فيلم يهز ثوابت المجتمع
تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي نقاشات حادة تدور حول قيم الاسرة المصرية بسبب احد الاعمال الفنية. كانت النقاشات كلها تدور في نطاق ثلاثة محاور لا غير، اولها هو ان العمل الفني يهدم قيم وثوابت المجتمع. ودعاة هذا الرأي يقصدون بالتأكيد قيم الطبقة الوسطى وهي الطبقة الاكثر انتشارا. فعندما هاجم المدونون منذ اسابيع مضت احدى المعلمات التي قامت بالرقص في رحلة نيلية مطالبين زوجها بتطليقها لم ينتبهوا إلى أن نفس ذات الفعل يمارس يوميا في الساحل الشمالي وان ذلك يوثق ايضا بالتصوير دون اي انتقاد او شعور بالحرج. ومن المتعارف عليه ايضا رقص النساء في الافراح الشعبية ناهيك عن الاغاني الفلكلورية الريفية المتعارف عليها في الاعراس. فمن الواضح اذا ان قيم واخلاق الطبقة المتوسطة هي التي اصبحت مهددة بسبب الفيلم.
ولكن لنا ان نتساءل: لماذا لا تتأثر هذه القيم والاخلاق الا بالجنس وما يتعلق به فقط ولا تتأثر بما يتعلق بالرشوة والفساد والسرقة والنصب والتحرش والعنف ضد النساء، بل تتسامح معه؟
وايضا نتساءل: متى وكيف تكونت هذه القيم الاخلاقية؟ وهل هي ثابتة دائما ام تتغير بمرور الوقت؟ ولماذا تدور حول الجنس تحديدا؟ وكلها اسئلة مشروعة تدور في ذهن القارئ المتأمل للأحداث؟
منذ قرون عندما كتب الامام جلال الدين السيوطي كتابة نواضر الايك عارضا فيه وشارحا كل ما يتعلق بالعملية الجنسية وبصريح العبارات والالفاظ وهو من هو في الفقه، ولم نجد معترضا الا في العصر الحديث عندما حاول البعض انتفاء صلة الامام بالكتاب مدعين انه ارقى وافهم للدين من ان يكتب هكذا كتاب.
متى تم اعتبار الجنس تابو محرم الاقتراب منه ومن كل ما يداعب تلك الغريزة المنبوذة؟ الم تكن اسواق الجواري تعرض فيها النساء شبة عاريات، بل ويحق للمشتري ان يتفحص بضاعته قبل الشراء بكل وسيلة؟
اين اشعار ابي نواس في الخمر والتشبيب بالغلمان ولماذا لا زالت مشهورة ومذكورة؟
ولنفترض ان هناك عملا فنيا يعرض قصة الشاب الذي احرق أخته للاستيلاء على ارثها كما حدث في الاسبوع الماضي، هل نتوقع انه سيتعرض لنفس الانتقاد بانه يهدم قيم المجتمع؟ ان هناك بالفعل اعمالا فنية تتعرض لمثل هذه القصص ولا نجد معترضا عليها من باب الحفاظ على قيم المجتمع.
وهذا ما يجرنا الى المحور الثاني الذي أبداه المعترضون وهو ادعاء الترويج وكأن الناس اذا شاهدت عملا فنيا به اشخاص يقومون باي عمل قد يوصف بانه غير اخلاقي سيتخلون عن قيمهم لغرض المحاكاة.
وليسأل كل واحد منهم نفسه هل اذا شاهد احدهم عملا فنيا يتقاضى احد أبطاله رشوة فهل سيقوم هو ايضا بأخذ الرشوة؟ هل اذا شاهد عملا فنيا به اشخاص مثليين هل سيتحول هو الى المثلية؟ انا شخصيا شاهدت وقرأت عشرات الاعمال الفنية التي تحكي قصة ريا وسكينة السفاحتين الشهيرتين فهل سأتحول يوما ما الى سفاحة؟ هل القيم متزعزعة لهذه الدرجة؟ واذا كانت بالفعل متزعزعة فالحل يكون بغرس القيم وليس بالمنع والحجب لما يناقض تلك القيم.
