سيد الوكيل يعاين الرواية التفاعلية من الحرف إلى الرقم

الإمكانات التقنية، والنزعة التجريبية في القصة القصيرة أفادت الرواية وعززت مسيرتها عبر عمليات صغرى من التفاعل التقني بين النوعين.
الناقد المصري يعلن عن قلقه بشأن نظرة محمد سناجلة إلى الوراء بغضب
الرواية الورقية هيأت نفسها لمجيء الفضاء الإليكتروني بطبيعتها التفاعلية والمعرفية

يرى الناقد المصري سيد الوكيل أن الوعي الجمالي يتحرك في فضاء ذاتي بالأساس، بغض النظر عن الوسيط المنتج له أو فيه. فجميعنا يعرف أن الشعر العربي على سبيل المثال، ظل يحمل موروثاته الشفهية لعدة قرون بعد ظهور الكتابة كوسيط، كما أن المقامات بوصفها فنًا سرديًا كتابيًا منذ نشأته، لم تتمكن من تطوير نفسها، وفقًا لطبيعة التفكير الكتابي، حتى أن الرحلة من الهمذاني إلى المويلحي لم تسفر عن تطور، فيما تمكنت القصة الحديثة – مثلاً - التي تشكلت عبر وسيط كتابي أيضًا، من ابتلاع وهضم ليس المقامات فحسب، بل الكثير من فنون الأدب السابقة على القصة. كما أنها التفتت إلى السينما، لتستفيد من طبيعتها المشهدية، وتقنيات الزمن فيها عبر المونتاج إضافة لإفادتها البالغة من فاعلية التجريب، فخاضت تحولات كبرى في رحلتها القصيرة، وتفاعلت مع الأنواع الأدبية الأخرى، بدءًا من إدجار آلان بو، مرورا بنتالي ساروت وتجربتها مع النص المشهدي، إلى إدوار الخراط وطموحه إلى نص عبر نوعي، فضلاً عن نجيب محفوظ في نصوص الأصداء ثم الأحلام، ثم إلى ما يوصف الآن بقصة الومضة، أو القصة الشاعرة.. إلى آخر هذه المصطلحات والمسميات المتجددة، والتي على الرغم من سعيها الدءوب لأن تستقل بنفسها، أو تقدم نفسها كأنواع مستقلة عن القصة القصيرة، ظلت مقترنة بها، ربما لأن عباءة النوع أوسع مما نظن.    
وقال في بحثه الذي شارك به في ملتقى الشارقة للسرد الذي عقد في العاصمة الأردنية عمان خلال الفترة من 17 – 19 سبتمبر/أيلول 2019: لقد احتمل السرد القصصي كل مغامرات التجريب، وأكد أن السرد بطبيعته محرض على التجريب، وميلاد القصة في فضاء حداثي وتقني بعد الرواية بأكثر من قرن، ضاعف قابليتها للتجريب، واستدرك عثرات الرواية الأولى: "فقد وصلت الرواية إلى وعي ذاتها متأخرة".

مراجعة الرؤى والتنظيرات التي قدمت حول علاقة الأدب بالتكنولوجيا ضرورة ضامنة لأن تمضي التجربة على قدميها بثقة

وأضاف في الجلسة التي رأسها الروائي نبيل سليمان: يعتقد أن الإمكانات التقنية، والنزعة التجريبية في القصة القصيرة أفادت الرواية وعززت مسيرتها عبر عمليات صغرى من التفاعل التقني بين النوعين. هذه التفاعلات ليست شكلية فحسب، بل أنتجت معها تحولات في  البناء السردي، واللغة، وكثافة الدوال وطبيعة الخيال، لهذا فكل من السرد القصصي أو الروائي، لديه من الإمكانات أن يخوض تحولاً كبيرًا على الفضاء الإليكتروني، فيفيد منه ويعزز كل منهما الآخر بتجديد طاقاته التخيلية والتقنية واللغوية، لكن هذا لا يعني أن يتنازل فضاء السرد الأدبي عن هويته لصالح الفضاء الإليكتروني، بل الأغلب أن تتشكل هوية مهجنة للسرد الرقمي، على نحو ما تقول فاطمة البريكي: "تمخض الأدب عن جنس جديد، جمع بين الأدبية والإليكترونية، وهو ما اصطلح عليه في الأوساط الأدبية والنقدية الحديثة بسم الأدب التفاعلي". لكنها تعود وتقول إن الرواية التفاعلية: "لا تتجلى لمتلقيها إلا إليكترونيا" 
لك الوكيل يقول بعد فحص نماذج دراساتها إنه لم ثصل إلى يقين إذا ما كانت التفاعلية التي تعنيها، تتعلق بالوسيط الإليكتروني (hyperlink) وحده، أم بالخيال (fiction) أم بهما معًا! على أي حال هي تؤكد أن التفاعلية مصطلح فضفاض، واتفق معها، وأطرح على نفسي سؤالاً أوليًا: هل التفاعلية قيمة إنسانية، أم آلية بحتة؟ ولعل هذا السؤال يقود بحثنا إلى فهم أدق للرواية التفاعلية.
