رباعيات الخيام روعة الانتشاء ولوعة الفناء

حق لشاعر نيسابور وعالمها عمر الخيام أن يدعى شاعر العلماء وعالم الشعراء.
شهرة عمر الخيام قامت على الرباعيات وهي تلك المقطوعات الشعرية المقسمة إلى أربعة أبيات ضمنها فلسفته في الوجود
نقاد الأدب ودارسو حياة الخيام اختلفوا في صحة نسبة الرباعيات إليه أو بعضها

إذا كان المعري في الشعر العربي هو "شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء" ذلك أنه ضمّن شعره آراءه الفلسفية في الحياة وخلاصة تأملاته وقراءاته في الفكر الفلسفي، وقد جمع ذلك كله في "اللزوميات"، فحق لشاعر نيسابور وعالمها عمر الخيام أن يدعى شاعر العلماء وعالم الشعراء، فقد جمع بين  العلم الدقيق والفن الأصيل وزاوج بين التأمل في العدد والتأمل في الوجود، فجاء في شعره كما جاء في علمه فرادة إبداع وأصالة فكر وصدق فراسة وحرارة وجدان، وحق لزبدة إبداعه الشعري المعروفة بـ "الرباعيات" أن تنال مرتبة الخلود ومرتبة العالمية، ذلك أنها خير ما أبدعته فارس من الشعر الجامع بين عمق الفكرة وجمال العبارة وصدق الشعور وحق لعمر الخيام أن يستوي بين شعراء فارس شاعرا فذا من كبار شعراء الإنسانية وأن تكون رباعياته زادا فكريا وجماليا وإنسانيا خير ما تهديه فارس إلى العالم .
وحياة الخيام غامضة لا نعرف عنها الكثير وأول شك ينتاب الباحث هو تحديد تاريخ ميلاده، وقد تضاربت الروايات في ذلك ومن المرجح أنه ولد في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وقد عاش في زمن السلاجقة. وهو عصر تميز بالإحن والدسائس والاغتيالات، وأما لقب الخيام الذي اشتهر به فقيل أن والده كان صانع خيام، ولقد عرف الخيام منذ حداثة عهده بالألمعية والذكاء، فحفظ القرآن الكريم وأتقن علوم اللغة والدين وآنس من نفسه الميل إلى الرياضيات والفلك فأبدع فيهما، وبهما طار ذكره في البلاد الإسلامية وقربه الملوك والرؤساء وكان السلطان ملك شاه السلجوقي ينزله منزلة الندماء، والخاقان شمس الملوك ببخارى يعظمه ويجلسه معه على سريره، وأما أصدقاؤه في شبابه فهما "نظام الملك"  و"حسن الصباح" الداعية الفاطمي الذي فرّ إلى "ألموت" وهي قلعة أسس فيها حكم "الإسماعيليين" الذين قضى عليهم "هولاكو" عام 1256 ولما استوزر "نظام الملك" جعل لصديقه عمر عشرة آلاف دينارا من دخل نيسابور إجلالا لمقامه وتقديرا لعلمه، ووفاء لميثاق الصداقة بينهما، ثم اغتيل نظام الملك وانقطع دخل الخيام وقدحت العامة في دينه ورمته بالزندقة فلزم التقية، واختلف مؤرخو زمانه في عقيدته وسيرته قال فيه البيهقي: "أنه تلو ابن سينا في أجزاء علوم الحكمة وعرفه بالإمام وحجة الحق غير أنه أضاف أنه كان سيء الخلق ضيق العطن وكان يتخلل بخلال من ذهب، أما ابن الأثير في الكامل فذكر أنه أحد المنجمين عملوا الرصد للسلطان ملك شاه السلجوقي سنة 467 هـ وقال عنه القفطي في تاريخ حكماء الإسلام: "إمام خراسان وعلامة الزمان يعلم علم يونان، ويحث على طلب الواحد الديان، بتطهير الحركات البدنية لتنزيه النفس الإنسانية"، وأما وفاة الخيام فمنهم من يجعلها سنة 515 هـ الموافق لـ 1121، ومنهم من يجعلها سنة 526هـ الموافق لـ 1132 ومن مآثر الخيام العلمية "شرح ما يشكل من هندسة إقليدس" و"مقالة في الجبر والمقابلة"، إضافة إلى أرصاده وأزياجه الفلكية.

