حتى لا تتيه في الحي: النبش في أقبية الذاكرة

باتريك موديانو يختارُ أدوات غير متداولة لتأثيث عالمه الروائي، لذلك فإنَّ مُناخ أعماله الروائية مغلف بطابع خاص يميزه بنكهة خاصة.
رواية "لا تتيه في الحي" تحفل بالشخصيات التي تعزيز موقع الشخصية الأساسية
جدار عزلة البطل يتصدع بإتصال هاتفي يأتيه من شخص يُخبره بانَّ لديه مذكرة عناوين يحمل اسْمَهُ

يختارُ باتريك موديانو الحاصل على جائزة نوبل للآداب لعام 2014، أدوات غير متداولة لتأثيث عالمه الروائي، لذلك فإنَّ مُناخ أعماله الروائية مغلف بطابع خاص يميزه بنكهة خاصة، إذ لا يستمدُ  أُسلوبه في السرد وعناصر التشويق من الإثارة بل يعتمدُ على الغرائبي في بناء الحدث وتصوير الأجواء المُحيطة بشخصياته المنحوتة على مقاس قوالب موديانية. كما يبني تسلسل فقراته السردية على وقائع حياتية قد تبدو بسيطة لأول وهلة غير أنَّ صاحب "آحاد أُغسطس" يُقْنِعُكَ بأنَّ ما تعْتَبرهُ دون الأهمية قد يكون عاملاً لإكتشاف مسارات مُتشعبة.
يمتزجُ في منهج موديانو آليات رواية بوليسية مع مسائل ذات طبيعة وجودية وفكرية، كما يًنظم وتيرة أحداث رواياته على إيقاع مميز. زدْ على ذلك فأنَّ مُؤَلفاته متقاربةُ حجما وشكلاً، كما يمتلك قدرة فريدة من نوعها في التكثيف والإستفادة من المساحات مُتفاديا الوقوع في الترهلات اللغوية إذ يُوظفُ كل تقنيات السردِ من الحوار والوصف مًتناسقةً وذلك يعدُ سمة جوهرية لكل أعماله بما فيه رواية ""حتى لا تتيه في الحي" طبعة مشتركة لمنشورات ضفاف ومنشورات الإختلاف. حيثُ لا يبتعدُ موديانو في هذا العمل عن موضوعه الأثير وهو البحثُ عن دروب الذاكرة للملمة ملامح أشخاص قد يظهرون بأسماء جديدة.
نداء مجهول
تحفل رواية "لا تتيه في الحي" بالشخصيات التي تعزيز موقع الشخصية الأساسية (دراغان) الذي يعيش منزوياً فهو مؤلف لعدة كتب من بينها رواية  "سواد الصيف" إذ يكشف الغرض من كتابة عمله الأخير بأنَّه يُرسلُ بإشارات لمن تَعرَفَ عليهم في فترة زمنية معينة ثُمَّ غابوا عنه. 

من خصائص الرواية الحديثة، عدم الإهتمام بالحبكة بحيث لم تَعُدْ هناك حاجة للإشتغال على تسوية العقدة وترتيب العمل وفقا لهكلية قديمة

