'التباين في الشعر النسوي العربي المعاصر' لبنة مهمّة في صرح نقد القصيدة المعاصرة

جعفر كمال يستفيد من مناهج نقدية تاريخية ووصفية وايديولوجية ويمزج النقد النظري مع النقد التطبيقي في كتابه أي أنّه لم يدرس النصوص الشعرية بوصفها وحدة مستقلة بذاتها، بل بوصفها ناقلة وحاملة لمزيد من الرؤى النقدية والفلسفية والبنيوية التاريخية.
جعفر كمال يستقي مفاهيمه النقدية من مصادر النقد القديمة والمعاصرة
الكتب المترجمة لأعلام النقد الأجنبي المعاصر تشكل خلفية معرفيّة للناقد جعفر كمال
الناقد يميز بين 'الشاعرة الموهوبة' و'الشاعرة المقلِّدة أو المؤلِفة'

كتاب نقدي جديد للقاص والشاعر والناقد العراقي جعفر كمال، الذي أثرى الحركة النقدية العربية المعاصرة بمزيد من الأبحاث النقدية الجادة في القصة والرواية والشعر القديم والحديث، إضافة إلى إبداعه الشعري والقصصي. 
لقد كانت الفرصة طيبة لأن أتعرف بهذا الأديب النشيط في التأليف والنشر، ولأن أشركه في المشاريع النقدية والبحثية التي أشرف عليها، فقد كان من بين كتّاب موسوعة الجنسانية العربية والإسلامية قديما وحديثا، بجزئيها، الأول والثاني، وقد صدرت هذه الموسوعة في طبعتها الأولى في لندن، وفي طبعتها الثانية في دار دجلة الأكاديمية في بغداد، قبل أسابيع قليلة. 
إن من يقرأ كتاب الناقد جعفر كمال الموسوم بــ: (التَّبَايُنُ في الشعر النسوي العربي المعاصر) سيرى هذا الكم الغزير من المعرفة والمفاهيم والمصطلحات النقدية، والإحالات إلى نظريات نقد الشعر المعاصرة المبثوثة في خطابه النقدي. 
لقد أفاد جعفر كمال من خلفية معرفية موسوعية تنتمي إلى حقول الإبداع الفكري والإنساني المتعدد في مشاربه، فهذه الحقول تنهل من الأدب القديم والحديث، ومن التراث والفلسفة والتاريخ وعلم النفس وعلم الجمال.
 وقد أحال إلى نظريات الفلسفة اليونانية والإغريقية والمعاصرة، وأدخلها في فضاء النصوص الشعرية المعاصرة، وأخذ يحلل هذه النصوص تحليلا عميقا مستفيدا من كل ما قرأه في الكتب القديمة والحديثة، سواء أكانت عربية أم مترجمة إلى اللغة العربية. 
وبصبر الباحث المتأني والناقد الجاد واسع الاطلاع استقى مفاهيمه النقدية من مصادر النقد القديمة التالية: الإحكام في أصول الأحكام لمؤلفه ( أبوالحسن سيدالدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631 هــ)، ـو كتاب العمدة في صناعة الشعر ونقده لمؤلفه أبي علي الحسن بن رشيق القيرواني (390 ـــــ 456 هــــ / 1000 ـــــ 1064 م)، وكتاب دلائل الإعجاز للإمام عبدالقاهر الجرجاني ( ت 471 هـــ)، وكتاب بلاغات النساء لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر ( ابن طيفور.  ت 280 هـــ ).
ولم ينس الإفادة من كتب أساتذة النقد المعاصرين الذين أثروا الحركة النقدية العربية المعاصرة بمزيد من الآراء والاستنتاجات المهمة والدراسات العميقة، ومن هؤلاء الأساتذة الذين أفاد منهم: جبرا إبراهيم جبرا، ويوسف سامي اليوسف، وعبد الإله الصائغ، ومحمد غنيمي هلال وغيرهم.
 وقد شكلت الكتب الأجنبية المترجمة لأعلام النقد الأجنبي المعاصر خلفية معرفيّة أفادته كثيرا حين تحليله لنصوص الشاعرات اللواتي درس أشعارهن في الكتاب، ومن هؤلاء الأعلام : ديفيد هيوم، و جورج حبروفيتش، ونعوم تشومسكي،وميخائيل باختين، ورينيه ديكارت، وتيدول ريبو و غيرهم.