رباعيات الخيام
القلب قد أضناه عشق الجمال

وقامت شهرة الخيام على الرباعيات وهي تلك المقطوعات الشعرية المقسمة إلى أربعة أبيات ضمنها فلسفته في الوجود، والملاحظ في الرباعيات هو اتفاق البيت الأول والثاني والرابع  في الروي واستقلال البيت الثالث برويه وهو ما يشبه كثيرا الدوبيت الرباعي الفارسي الأصل.
ولئن اختلف نقاد الأدب ودارسو حياة الخيام في صحة نسبة الرباعيات إليه أو بعضها، فمن قائل إنها ليست لعمر الخيام الرياضي، وإنما لشاعر آخر بهذا الاسم، إلى ناقد آخر يزعم أن بعضها تصح نسبتها إليه، وبعضها الآخر مدسوس عليه خصوصا ما تعلق بالإشارة إلى الغيب والقدر والإيمان والبعث، وقد تعمد كثيرون تشويه صورة الخيام غيرة وحسدا فنظموا شعرا ونسبوه إليه حتى تثور عليه العامة، وينتهي أمره إلى الحاكم الذي سيأمر بقتله رميا بالزندقة، وفي أدبنا نظير لذلك، فالمعري دس عليه الكثيرون شعرا لم يقله يثور فيه على الأديان بل يسفهها وينتقد الرسل ويشكك في عالم الغيب، غير أن المعري برئ من ذلك، ومن قائل إن كثيرا من محبي الخيام والمتحمسين له كلما وجدوا شعرا على شاكلة الرباعيات وخفي عليهم قائله نسبوه إليه عن حسن نية.
ولاشك أن استقصاء الأمر صعب وتتبع مسارب التاريخ المظلمة في ظل غياب الوثائق التاريخية التي تنير حلكاته يجعل من الأمر شبه مستحيل !
ولقد رأى نقاد الأدب عندنا وشعراؤنا المحدثون الرأي الأول؛ أي صحة نسبة بعض الرباعيات إلى الخيام وإنكار البعض الآخر وتحمسوا لها تحمسا منقطع النظير، والحق أن الرباعيات تحفة فنية وكنز أدبي حقيق بالخلود وحقيق بالعالمية لأن مضمونها إنساني، على الرغم من تأخر اكتشاف ذلك ولسكوت فيتزجرالد Scott Fitzgerald  الإنجليزي دالة على الخيام فهو الذي اكتشفها ودرسها وتحمس لها وترجمها إلى الإنجليزية فأحدثت دويا كبيرا تجاوز إنجلترا إلى أوروبا وأميركا، بل أسس فيتزجرالد ناديا في لندن سماه "نادي الخيام" ضم كل محبي الخيام وشعره، ولم يكتف بذلك بل سافر إلى مسقط رأس الخيام وزار قبره وأحضر معه زهرة من الزهور الحافة من حول القبر وغرسها في ناديه بلندن حتى تنفحهم  بأريج الشاعر وأريج رباعياته، ودعك من الأسطورة التي روج لها الكثيرون من محبي الخيام والتي تزعم أن الخيام تنبأ في حياته بنمو نوع معين من الزهور حول قبره ، وهذا اللون من القصص نعرف المغزى منه، فالشخصية التاريخية يخلق محبوها أساطير حولها حتى يستلوا مشاعر الإعجاب من الناس ويخلقوا هالة من القداسة لأن النفس المحبة تنزع إلى أن تشاركها الأنفس مشاعرها، غير أن الناقد الحصيف لا يفوته ذلك، وباكتشاف فيتزجرالد للخيام وترجمته لرباعياته تنبه أدباؤنا ونقادنا إلى قيمة الرباعيات ومضمونها الإنساني وغناها الشعوري وقيمها الفنية والجمالية وتحمسوا لنقلها إلى لغة الضاد ومنهم من عرّبها عن الإنجليزية كمحمد السباعي ومنهم من عرّبها عن الفارسية كالشاعر المصري أحمد رامي الذي سافر إلى باريس لدراسة اللغة الفارسية عامين منقبا وباحثا في الأدب الفارسي ورباعيات الخيام تحديدا، وعقب عودته عين أمينا بدار الكتب المصرية وكان قد تهيأ له زاد أدبي فأسقط كثيرا من الرباعيات وعرب ما وثق أنه تصح نسبته إلى الخيام وقد شاعت هذه الترجمة بعد أن غنت أم كلثوم بعضا منها .
وغير السباعي ورامي من الذين ترجموا الرباعيات الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي وأحمد الصافي النجفي وقد عرباها عن الفارسية، ووديع البستاني والشاعر البحريني إبراهيم العريض، وقد عرباها عن الإنجليزية، وليست هذه هي كل الترجمات إنما المشهور منها وستبقى بسحرها ومضمونها الإنساني وحيرتها الوجودية مصدر إغراء للأدباء العرب على مر الأجيال وكر الدهور بنقلها كرة أخرى إلى العربية إمعانا في الدقة  والقرب من روحها وروح مبتكرها .

