العالم الرقمي يجردنا مما نملك


اليوم ترفع دعاوى قضائية متحدية خيال السلع الرقمية لأننا في الحقيقة نشتري أشياء بمسميات معروفة، وتتم تلبية طلباتنا لكننا في النهاية لا نمتلك حقوق ملكيتها.
اليوم يعاد سؤال “مَن يملك مَن” أكثر من أي وقت مضى بعد أن تحولت حياتنا إلى كوننا مجرد زبائن نتمتع بالخدمات السريعة التي تبدعها خوارزميات ذكية لشركات تكنولوجية تعمل من دون هوادة لمعرفة أهوائنا ورغباتنا الشخصية.ضعها في جيوبنا أو فوق طاولات صغيرة.

في يوم ما سيجعلنا الاقتصاد الرقمي لا نملك أي شيء في منازلنا، سوى أجهزة صغيرة نضعها في جيوبنا أو فوق طاولات صغيرة.

دعوني أدافع عن توقعي الذي لا يبدو سورياليا أكثر مما ينبغي. فقد تقلصت أحجام المكتبات المنزلية لدينا، فكتبنا الرقمية مصفوفة على أجهزتنا الصغيرة ونحملها معنا أينما نحل.

هل تتذكرون مباهاة بعضنا بمكتبته الصوتية من “سي.دي” وأشرطة فيديو الأفلام وبعدها الأقراص المدمجة، من صار منا يحتفظ بها اليوم؟

اليوم تعمل الهواتف الذكية وأجهزة التلفزيون والعديد من الأجهزة المنزلية على البرامج والتطبيقات معتمدة على الشبكات التي تتحكم في البضائع التي نشتريها.

ماذا لو أردنا إصلاحها لأي سبب كان! ألا نثق بأننا نمتلكها!

بالطبع سيتطور الأمر إلى أكبر من الكتب والأفلام، فلن يكون من الضروري جدا أن تمتلك سيارة في المستقبل، اليوم استدعاء خدمة أوبر أسرع مما كنا نتوقع، فماذا ينتظرنا!

ابن صديقي شاب جامعي ذكي ورؤيوي رفض كل دعوات أسرته بإصدار إجازة سياقة، لأنه قرأ المستقبل القريب بالنسبة إليه وهو في سنته الجامعية الثانية في دراسة الذكاء الاصطناعي، قائلا لماذا رخصة السياقة والمستقبل للمركبات الذكية من دون سائق!

ذلك يعني أن الحياة الرقمية تلتهم المادية وتجردنا من كل شيء، ونصبح مجرد زبائن دائمين في شركات عملاقة تدير شؤوننا.

فليست توقعات، بل اقترب زمن يكون الإنترنت فيه مجرد شريحة في غاية الدقة تزرع في أجسادنا. من يدري بعدها ماذا سيكون معنى مفهوم الملكية الفردية، أي أهمية للخصوصية عندما يكون كل ما يعنيك تحت تصرف الشركات الكبرى التي ستعرف ماذا يتوفر في ثلاجة منزلك لتعوض الناقص منه. ستعرف رغباتك وأهواءك الشخصية من سرير النوم حتى المقعد المفضل بالنسبة إليك في المقهى.

الواقع أننا نفرط يوما بعد آخر بما نملك وبقبول أو انصياع تام لما تطلبه منا الشركات المهيمنة على المنصات التكنولوجية التي صار لا غنى عنها.

لا شك في أن الشركات التكنولوجية تقدم خدمات مريحة للغاية ويمكن الوصول إليها بسرعة وسهولة وأصبحت لا غنى عنها للكثيرين. لكن طبيعة هذه المعاملات الرقمية غير متوازنة إلى حد كبير لصالح المنصات وضد المستخدمين.

مثل هذا الحال يمثل مصدر قلق ويضيف تعريفا جديدا للإحساس بالإفلاس المادي، وإن كنا نمتلك ما يقابله رقميا “أن تمسك النقود بيديك يمنحك إحساسا مختلفا عن مشاهدتها مجرد أرقام في حسابك المصرفي بهاتفك” ذلك الإحساس ينطبق على الكتاب والصحيفة الورقية… ويفسر لنا طبيعة المعاملات الرقمية غير المتوازنة، فشركات غوغل ونتفليكس وأمازون وأوبر… تمتلك كل شيء ونحن مجرد أرقام في النهاية لا نملك غير أن نقبل بشروط تلك الشركات.

