الفتوى حكم نهائي وملزم
نجحت انتخابات العراق وتنفس الناس هواء نقيا، وصرح مقتدى الصدر أنه سينهي فوضى السلاح، ثم تتابعت تصريحات الميليشيات أن من يريد نزع السلاح، فإن البندقية بانتظاره، وأفادوا أن حمل السلاح جاء بفتوى، وهنا المشكلة الكبيرة، وهي أن حاملي السلاح ملتزمون بالفتاوى، وهي التي تتصف بأنها نهائية وملزمة، وأقوى من أحكام محكمة التمييز. ولا شك أن تفجير أمس الأول في أفغانستان والتي راح ضحيته 37 قتيلا من الشيعة والتفجير الذي سبقه بأسبوع وراح ضحيته 30 شيعيا جاءا بفتوى أيضا. وهكذا يجد المسلمون أنفسهم أسرى الفتاوى، وإذا كان هناك من يرغب في تصويب الأوضاع وإعادة حكم القانون وحفظ دماء الناس، عليه أن يجتث الفتاوى أولا.
لا شيء أقوى من الفتوى فهي تجيز كل شيء على قاعدة أن حفظ الدين يعلو على حفظ النفس والوطن، وكل صاحب دين يبيح لنفسه قتل أصحاب الأديان الأخرى. وها هم مسلمو الهند يعانون الويلات من طغيان أديان أخرى، والشيعة في أفغانستان يقتلون وهم يصلون، والحوثيون يفجرون الأحياء السكنية، والاسلاميون وحلفاؤهم في تونس يريدون أن يستعينوا بالخارج لإعادة "الديمقراطية" ولا شك أنهم يتصرفون بناء على فتوى.
لكن الفتوى ليست مجرد إجراء، بل هي وليدة فكر وأدبيات وتشريب ذهني استغرق سنوات، حتى أصبح الانسان مبرمجا ولا يشغل عقله ولا يفكر بالآخر، لأنه مقتنع بأنه يتصرف بناء على إرادة الله، وكل دين يحمل نفس اليقين ولا سبيل الى تغييره طالما أن حامل الفكرة حيا، ولن يزول إلا بزوال صاحب الفكرة. وهكذا يستمر كرنفال الضحايا والجثث والدماء. ومهما قالت كتب المفكرين والفلاسفة ومهما نشر من مؤلفات فلن تجد صدى في عقول المتعصبين لدينهم، ولن يتمكن أحد من زحزحة قناعاتهم، وهم مستعدون للقتل والموت، فهم على جميع الأحوال شهداء وسوف يرضى الله عنهم ويدخلهم الى الجنة.
الله، ذلك القوة الشاملة التي خلقت الكون وأنظمة لا يمكن للإنسان فهمها ولا حتى تصورها مهما تطور العلم واتسعت الاكتشافات، أوحى للشيعة أن يقتلوا السنة وأوحى للسنة أن يقتلوا الشيعة وأوحى للصهاينة أن يحتلوا فلسطين ويطردوا أهلها وأوحى لإيران أن تنشر التشيع وتحتل الدول المجاورة بل وأصدر أوامر غاية في الدقة تخص الأمور الشخصية والجنسية لكل جماعة أينما وجدت والدعاء الحرفي الذي يجلب الرزق كالمطر المدرار، وقد اختار كوكب الأرض من ترليونات الكواكب في الكون خصيصا لفرض أوامره. هل هذا منطقي؟
الله الذي خلق كونا شاسعا لم يتمكن الانسان من رصد سوى جزء صغير جدا منه لا يتجاوز رأس دبوس، وهو الذي خلق دماغا لم يتمكن العلماء من معرفة آلية عمله ولا تصحيح أي خلل يصيبه، أمر الناس أن يقتلوا بعضا وجعل بني إسرائيل مفضلين على العالمين، وله صور مختلفة في الأديان المختلفة وله أبناء في بعض الأديان، وقد أمر أصحاب الديانات والمذاهب المختلفة أن يقتلوا بعضا وأن يكون الحكم بيدهم لأن دينهم هو الدين الصحيح والباقي لغو وهراء. هل يركب هذا على عقل انسان؟