رباعيات الخيام
حياة الخيام غامضة لا نعرف عنها الكثير

رباعيات الخيام إذا ترنيمة حزينة تنعى إلينا زوال الإنسان وهيمنة الزمن وقهره للموجودات وانقلاب لحظات المتعة شقوة وهيمنة الزمن وقهره للموجودات وانقلاب لحظات الإنسان مجرد ذكرى شأن الجذوة تشع نارا ونورا ثم تخبو رمادا والإنسان لا حول له ولا قوة أمام هذا القهر الكوني المتجلي في الموت الذي يطال بسيفه الإنسان ثمرة الوجود ومكمن العبقرية وسر الحياة ومستودع المشاعر فيغدو ذلك الكائن رهين اللحد والدود والظلام الأبدي كأن لم يكن بالأمس ذلك الشاعر أو العالم أو الحاكم أو الفقيه أو الثري الذي ملأ الأسماع والأبصار، وتغدو لحظات صفوه وأنسه مجرد ذكرى، فما الذي ينقذ الإنسان من هذا المأزق الوجودي؟ لا شيء غير طلب النشوة التي تهيؤها الخمرة والبهجة التي ينشرها مجلس أنس وذلك عزاؤه وذريعته إلى تناسي فجيعة الموت مادام ليس في الإمكان تفادي قبضته. 
قال الخيام (من ترجمة إبراهيم العريض من المتقارب):
فهات حبيبي لي الكأس هـات
سأنسى لها كـل ماض وآت
غـدا ويح نفسي غدا قد أعود    
وأعرقهم في البلى من لداتي
غير أن الخيام يمتاز عن طرفة وغيره ممن تناولوا فجيعة الرحيل بإبداع معمار فني ضمنه فلسفته الوجودية من المقطع الأول إلى المقطع الأخير دون أن ينصرف إلى أشياء أخرى أو يتناقض مع نفسه وذلك هو امتيازه الكبير.
وللخمرة حضور قوي في الرباعيات بل هي محورها الأساسي أليست مهوى القلوب ومطلب الأنفس الشاعرة وملجأ المعذبين يتوسلون بها عرائس الشعر علها تجود عليهم بآيات العبقرية بل حتى المتصوفة وهم رهط من الناس انقطع إلى العبادة والتأمل والمجاهدة طلبا للعرفان وقد عرف هذا الرهط بالتقوى وقيام الليل وما ذاقوا خمرة في حياتهم قط، لم يجدوا غير الكرمة  والخمرة والكأس يكنون بها عن الحب الإلهي والانتشاء به، متناسين دنياهم منقطعين عن العالم متوحدين في الأباطح والقلل. 
والخيام الشاعر كما يحتفي بالخمرة يحتفي بالجمال ذلك أن قدرة الخمرة في إحداث التركيز تتيح للشاعر طرح كل همومه وأحزانه ووساوسه والتأمل في الجمال والإحساس به وتذوقه في الطبيعة والإنسان، وقد عشق الخيام الفتاة "نسرين" والتي اقتبست من الزهر اسمه وشذاه وجماله لولا أن عصفت بها ريح المنون في مقتبل العمر فأورثت الشاعر حسرة وعمقت فيه الإحساس بجبروت القدر وقهره وعدم استجابته لرغائب النفس وأحلامها، وفي أحضان الجمال يسهو الشاعر قليلا عن لوعة الفناء ومن ترجمة العريض من (المتقارب) يقول الشاعر :
 ويا ليت شعري أتلك الزهــور             
عرائس نعمى جلتها الســـتور  
فمن قبلة الشمس هذا الحـياء             
ومن لؤلؤ الطل ذاك السرور؟

وذلك ما حدا بالشاعر إلى اختتام رباعياته بتلك الأبيات التي تنم عن حرارة إيمانية وتسليم بوحدانية الله وأمل في عفوه متوسمة عطفه ورحمته:
 يا عالم الأسرار علم اليقين
يا كاشف الضر عن البائسين
فئنا إلى ظلك فاقبل عن
عـبدك توبة التائبين
وهي عودة إلى شاطئ الإيمان بعد التيه في أقيانوس التفكير وفيافي التأمل والبحران وما يلقى صاحبه من مكابدة ومجاهدة وعذاب نفسي كبير، ولربما استعان الشاعر بيقين الرياضيات على شكوك الإنسانيات ولربما أعطته نتائج الرياضيات بعض الراحة والعزاء، فأوغل في هذا العلم إيغالا منقطع النظير فتوصل إلى نتائج قيدت باسمه كحل معادلة من الدرجة الثالثة بواسطة قطع المخروط، وطبق الرياضة على الفلك ذلك العلم الذي يعني في لاوعيه المطلق والسامي والعالم الحر بلا حدود وهي مفاهيم يتعشقها الخيام، وله في الفلك بحوث جديرة بالإعجاب والتقدير.