ويعلن الناقد المصري أنه قلق بشأن نظرة محمد سناجلة إلى الوراء بغضب، حيث هو يرى سناجلة أن الرواية الورقية اعتمدت على خيال سلفي طوال الوقت، وغير عملي، وعبرت عن وعي ارتدادي مرتبط بطفولة الإنسانية، حتى أنه يضع خيال سيرفانتيس، وكتاب ألف ليلة وليلة، وكتابات وليم فوكنر في سلة واحدة مكتظة بالخيال السلفي، كما أني لم أفهم على وجه الدقة، المقصود بأن خيال الرواية الورقية (غير عملي) ربما يقصد غير مفيد معرفيًا.
وإذا كانت الرواية الحديثة بدءًا من سيرفانتيس وحتى الآن مرورًا بفوكنر هي آخر فنون الكتابة فلا بد أنها جاءت محملة برصيد معرفي وحضاري، هذا فضلاً عن تحولاتها السريعة في السنوات الأخيرة بين التقنيات والأساليب ومسارات التجريب المختلفة، لتكون مهيأة لدخول عصر جديد، حتى وإن كان له شروط جديدة، فلا شك أن السرد الروائي سيكون قادرًا على هضمها لتصبح هذه الشروط جزءًا من قوامها الجديد اليافع، لا سيفًا يفرق بينها وبين ماضيها العريق بدءا من أساطير الأولين.
ويظن الوكيل أن الرواية الورقية، قد هيأت نفسها لمجيء الفضاء الإليكتروني بطبيعتها التفاعلية والمعرفية، بل طرقت أبواب التفاعلية فعلاً قبيل مقدمه، كما أن خيالها لم يكن ماضويًا بالضرورة، بل متجاوبًا مع مستجدات الواقع الاجتماعي والسياسي، كما لا يمكننا في هذا الصدد تجاهل بعض صور الخيال الافتراضي في الروايات التي تستشرف المستقبل وتجعله موضوعًا لها، وهو ما يظهر في الرواية العربية عند صبري موسى في "السيد من حقل السبانخ" 1984 التي تأسست بكاملها على واقع يفترض الكاتب أنه سيحدث في المستقبل، فللمستقبل قضاياه المرجأة التي تمس الوجود الإنساني أيضًا، وتهدده بالتشيؤ لحساب عبودية جديدة لا تقل قسوة عن عبودية العصرين الزراعي والصناعي اللذين كانا موضوعًا لكثير من الروايات، فقضايا الوجود الإنساني، بأبعاده الواقعية والفلسفية، والنفسية، نالت حظًا وافرًا في الأدب الورقي.