ولم يتقيّد جعفر كمال بمنهج نقدي محدد تناول من خلاله النصوص الشعرية، موضوع الدراسة، فهو يفيد في العديد من المناهج، تارة يأخذ من المنهج التاريخي، وأخرى من الوصفي، ومرة من الإيديولوجي، وأخرى من البنيوي التكويني، ثم يعود ليأخذ من معطيات المنهج الثقافي، ولا ينسى من أن يأخذ من بعض معطيات المنهج الاجتماعي، وكل هذه المناهج قابلة في دراسته لأن تأخذ من الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وبالتالي تأخذ من مفاهيمها و نظرياتها.
لقد قرأ النقد العربي القديم والحديث، والنقد الأجنبي القديم والحديث، وشكّل منها جميعها مفاهيمه النقديّة، ورؤيته التي حكم من خلالها على النصوص التي بين يديه، وحللها وبين فيها أهم معالم الجمال والإبداع الرؤيوي والرمزي. وهو في كتابه اختار نصوصا بعينها، ورأى أنها الأبهى والأجمل والأكثر عمقا فلسفيا ورمزيا وتاريخيا، وبالتالي أتى نقده متعاطفا مع هذه النصوص التي اختارها بعناية فائقة.

لقد أفاد جعفر كمال من خلفية معرفية موسوعية تنتمي إلى حقول الإبداع الفكري والإنساني المتعدد في مشاربه، فهذه الحقول تنهل من الأدب القديم والحديث، ومن التراث والفلسفة والتاريخ وعلم النفس وعلم الجمال.

أمّا الشاعرات اللواتي اختارهن موضوعا للدراسة فهن: نازك الملائكة، ولميعة عباس عمارة، وبشرى البستاني، وناهض ساتر، وفاطمة الفلاحي من العراق، وجمانة حداد من لبنان، وهيام قبلان من فلسطين، وروضة الحاج من السودان، ومالكة العاصمي من المغرب.
 وإذا كان الكتاب في شكله وترتيبه وموضوعاته ــــ منجزا نقديا في خطاب المرأة الشعري، وأبعاد هذا الخطاب، وأهم الأبعاد الجمالية فيه، فإنّ الناقد جعفر كمال لم ينس أن يشير إشارات عديدة إلى شعراء الحداثة العربية المعاصرين، هؤلاء الشعراء الذين كان لهم سبق الريادة في الانتقال بالشعر العربي خطوات واسعة من مظاهر التقليد والنمط الكلاسيكي العروضي، المقيّد بالوزن والقافية والصور النمطيّة إلى فضاءات أكثر رحابة في التشكيل اللغوي والصورة الشعرية، وتكثيف الرمز وبعد إشاراته السيميائية وعمقها، ودلالاتها البعيدة في استخدام الرمز والميثولوجيا، والتاريخ والرؤية الحديثة الحرّة في انسيابها، والخارجة عن أطر القصيدة التقليدية، والمتجاوزة لها، والرافضة لها أحيانا أخرى، من خلال استبدالها بشكل شاعري جديد لغة وموسيقى، ومضمونا فكريا وحداثة في الشكل.
ومن الشعراء المعاصرين الذين أشار لهم في كتابه النقدي : بدر شاكر السيّاب، عبدالوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وصلاح عبدالصبور، وسعدي يوسف، ومحمود داود البريكان، وأمل دنقل، ويوسف الخال، وشوقي أبي شقرة، وأدونيس، وعباس بيضون، وأحمد عبدالله، وسركون بولص، وصادق الصايغ، وعبدالرحمن الطهمازي، ومؤيد الرواي، وحلمي سالم، وأنور الغساني، وعبدالأمير الحصري، وحسين مردان، وجان دمو، وآدم حاتم، وعبدالقادر الجنابي، ومظفر النواب، ومحمود درويش، ومعين بسيسو، ونزار قباني، وأنسي الحاج، وأحمد مطر، وعبود عنيد هاشم، ومصطفى عبدالله، وأبوالقاسم الشابي، وسميح القاسم، وقصي الشيخ عسكر، ونبيل ياسين، وعلي الأقزم، وغيرهم.