هل نفع الحجب والمنع الناس عن اي فعل كان يريدونه؟
هناك بعض الدول تمنع تناول الخمور فهل كف قاطنيها عن الشراب؟ ام ان من يريد الشرب يجد الف طريقة والمشروبات تباع في السوق السوداء لمن يريد؟
بعض الدول تحجب المواقع الاباحية فهل كف الناس عن الدخول للمواقع ام ان هناك عشرات التطبيقات التي تتغلب على الحجب حتى ان بعض الدول دون ذكر اسماء تتفوق وتتصدر احصائيات الدخول لتلك المواقع.
الدول التي منعت الدعارة هل اختفت الدعارة ام ظلت وتحت الف ستار؟
في الحقيقة لم يثبت عمليا ان المنع قادر على ان يصنع مجتمعا صحيا، بل يخلق حالة من النفاق الاجتماعي وازدواجية المعايير قد لا توجد في الدول التي لا تمنع ما سبق فكل انسان قادر على ان يصل الى ما يريد مهما تعددت سبل المنع والواقع يقول ان زرع القيم يكون بالتربية.
وغالبا فان ادعاء الترويج هذا يكون نابعا من نظريات المؤامرة وكأننا نشكل تهديدا ما للآخر يريد الخلاص منه بهدم أخلاقه على الرغم اننا نحصر الاخلاق في الاخلاق الجنسية فقط ونتناسى ان الاخلاق الحقيقية هي الكامنة في الشرف والامانة والصدق وغيرها وهي لب الاخلاق. وهذه تكاد تكون منهدمة لدينا بالفعل على الرغم انها هي التي تنبني عليها الامم والمجتمعات وليس الجنس الذي هو شأن شخصي بحت.
وبالرغم من ان القارئ يعرف تمام المعرفة ان المجتمع يفعل بالسر كل ما ينتقده بالعلن، فالجنس سواء بالتراضي او بالأجر وسواء مع المحارم او مع غير المحارم، موجود والخيانات الزوجية موجودة والمثلية موجودة ولا احد ينكر ذلك. وهذا ما يجرنا للمحور الثالث الا وهو انهم يقرون بوجود كل ما سبق في المجتمع، ولكن لا يجب البوح بذلك كمن ينشر غسيله القذر امام الناس.
اسمي هذا ثقافة رأس النعامة وكأن لسان حالهم يقول نحن سيئون، ولكن سنقوم جميعا بتمثيل مسرحية هزلية نبدو فيها جيدين.
وهذا عين الهروب من مواجهة الحقيقة وكذب صريح على النفس، بل ونفاق اخلاقي أيضا. فالكل مباح في السر ومدان في العلن. ولهذا تطالعنا اخبار الحوادث بأخبار رجل الدين الذي يتحرش بالبنات وبرجل الفن الذي اغتصب فلانة بل وان كل فتاة تملك حسابا على مواقع التواصل الاجتماعي تجد في الرسائل ما يندى له الجبين من كلام وصور وعروض من رجال تبدو حساباتهم الشخصية مثقلة بالمواعظ والأخلاق.
ان العمل الفني ليس مطلوبا منه تجميل الواقع. فالبعض يفضل ان يكون العمل الفني ذا هدف ما يخدم المجتمع والبعض الاخر يفضل ان يكون العمل الفني حالة فنية في حد ذاته ولا يجب عليه أن يكون اي رسالة هادفة. فهاتان مدرستان في التذوق الفني لك ان تتبنى احداهما كما تشاء ولك ان تنتقد العمل الفني. ولكن اضفاء نوعا من الابوية والسيطرة الاخلاقية على صناع الفن ليس مقبولا. فإذا كنت ضد رسالة العمل الفني فلك ان تقاطعه ولا تشاهده دون وصاية أخلاقية. اعتبره فيلما سيئا لا بأس، لكن لا تتمسح في قيم المجتمع. فنحن في حاجة لإعادة تعريف لماهية الاخلاق والقيم.