تصنيع الدين وانتاج جمهور يبرر قتل المختلفين في العقيدة والمذهب وهو ما يبدو من متابعة الاحتفاء بإرهاب عابر فالأمر أكبر من مراجعات فقهاء الإرهاب ليصل لأمراء الإرهاب.

بقلم: أكرم القصاص

سواء كان اعتذارا أو تراجعا، فإن ما أقدم عليه عائض القرني أو غيره لا يمثل مفاجأة، ثم إن الأمر أكبر من مجرد اعتذار أو مراجعة لفرد أو حتى تنظيم، فنحن أمام بناء تم على مدى عقود، والقرني وقبله آخرون كانوا مجرد أدوات أو تروس في ماكينات ضخمة تصنع هذا الفكر وتنشره مدعومة بسلطات متعددة.

ومن يريد رصد هذا البناء عليه العودة لزمن نشأة هذا التفكير في السبعينيات من القرن العشرين، كانت فوائض النفط الضخمة تعيد مع أجهزة الاستخبارات الكبرى تشكيل عالم جديد يتحالف فيه التعصب مع المال، ليبني خطابا تطور بعد ذلك في اتجاهات متعددة، ولم يكن الإرهاب فقط هو نتاج هذا التفاعل، لكن كان هناك خطاب تكفيري وتبريري في وقت واحد يمهد الطريق لتحريم الحلال وتحليل ما هو غامض أو شبهات.

يمكن القول، إن نتاج هذا المشروع هو الدين المظهري القائم على الشكلانية والرياء والادعاء الذى يختلف كثيرا عن الدين الطبيعي لملايين البشر، والذى يقوم على التسامح والاجتهاد ولا يخاصم العلم ولا الطبيعة البشرية، انتقلت هذه التأثيرات والأشكال والأفكار عبر مئات الدعاة الذين نقلوا هذا الفكر إلى مصر ودول العالم، فهو فكر مدعوم بسلطة المال، وهى سلطة لديها قوة تأثيرا ضخمة، ومعها سلطة سياسية صنعها المال.

البعض يؤرخ لنشأة هذا التعصب والتطرف، بنهاية السبعينيات وتحديدا الحرب الباردة في أفغانستان، المرحلة التي شهدت نشر هذا الفكر الذي كان نتاج تفاعل معقد بين الثروات الضخمة والأفكار الأكثر تعصبا، ولم تكن بعيدة عن مصالح الولايات المتحدة في مواجهة الاتحاد السوفيتي.

يمكن مراجعة مذكرات رؤساء أجهزة الاستخبارات الكبرى في فترة الحرب الباردة، ومنها «الحرب العالمية الرابعة» مذكرات الكونت «دي مارنشيز» رئيس المخابرات الفرنسية الأسبق 1969 حتى 1980 والذى يحكى أنه قدم اقتراحا إلى الرئيس الأمريكي وقتها رونالد ريجان، كان الاقتراح يتضمن أن تبدأ المخابرات الغربية في إطلاق حملة فكرية مضادة داخل الجيش السوفيتي، بحيث تصدر كتبا ومطبوعات تحمل الفكر الشيوعي تحتوى تعديلات بسيطة تنتج إرباكا فكريا داخل عقول الجنود السوفييت، ولم يكتمل المشروع، لأن المخابرات الأمريكية بدأت مشروعها في إعلان حرب استنزاف من خلال المجاهدين والقاعدة، فيما بدا تعديلا في استراتيجية التحرك الغربي.

 ويبدو فكرة إنتاج تنظيمات تحت لافتات دينية إسلامية أو أصولية لتنفيذ أهداف الحرب الباردة بدت أكثر جاذبية للولايات المتحدة، ونشأ تنظيم القاعدة ضمن عدد من الميليشيات المسلحة، ضمن عملية إعادة تأسيس للأفكار الدينية بشكل يتواءم من الحشد ضد السوفييت.

كانت هذه هي أكبر عملية ناجحة في الحرب الباردة لصالح الولايات المتحدة لكنها أنتجت أعراضا جانبية، انتهت الحرب الباردة وتم تجاهل ونسيان تنظيمات مسلحة تشعر بأنها انتصرت على القوة العظمى السوفيتية، وانقسمت التنظيمات المختلفة طالبان والقاعدة، بقيادة أسامة بن لادن، وانتقل بعضها إلى باكستان، وإيران أو مناطق مختلفة في آسيا وأفريقيا.

وبدأت موجة الإرهاب الأولى بدءا من منتصف الثمانينيات، والتسعينيات للعائدين من أفغانستان أو ألبانيا، تعرضت مصر للإرهاب ودخلت الجزائر في عشرية الدم السوداء، واتسعت دوائر الإرهاب إلى اليمن والسعودية، هاجمت القاعدة المصالح الأمريكية حتى هجمات سبتمبر وبدأت الولايات المتحدة حربها على الإرهاب، وانتهى بغزو أفغانستان والعراق، لتبدأ مرحلة أخرى جديدة، حيث ظهرت عشرات التنظيمات، بلغت أقصى صورها في داعش وتنويعاتها.

من هنا فإن إعلان القرني أو حتى العريفي وظهور مراجعات، إنما هو تعامل مع عرض، فقط حيث يقف خلف هذا التعصب والإرهاب أفكار وتراكمات تعيد تفسير وتصنيع الدين وتنتج جمهورا يبرر ويؤيد قتل المختلفين في العقيدة والمذهب، وهو ما يبدو من متابعة الاحتفاء بإرهاب عابر، والأمر أكبر من مراجعات فقهاء الإرهاب ليصل لأمراء الإرهاب.

نُشر في اليوم السابع المصرية