وعن صور التفاعلية في الرواية الورقية يوضح الوكيل أن صور الواقع التفاعلية في الرواية الورقية أكبر مما نظن فهي لا تتوقف عند حدود التناص كآلية لسانية فحسب بل تصل إلى درجة من تفاعل الخطابات الجمالية والثقافية بين الروايات التي تتعرض لموضوعات وأفكار متشابهة. كما يمكن لتعدد الخطابات في النص الواحد أن يحقق درجة من التفاعل الداخلي، ففي "حيوانات أيامنا" لمحمد المخزنجي، تتضافر خطابات تأتي من حقول معرفية مختلفة: بيولوجية، وتاريخية، وأنثروبولوجية لتنتهي "حيوانات أيامنا" في  صيغتها الممتزجة بأدب الرحلات إلى بناء بحثي مقارن بين الطبيعتين الإنسانية والحيوانية. وفي سياق قريب نجحت الرواية في عقودها الأخيرة أن تتجاوز الحدود النقدية التي جزّرت كينونتها كخلق مستقل، بأن تجاوزت التصنيفات النظرية، وأكدت طبيعتها الكرنفالية بالتفاعل بين صنوفها المختلفة عندما جمعت بين الواقع والخيال في (الواقعية السحرية) كما أفادت من فكرة البحث عن القاتل بوصفها (ثيمة) خاصة بالرواية البوليسية، لتدفع بها في اتجاه بحثي بالغ  القيمة على نحو ما نرى في روايات مثل: اسم الوردة لأمبرتو إيكو، واسمي أحمر لأورهان باموق، والعطر لباتريك زوسكند التي تشير إلى نفسها بوصفها قصة قاتل على ما فيها من أبعاد معلوماتية وفلسفية ونفسية عميقة.     

إن محاولات قصر الرواية التفاعلية على كونها تلك التي يكتبها أكثر من كاتب، قول فيه تسطيح وإهانة لتاريخ الرواية. ومع ذلك فإن فضاء التجريب في الرواية يسمح بتجاوزها لحدود العمل الفردي إلى العمل المشترك. فقد استطاعت الرسائل المتبادلة بين مكسيم جوركي وتشيخوف، أن تحافظ على مستوى من الأدبية في لغتها وبنيتها، فضلاً عن مستويات من التفاعل المعرفي في الأدب والفن والسياسة. 
ويؤكد سيد الوكيل أن استعارة فكرة التراسل كتقنية لبناء عمل روائي شائعة وقديمة ومتجاورة مع رواية الأصوات، لكنها تتطور فتصبح المراسلة وسيطًا لتشكيل بناء واحد من خلال كاتبين أو أكثر. فلطه حسين وتوفيق الحكيم تجربة مميزة تنهض على تبادل الرسائل طبعت كرواية تحت عنوان (القصر المسحور -1936) وفضلاً عن التفاعل بين الأديبين في تشكيل نص واحد، فإن الرواية كلها تنهض على التناص مع مسرحية (شهرزاد) التي كتبها توفيق الحكيم، والتي تتناص بالتالي مع (ألف ليلة وليلة) وكان طه حسين قد وجد بعض الملاحظات على رسم الحكيم لشخصية شهرزاد، فقدم ملاحظاته في صورة محاكمة تعقدها شهرزاد لتوفيق الحكيم وأرسلها إليه، فقام الحكيم بالرد عليه مدافعًا عن نفسه، وموجها الاتهام إلى طه حسين، وهكذا.. تنتظم الرسائل بين الحكيم وطه حسين في سياق لعبة المحاكمة (اتهامًا ودفاعًا) لتحقق مستويات عالية من التعبير الأدبي والتفكير الخيالي المتضافر مع أجواء ألف ليلة وليلة، وشخصياتها، بل وتسقط على الواقع المعاش، وتختبر خطابات نسوية تناقش أحوال النساء عبر التاريخ. وخطابات نقدية، وتتطرق إلى معاني الحب، ومفاهيم في الفلسفة، مثل الخلود والعدمية، واللامعقول. 
لكن أي من الروايات المشتركة التي أشرنا إليها، لم يطلق عليها كتابها (رواية تفاعلية) برغم وعيهم بها كلعبة سردية مشتركة منذ طه حسين وتوفيق الحكيم. لكن الأمر يبدو أنه يتطور ليعبر عن هويته بشكل أوضح. ففي عام 2014 تشكلت مجموعة من أربعة كتاب مصريين (محمود عبدالحليم، ياسين أحمد سعيد، داليا مصطفى صلاح، مصطفى جميل) أطلقت على نفسها جماعة (لأبعد مدى) وبدأت في إصدار سلسة من الروايات المشتركة تحت مصطلح الرواية التفاعلية، وأطلقتها على شبكة الإنترنت مباشرة، فهم على درجة من الوعي والقصدية بالتفاعلية منذ البداية.
