حرائق طرابلس عنوانا لنكبة لبنان بسياسييه

يشعر السياسيون اللبنانيون بالخوف ولكنه ليس الشيء المطلوب. سيكون على الشعب أن يبحث عن حلول أخرى. حلوله تسقطهم لا تخيفهم فقط.
يشعر المحرومون من أبناء طرابلس أنهم تعرضوا لخيانة عظيمة مزدوجة
لقد صار السياسيون سادة لا يُمس منهم طرف فيما انزلق الجزء الأكبر من الشعب إلى هاوية الفقر السحيقة

"نحرق بيوتهم كما أحرقوا قلوبنا". عبارة مؤلمة وجارحة غير أنها معبرة عن حدود القطيعة التي انتهى إليها محتجو طرابلس الفقراء مع أبناء المدينة المترفين الذين خاضوا غمار السياسة نوابا ووزراء.

يشعر المحرومون من أبناء طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني أنهم تعرضوا لخيانة عظيمة مزدوجة. خانهم النظام السياسي الذي أوغل في فساده وأصابه العمى وانغلقت أمامه دروب البصيرة فلم يعد قادرا على فهم ما يقوله الشعب من جهة ومن جهة أخرى خانهم ممثلوهم السابقون والحاليون في السلطة الذين صاروا يمارسون من خلال صمتهم المريب والمشين قسوة ابن العائلة الجلاد.

يعرف سياسيو طرابلس كل الحقائق التي تختزل التناقض المرير الذي تعيشه طرابلس، مدينة لديها كل مقومات الثراء والرفاهية غير أن تقارير الأمم المتحدة تؤكد أن 57% من سكانها هم عند خط الفقر أو دونه. تلك جريمة، المؤلم فيها أن أولئك السياسيين الذين لم يصلوا إلى الحكم إلا باعتبارهم ممثلين لأبناء طرابلس صاروا يتعاملون مع ذلك الواقع الزائف كما لو أنه قدر المدينة الذي لا يمكن سوى أن تحني رأسها له.

"لقد تم إذلال طرابلس" عبارة قالها محتج آخر.

طبعا ليس من الصحيح أن تعم الفوضى وليس صحيحا أن تُحرق الممتلكات العامة والخاصة على حد سواء. وليس صحيحا أن يعرض المحتجون حياتهم وحياة الآخرين للخطر من خلال الاصطدام بالأجهزة الأمنية. ولكن بأي حق يمكن فرض ذلك "الصحيح" الذي هو ليس صحيحا إذا عم الظلم وغابت العدالة وانتشر التمييز وصار الحكام يتباهون بفسادهم؟

لقد صار السياسيون سادة لا يُمس منهم طرف فيما انزلق الجزء الأكبر من الشعب إلى هاوية الفقر السحيقة بغض النظر عما يحملون من مؤهلات. لقد عدنا إلى زمن العار العثماني يوم كانت هناك عوائل هي رمز للاستعلاء والغرور والصلف الذي لا أريد هنا الخوض في الأسباب التي حضت عليه فيما كان الشعب غائبا في تقاليده وأغانيه وأيضا فقره الذي منعه من اجتياز عتبات القصور الزاهية.

لايزال لبنان في جزء مهم منه خاضعا لوهم العائلات التي تحكم. وهي العائلات التي يجوز لأبنائها أن يكونوا سياسيين يحكمون البلد لأن السياسة تجري في دمهم. وهو ما يجعلنا على بينة من الكيفية التي عرف السياسيون من خلالها كيف يصبحون أثرياء وفي الطريق المعاكسة كان هناك الأثرياء الذين يمشون إلى السياسة كونها صنعتهم. علاقة ملتبسة سيكشف العصر الحديث عما تخللها من فساد واستغلال للمناصب.

عائلات يُقال إنها تاريخية كانت نموذجا تحتذي به عائلات مشت على الدرب. فلبنان بلد بارع في صناعة العائلات السياسية. ما يؤلم أهل طرابلس أن سياسييهم كلهم صاروا جزءا أصيلا من الطبقة اللبنانية الفاسدة. وبالرغم من أن ذلك التحول لم يكن مفاجئا لمَن له خبرة في أحوال السياسة في لبنان غير أنه كان صادما لأهل طرابلس بطريقة تحرق القلوب.

فالإهمال الذي شهدته طرابلس لم تشهده مدينة لبنانية أخرى بالرغم من أن البلد كله كان قد تعرض لخيانة سياسييه بطريقة وقحة.

التظاهرات التي شهدتها طرابلس كانت تعبيرا عفويا عن تلك الصدمة.

سيشعر السياسيون بالخوف ولكنه ليس الشيء المطلوب. سيكون على الشعب أن يبحث عن حلول أخرى. حلول تقوده إلى اسقاط الطبقة السياسية التي لا تزال عاطلة عن العمل بالرغم من أنها استولت على ثروات البلد.

كانت حرائق القلوب قد سبقت حرائق البيوت.

ما حدث في طرابلس كان متوقعا ومن الممكن أن يحدث في أية مدينة لبنانية أخرى. فإضافة إلى الفقر هناك شعور عميق لدى كل مواطن لبناني بأن هناك إذلالا مقصودا يُمارس في حقه وأن كرامته قد تعرضت للاستلاب.

وإذا كان السياسيون قد سرقوا مدخرات اللبنانيين البسطاء فإنهم في الوقت نفسه ارتضوا بتسليم البلد للميليشيات التي صارت تتحكم بمصيره. فلا مال ولا أمان. صار لبنان بلدا لا يصلح للعيش بعد أن صارت أحواله تتدهور بشكل سريع بحيث لا يتمكن المرء من الحفاظ على المستوى الذي هو فيه مهما فعل. ففي كل يوم جديد تقصر اليد أكثر وتحترق العين بما ترى.

وإذا كان الفقراء يشكلون اليوم أكثر من نصف سكان طرابلس بقليل فإن من المتوقع أن يزداد عددهم مع الإيام. مع كل يوم تتمدد عباءة الفقر لتغطي عددا أكثر فيما السياسيون لا يفقهون شيئا مما يحدث من حولهم بعد أن غرقوا في مظاهر ثرائهم.

صار مشهد السياسيين وهم يتشاورون في ما بينهم حول سبل اخراج الحكومة من قمقمها عنوانا للنكبة التي أذلت اللبنانيين كلهم قبل أن تحرق طرابلس.