ومن خلال استقصائه للنصوص الشعريّة النسائية أدرج الناقد صاحبات هذه النصوص ضمن فئتين: أطلق على إحداها ( الشاعرة الموهوبة)، وعلى الأخرى (الشاعرة المقلِّدة أو المؤلِفة)، ورأى أن الشاعرات المؤلِّفات لا ينتمين إلى حركة الحداثة الشعرية النسوية الجمالية المعاصرة، بل هن لا يزلن يقبعن تحت غطاء التقليد، والشعر غير الإبداعي، فما كان منه إلاّ وأن أهمل أشعارهن، ولم يولها أي اهتمام، وركّز في انتقاء جميع النصوص المدروسة لمجموعة من الشاعرات، رأى أنهن ينتمين إلى (الفئة الموهوبة)، أي تحديدا إلى الفئة المبدعة تشكيلا إبداعيا، وصورا حداثية غير نمطية، أهم خصائصها أنها إبداعية على مستوى استخدام تقنيات الرمز والإفادة من حقول المعرفة الإنسانية، وحديثة على مستوى المفردة اللغوية، وطريقة بنائها الشعري في الجملة الشعرية، و على مستوى الهمّ الفردي والجمعي الإنساني الذي يخيّم على الجماعات الإنسانية في حلمها وفرحها وعيشها، وأحزانها، وبالتالي على مستوى الفاجع العميق الذي يضرب جذوره في المجتمعات العربية المعاصرة، ويشلّها و يمنعها من أن تكون مجتمعات ناميّة ومزدهرة قادرة على تحقيق العيش الحرّ الكريم لأفراده ومواطنيها.
وفي أسلوبه النقدي الذي طبقه على النصوص الشعرية أبدى تعاطفه الشديد مع هذه النصوص، ونظر إليها بمنظور جمالي، وبعين راضية فيها كثير من الإعجاب، وقد ساعدته هذه النظرة لأن يستفيض في دراسة هذه النصوص على مستوى اللغة الشعرية، وتشكيل هذه اللغة، وعلى مستوى الصورة الشعرية، وبعد هذه الصورة، وأهم الحقول المعرفية التي أسهمت في تشكيل هذه الصورة.
وقد استعان في فهم هذه الأبعاد وتقديمها إلى القارئ في قالبها النقدي من خلال الرجوع إلى الكثير من المصادر والمراجع العربية والأجنبية القديمة والمعاصرة كما أشرت إلى ذلك. 
ومن هنا فقد تزامن النقد النظري مع النقد التطبيقي في كتابه، إذ حضرت نظريات النقد ومفاهيمه، لكي تساعده على فهم إشارات الشعر وأبعادها السيميائية و الرمزيّة. أي أنّه لم يدرس النصوص الشعرية التي بين يديه بوصفها وحدة مستقلة بذاتها، بل بوصفها ناقلة وحاملة لمزيد من الرؤى النقدية والفلسفية،والبنيوية التاريخية.
ومن هنا بدا خطابه النقدي صعبا ومستعصيا على القارئ العادي الذي ليس له خلفية معرفية بنظريات الشعر ونقده.
 أي أن هذا الكتاب هو موجه ــــ بالدرجة الأولى ـــ لشريحة خاصة من قرّاء الشعر ونقاده المتمرسين الذين لهم معرفة بأصول النقد ونظرياته القديمة والحديثة، ومن هنا تأتي أهميته في أن يكون مرجعا من مراجع نقد الشعر العربي المعاصر، وبخاصة نقد الشعر النسوي، وبالتالي يفيد منه طلاب الدراسات العليا والباحثون في أقسام النقد الأدبي في جامعاتنا المعاصرة، بل هو من أهم هذه المراجع المعاصرة في اختصاصه وموضوعه، إذ يشكّل نافذة معرفية يمكن أن تنبثق عنها نوافذ أخرى عديدة تشكّل لبنات مهمّة في معمار نقد القصيدة المعاصرة شكلا ومضمونا وتنظريا معرفيا.