نواح لبناني على أوتار مقطوعة
كان من الضروري للطبقة السياسية الفاسدة التي تحكم لبنان وستبقى تحكمه إلى أمد غير معلوم أن يستعرض اللبنانيون مآسيهم ونكباتهم بطريقة جهوية فتكتفي كل جهة بمقطع من الكارثة، مقطع صغير يمكن أن يُهمل قبل أن تمتد إليه يد لتضعه في سياقه من الفيلم اللبناني الطويل الذي يروي حكاية شعب سبق بلاده إلى التلاشي واختفى. بقيت بلاده من بعده وهي تستفيق بين حين وآخر على آخر الصفقات التي لا تزال ممكنة في ظل فساد عم المنطقة كما لو أنه الشرط الأخير للبقاء.
بعد الثورة العارمة عام 2019 والتي لم تحرك حجرا واحدا من بنية النظام السياسي ها هم اللبنانيون يعودون باستسلام إلى نواحهم المناطقي. كل منطقة تبكي لوحدها وبالطريقة التي تناسبها وبما يلائم حجم الكارثة التي ضربتها. فبعد أن ضرب الموت القادم هذه المرة من البحر طرابلس صار عليها أن تهندس نواحها بما يتناسب وفصول النكبة. فالهاربون الذين لم يصلوا هم من أبناء أشد المناطق حرمانا في طرابلس. لقد نجوا من حرمانهم عن طريق الموت. تحدوا تغييبهم بالظهور باعتبارهم عنوانا لكارثة يمكن أن تصيب مناطق أخرى من لبنان إذا ما قرر الشعب أن يحتج عن طريق الموت.
الأكثر مدعاة لاستمرار مسيرات الحزن إلى الشاطئ أن الحكومة اللبنانية لا تملك القدرة على انتشال ثلاثين جثة لا تزال في قاع البحر. فبعد أن أفقروه وسرقوا أموال رعاياه الذين هم مواطنون سابقون فإن لبنان لا يملك أموالا تساعده على الانفاق على عمليات العثور على الجثث وإخراجها من أعماق المياه. تلك جثث أبناء سابقين هم اليوم موتى. تلك شهادات وفياتهم. ألا يحق للطبقة السياسية أن تطوي الصفحة هذه المرة أيضا؟ ستطويها مثلما طوى حزب صفحة جريمة تفجير مرفأ بيروت. أما آن الأوان لنسيانها؟
سنبكي قليلا من أجل ميت هنا وميت هناك ومن ثم يتم استئناف الحفلة براقصين بثياب الحرب. كان هناك دائما مَن يدعو إلى نسيان الحرب الأهلية التي امتدت ما بين 1975 و1990؟ ألم تنته الحرب "فضوها سيرة". ولكن انفجار مرفأ بيروت لم يكن حدثا عرضيا. إنه حياة كاملة تعود بالزمن إلى الوراء. هناك مَن يقول "لا تنسوا. نحن هناك. في إمكاننا أن نعيدكم إلى زمن الحرب. ذلك زمن لا يزال ممكنا. عليكم أن تنسوا إذا ما تعلق الأمر بنا وعليكم أن لا تنسوا إذا ما تعلق الأمر بكم. أنتم لستم أحرارا في أن تنسوا أو لا تنسوا"
الموتى مفتوحو الأعين في قاع البحر ينتظرون. يوما ما سيعودون إلى العائلة محملين بالهدايا. في انتظار الفرج سيكون عليهم أن يتسلوا بعد أعشاب البحر من حولهم. عشبة لك وعشبة لي في ذلك النهار الذي لا ليل بعده. لبنان في نهار طويل. ما من شيء خفي فيه. بل لا أحد يتعب نفسه في إخفاء شيء. كل شيء واضح. لصوصه وقتلته وقطاع طرقه وأفاقوه ومحتالوه ومهربوه ومزوروه واقفون تحت الأضواء. ما من شيء يمنعهم أو يحرجهم أو يؤنبهم أو يجرحهم. كائنات صلدة ومسمومة وقابلة على التناسل.
وفي المقابل هناك شعب يدفعه الحرمان إلى الذهاب قدما إلى الموت. لا ينتظر اللبنانيون الموت. ألا يمكن لحزب الله ومن ورائه إيران أن يستثمرا في تلك المأثرة الجديدة. شعب يذهب إلى الموت ولا ينتظره. هناك ثلاثون جثة في قاع البحر لو لم يكونوا من طرابلس لكانوا شهداء ولسارت من أجلهم المجاميع بثياب سوداء من أجل أن لا تتوقف المسيرات الجنائزية. شعب كله شهداء. مصير اللبنانيبن أن يكونوا كذلك إذا ما استمرت الطبقة السياسية الفاسدة في إدارة الدولة الفاشلة كما لو أنها مصنع لإنتاج التوابل المسمومة.
لا فرق بين مرفأ بيروت وشواطئ طرابلس.
انفجر المرفأ ببيروت، بالجزء التاريخي منها وفي طرابلس انفجرت أحياء بنواح الأمهات بحثا عن الأبناء الذين لا تزال جثثهم في أعماق البحر. في الحالين كانت دولة لبنان غير معنية بالبحث عن المفتاح الذي وضعته في مكان ما وضيعت الطريق إليه. كان الموتى لبنانيين غير أن الحكومة ينبغي أن تبحث في دفاترهم المدنية. لا أعتقد أن سياسيا لبنانيا سيتوقع حضور الثلاثين جثة في مجلس النواب اللبناني الذي لن يكتمل النصاب فيه في انتظار سنة لن يكون فيها لبناني حر واحد على قيد الحياة.