لو كان الحكم الديني فيه خير لما تركته الدول المتقدمة وجعلته علاقة شخصية بين المرء وربه وفرضت حكم القانون على الجميع وغيرت كافة المفاهيم القديمة التي جعلتهم يعيشون في ظلام وجهل ويقدسون حكامهم ويسمحون لهم بسرقة أرزاقهم ويقبلون يدهم وينحنون أمامهم أذلاء صاغرين. وحالما غيرت ذلك الفكر، نهضت بقوة وصار الناس يحسون بطعم الحياة، لكثرة الخير الذي جلبته العلمانية من اعتزاز وثقة بالنفس ومال وفير وعلم وتقنيات متطورة واجتثاث للسلطة المطلقة، فصاروا يعيشون عيشا رغيدا ويعملون ويسافرون ويغامرون ويخترعون ويكتشفون ويبتكرون وصار رجل الدين عندهم هو الذي ليس لديه مؤهلات تسمح له بغير هذه الوظيفة التي تعتبر من الوظائف الدنيا. فلماذا رجل الدين عندنا يأمر وينهى ويصدر فتاوى وصاحب قرار؟
لو كان اليهود يعيشون بمقتضى دينهم في حياتهم السياسية ومعيشتهم اليومية لما وصلوا الى ما وصلوا إليه من علم ومال، فهم علمانيون وأينما وجدوا فإنهم يتميزون بالإنجازات، وتمكنوا من احتلال فلسطين ليس لأنهم يهود، بل لأن لديهم العلم والمال، وهذا هو سر قوتهم، والمتدينون اليهود عددهم قليل وليسوا أصحاب قرار، ويمارسون الحياة السياسية من خلال أحزابهم، ولو تمكنوا من جعل إسرائيل دولة دينية تعيش بأحكام الديانة اليهودية، فسوف يضعفون وتنهار دولتهم، ولكنهم أذكياء ولا يفرطون بقوتهم ولا يكسرون شعبهم، بل يحافظون على حرية الناس ولا يقيدونهم بأحكام دينية ويفرضون حكم القانون على الجميع، لذا فقد ازدهرت دولتهم وتغلبت على العرب من حولهم.
اليوم، يقف العرب أمام معضلة كبرى، فقد انتشرت التيارات الدينية التي تريد أن تسيطر وتتولى الحكم، وإذا لم تتمكن فإنها تسلح أتباعها وتصدر لهم فتاوى بالجهاد والقتل، وقد فات الأوان، والوقت يمضي وليس هناك متسع من الوقت لتغيير الثقافة ومحو القناعات التي تجذرت عبر السنين، وهو دون شك خطأ الحكام العرب الذين لم يفرضوا على الناس ثقافة حكم القانون وصون الحريات الفردية واجتثاث الفساد وجعل الناس يحسون بطعم الحياة ويعتزون بالثقافة العلمانية ويحافظون على أوطانهم ويتسابقون في الإنجازات وليس بالتفجيرات وهدر الدماء.
إن التغيير الثقافي ليس قشورا بل هو جذري ويقلب كل المفاهيم التي يعيش الناس في ظلها ويترك كل شيء غامض ويسير في المسارات الواضحة التي ليس فيها التباس لكي يصفو العقل ويفكر جيدا. إن كل عربي يذكر اسم الله مئة مرة في اليوم على الأقل، وهو أمر واضح للعيان ولا يحتاج الى استقصاء، وهذا يدل على أن التفكير الغيبي هو الذي يتحكم بمعيشتنا اليومية، وهذا ليس مفتاحا للنجاح، بل للفشل، فالحياة اليومية تحتاج الى أدوات واضحة تساعد الإنسان على فهم الحياة ومعرفة طريق النجاح، أما الإيمان والتقوى، فهي في القلب والله أعلم ما في الصدور.