يتصدع جدار عزلة البطل بإتصال هاتفي يأتيه من شخص يُخبره بانَّ لديه مذكرة عناوين يحمل اسْمَهُ، من هنا تتعالقُ الإتجاهات ويلتقي دراغان بأُوتوليني الذي بحوزته دفتر العناوين، ولا يكون هذا اللقاء عابراً بل يَقودُ دراغان إلى متاهة البحث ويفتحُ له باب الفرضيات. كما يدفع به للغوض إلى طبقات ذاكرته، ليظفرَ بما يفك له الأحجيات المتناسلة، يصارح أتولينى صاحب مذكر العناوين بأنَّ ثمة اسم (غاي تورستيل) يرغب بِمعرفة المزيد عنه حتى تتسنى كتابة مقالِ حوله. ومن ثُمَّ يفاجأ دراغان بطلب صديقة جيل أوتولينى أنْ يزورها حيث تزوده بملف يحتوي على صورة طفل ومعلومات قد جمعها أًوتولينى لتأليف كتاب. وتؤكدُ الشنتال غريباى على ضرورة أن يبقي موضوع لقائهما طى الكتمان في شقة الأخيرة.
كما يستضيفُ دراغان أيضاً صديقة أوتولينى متشككا من أن يكون الأخير على علم بهذه اللقاءات بل يتوقع تلصصه عليهما، ومن ثُمَّ يتذكر فتاة بنفس الاسم كان على علاقة بها وزوجها قد عشق مسابقات الخيل والمقامرة تماما مثل جيل. وتكشفُ  له الشانتال بأن كتاب "الخيال المتسكع" الذي يدعي صديقه بأنّه مؤلفه يعود إلى كاتب آخر. عندما يبدأُ دراغان بقراءة الملف يعود شريط ذاكرته إلى سنة 1952 ويتوقف عند جريمة قتل كوليت لوران. 
هكذا تتزاحم الأسماء وعناوين الفنادق والشوارع في مخيلة دراغان الذي لا يعرف شيئا عن عائلته سوى ما سمعه من أني أستروند بأن أمه قد وضعته في عهدتها. كما يرجح بأن الصورة الموجودة بالملف هي نفسها التي التقطها بصحبة أني عندما كان طفلاً. كما يستفسرُ دراغان عن مصير تورستيل وبوب غنان من بيران دولارا ويسأله عن أني حيث يخبرهُ بأنَّ كل ما يعرفه عنها أنَّ الأخيرة قضت فترة في السجن، إذ يتابعُ دراغان الخيط الذي قد يوصله إلى أني متذرعا بجمع مواد لتأليف الرواية إلى أن يستوجبَ الطبيب فوسترات المُقيم الذي كانت أني مقيمة بجواره .
إذ يتذكر الجار تفاصيل حياة أني في سانت لولا فورى، كما يصفها بالراقصة البهلوانية، ويضعُ دراغان داخل طبيعة العلاقة بين روجي فانسون وأني بموازاة ما يقصه الطبيب. تنثال على دراغان ذكريات الطفولة التي قضاها بجانب أني. كما لا يتردد عن السؤال  حول الطفل الذي رافق أني إذ يكشف له الطبيب بأنه قد توقع أن أني هي الأخت الكبيرة للطفل الذي هو دراغان نفسه، وينصح الأخير بالبحث عن الطفل كونه مصدرا وحيدا ليمده بمعلومات عن أني. 

novel
مسح جغرافية شوارع باريس وأزقتها 

هكذا تدخل مع موديانو إلى مدارات مُتَتابعة إلى أن تصل إلى الفقرة التي تربط بين دلالة العنوان ومضمون الرواية إذ يستعيد  اللحظة التي يأخذ من أني ورقة مطوية مكتوبة فيها عنوان الحي، قائلة إياه حتى لا تتيه في الحي. 
يفتتن موديانو بمسح جغرافية شوارع باريس وأزقتها دون أن يستغرق في وصف الأمكنة كما يتجنب تقنية الوصف المسبق للشخصيات.
غياب الحبكة
من خصائص الرواية الحديثة، عدم الإهتمام بالحبكة بحيث لم تَعُدْ هناك حاجة للإشتغال على تسوية العقدة وترتيب العمل وفقا لهكلية قديمة، وهذا ما يتجلى في أسلوب موديانو لاسيما في "حتى لا تتيه في الحي" التي تجمعها بأعماله الأخرى ثيمات عديدة مثل تجسير الهوة مع الماضي، والبحث عن شخصيات تعين البطل في هذه العملية فضلا عن ذلك لا يَهملُ صاحب "مستودع الذاكرة" دور الصورة في نفض غبار الزمن على الذاكرة، بجانب ذلك يشير إلى الإمكانيات التي وفرتها التقنيات التنكولوجية للبحث والإبحار في عوالم إفتراضية، غير أن ما تفهمه من السياق أن هذه الوسائل لاتُساعِدُك  بنظر موديانو لإعادة التأقلم مع الواقع بل تزيدك إغتراباً، وفيما يتعلق بالعنصر الزمني يذكر الكاتبُ تواريخ مُحددة كما لا تَفْقَدُ مؤشرات عن الفترة الزمنية التي  تدور فيها الأحداث، أكثر من ذلك يهتم موديانو بظلال اللون من خلال  إختيار مواعيد اللقاءات التي تجري كلها في أوقات الزوال أو الليل مما يتكون في ذهنية المتلقي مشهد مغمور بألوان باهتة. 
يقاربُ الحائز على نوبل في روايته تقنية إعداد مشروع روائي داخل الرواية، كما يترك النهاية مفتوحة وما يبغيه باتريك موديانو من وراء إنشاء عوالمه الروائية هو أنْ يغرس في أعماقك شكوكاً حول ما تراه وتَصْحبهُ في الواقع. ويقول لك بأن ما يفصل بين حدود الواقع والحلم ليس إلا خيط واهٍ. من هنا تتداخل الأزمنة في رواياته وتجدُ شخصياته في الأمكنة ظلال وقائع غابرة .