ويطرح سيد الوكيل سؤالا مهما: هل للوسيط الرقمي سلطة على النص الأدبي؟
وقبل أن يجيب يقول: ثمة ملاحظة أولية، قد تجيب عن السؤال، وهي أن حجم المنتج الإبداعي للرواية الرقمية مازال أقل من أن يؤكد هويته، بوصفه فنًا روائيًا جديدًا، سواءً في حرفية صناعته، أو تقنياته المتاحة. ويبدو الأمر أكثر حدة في مجتمعاتنا العربية، حيث تنخفض مهارات التعامل مع الوسائط الإلكترونية لدى الكاتب والمتلقي معًا، ولهذا فالقول بأن هذا المنتج الضئيل من الأدب الرقمي، يمثل جنسًا مستقلاً ومنبت الصلة تمامًا عن مثيله الورقي فيه مبالغة، وذلك بالنظر إلى تاريخ الأدب، وتطوره، وتطور ذائقة المتلقي معه. وقد رأينا فيما سبق، كيف طرقت الرواية الورقية صورًا عديدة من التفاعلية. علينا أن نضع في الاعتبار أن ليس الأدب الرقمي فقط يعاني أزمة البدايات، بل تلقينا له أيضًا، بما يعني أن علينا التعامل بحذر مع إحصائيات المشاهدة التي يعتمد عليها كتَاب ونقاد الإنترنت، فهي ليست افتراضية فحسب، بل الكثير منها عابر وسطحي من قبيل الفضول لمعرفة ما هو جديد. 
وعن الدراسات الأكاديمية التي تمحورت حول الرواية الرقمية يرى الوكيل أنها انطلقت بدافع الفضول والحماس للجديد أيضًا، وباستثناءات قليلة، فأغلبها يتشابه في شواهده، وتعريفاته ومفاهيمه، كونها تنقل عن بعضها البعض، نظرا لمحدودية الرصيد النقدي لفن أدبي جديد وقيد التشكل. وعلى ما سبق، وإيماءً لما هو قادم، باعتبار أن مستقبل التكنولوجيا واعد بالكثير مما لا يمكن توقعه، فإن كل رؤية أو بحث نظري في موضوع الرواية الرقمية حتى الآن، لن يكون مؤسسًا على مراجع وشواهد كافية لتمدنا باليقين، ولاسيما أن جانبًا كبيرًا من أدوات الرواية الرقمية، ليست في يد نقاد الأدب، بل في يد فئة المبرمجين والتقنيين المهرة، الذين يفاجئونا كل يوم بجديد، يضطرنا في كثير من الأحيان، أن نعيد النظر في كثير مما عرفناه. 
وعليه – يقول الوكيل - فإن مراجعة الرؤى والتنظيرات التي قدمت حول علاقة الأدب بالتكنولوجيا ضرورة ضامنة لأن تمضي التجربة على قدميها بثقة، غير أن هذا ليس مقصدنا في هذه المقاربة النقدية، لولا أن واجهتنا بعض تساؤلات، وملاحظات تستدعي استجلاء الكثير من الملتبس والمتشابه بدءًا من طوفان المصطلحات والمفاهيم حول الرواية الرقمية، انتهاء بآليات تخنق النص الأدبي، فتجعله محدودًا ومتشابها، نتيجة لأسبقية التصميم الذي يحد من أفق توقعات القارئ، وهو ما لاحظناه في النصوص التي استخدمت تقنية الارتباط التشعبي على وجه التحديد، بوصفها أداة التفاعلية الأكثر استخدامًا في الأدب الرقمي. فالكثير منها يستخدم في غير موضعه، ولا يحقق وظيفة جمالية من أي نوع، كما لا يمكن الوثوق في الوظيفة المعلوماتية له في فضاء حر ومفتوح لكل من يشاء، بما يفقده كثيرًا من الموثوقية.