فالكتاب الإلكتروني الذي تشتريه من أمازون يبقى ملكها وإن يؤكد العقد الذي وقعته بأنك المشتري، لكنك لا تشعر بتصفحه مثل الكتاب الورقي الذي تدفع ثمنه نقدا وتحتفظ به في مكتبتك البيتية طيبة الذكر، كذلك الفيلم الذي تحمّله من نتفليكس.

ذلك طريق مستمر نسير فيه جميعا ويوما بعد آخر تتآكل فيه خصوصيتنا، مثلما تتراجع قدرتنا على الابتكار.

اليوم يعاد سؤال “مَن يملك مَن” أكثر من أي وقت مضى بعد أن تحولت حياتنا إلى كوننا مجرد زبائن نتمتع بالخدمات السريعة التي تبدعها خوارزميات ذكية لشركات تكنولوجية تعمل من دون هوادة لمعرفة أهوائنا ورغباتنا الشخصية.

ذلك السؤال المثير دفع المشرعين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى إقرار تشريع يفرض الحق في إصلاح ومقاومة “التقادم المخطط” في العديد من المنتجات الإلكترونية التي تدعم ببرامج تسيطر عليها الشركات التكنولوجية.

اليوم ترفع دعاوى قضائية متحدية خيال السلع الرقمية لأنك في الحقيقة تشتري أشياء بمسميات معروفة، وتتم تلبية طلبك لكنك في النهاية لا تمتلك حقوق ملكيتها.

ولأن الشركات التكنولوجية تتصارع مع المستخدمين على الذكاء الرقمي والواقعي ولا تقدم أيا من حقوق الملكية. ظهر سوق الرموز غير القابلة للاستبدال (NFT) الذي مكّن المبدعين من إثبات ملكية الأصول الرقمية باستخدام تقنية التشفير كما يحدث مع العملات الرقمية.

واحدة من المحاولات المثيرة للاهتمام لإعادة اختراع الملكية الرقمية، عادت إلى بدايات القرن الماضي عندما كانت توجد مخازن تعير العمال اليدويين معدات عملهم بمقابل مالي ويعيدونها مساء مع دفع أجور تشغيلها. إذا كان العامل قبل مئة عام يستعير مطرقة من مخازن المعدات، فقد تحولت هذه المخازن إلى متاجر رقمية أشبه بالمكتبات التكنولوجية تعير السلع الرقمية مقابل رسوم. ذلك تحدّ جديد في الاقتصاد الرقمي التشاركي كبديل لمفهوم الملكية المختلف عليه.

لكن نيل لورانس أستاذ التعلم الآلي في جامعة كامبريدج لا يخفي قلقه من المستقبل المتعلق بالوعود غير الواقعية التي قطعها بعض العاملين في صناعة الذكاء الاصطناعي بأنهم يستطيعون إدخال الحس السليم في أنظمة الكمبيوتر واستنتاج النوايا.

يقول لورانس “حتى الآن، تم تكييف كل تكنولوجيا وفقا لاحتياجاتنا. المشكلة هي أن تفضيلات الإنسان غالبا ما تكون متضاربة، أو ناقصة، أو غير متسقة، أو مخطئة، بسبب عدم اليقين المستوطن في النفس البشرية، فضلا عن الظروف المتغيرة”.

ذلك ما يطالبنا به الكاتب جون ثورنهيل في إعادة اختراع الملكية الرقمية والتأكيد على فائدتها لمواجهة هيمنة التكنولوجيا الكبيرة، في مقال له بصحيفة فايننشيال تايمز.

من بين الأشياء العظيمة التي انبثقت عن عقل الرؤيوي بنجامين فرانكلين أحد الرجال الأقوياء المؤسسين للولايات المتحدة، إنشاء أول مكتبة عامة في فيلادلفيا عام 1731. تروج لاستعارة الكتب بعد أن سئم القراء من تكلفة شراء الكتب واستيرادها من الدول الأوروبية.

وهكذا صنع هذا الفيلسوف والسياسي فرانكلين منفعة عامة متعلقة بملكية الكتب المستعارة استمرت مئات السنين. لكن العالم الرقمي بدأ بالقضاء عليها تدريجيا مع هيمنة المنصات الإلكترونية.

وتبدو الحاجة ماسة وعاجلة لإحياء طموح فرانكلين لتقوية الصالح العام في ما نتداوله من سلع رقمية، فالعالم المادي يركلنا باستمرار بينما يفعل بنا العالم الرقمي أشياء غريبة.