نادية هناوي تختار 'غاليانو صيّاد الكلام' للعبور الأجناسي في عوالم القصة القصيرة

أستاذة النقد الحديث الناقدة العراقية ترى ان إدواردو غاليانو كان كاتبا من طراز فريد تمكن من تكثيف السرد مؤرخا وأفاد من التأريخ قاصا، فقفز بالقصة القصيرة قفزة نوعية تجعله يقف في مصاف عمالقة هذا الجنس.

إدواردو غاليانو (1940ـ 2015) أحد الكتّاب الذين تميزوا بالتجريب في مجال قلما يطمئن إليه الروائيون والقصاصون وهو التأريخ الذي فضله على التاريخ. ولإدواردو غاليانو أكثر من أربعين عملاً قصصياً. وكل أعماله مترجمة إلى لغات مختلفة وبعضها مترجم إلى اللغة العربية. وأول عمل صدر له كان "الأيام التالية" عام 1963، وأهم عمل ثلاثية "ذاكرة النار" 1982ـ 1986 وأشهر عمل "شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة" 1971.

وهذا الكتاب لأستاذة النقد الحديث الناقدة العراقية د.نادية هناوي "غاليانو صيّاد الكلام والعبور الأجناسي.. استجلاء نظري وتمثيل إجرائي في عبور القصة القصيرة" يتوقف بالنقد والتحليل أمام تجليات غاليانو الإبداعية وقدراتها على نسج سرد مختلف في فرادته، وقدرته على خلق عوالم جديدة من خلال التأمل العميق في ماضي الإنسان وحاضره واستشراف مستقبله.

تؤكد هناوي أنه لا غرابة في اختيار أدب غاليانو عينة تطبيقية لكتابي، ليس لأن الكتابة عن إبداعه أمر غفل عنه النقد الأدبي العربي فلم يوله أي اهتمام، وإنما أيضا هو تمكن غاليانو من فنون التجريب السردي فكتب وأبدع وجرّب حتى ذاع صيت تجريبه واشتهر قاصا مجربا وساردا مؤرخا وأميركيا منفيا وكاتبا كونيا لا تعرف كتاباته تعصبا أو ولاء، بل هي نافرة عن المعتاد ومنفتحة على التجريب.

ترى أن غاليانو كان كاتبا من طراز فريد، تمكن من تكثيف السرد مؤرخا، وأفاد من التأريخ قاصا، فقفز بالقصة القصيرة قفزة نوعية تجعله يقف في مصاف عمالقة هذا الجنس مثل انطون تشيخوف وغي دو موباسان ونيقولاي غوغول وهنري جيمس وادجار الن بو وخورخي لويس بورخس.

الكتاب تضمن أربعة فصول، اثنان منها نظريان يتعلقان بالعبور الأجناسي واثنان إجرائيان فاهتم الأول بوضع فرشة نظرية هي بمثابة تأطير نظري لقضية الأجناس الادبية وتلمس إشكالياتها وتناول الفصل الثاني نظرية "العبور الأجناسي" ومفاهيمها.وحمل الثالث عنوان السرد الروزنامي ويعني ان السرد يرتهن بالذاكرة وما يستودع فيها من ذكريات ومشاهدات وأخبار وحكاياتتحسب تأريخيا ويكون هذا الحساب روزنامة بمواقيت وتوقيتات محددة مضبوطة ذاكراتيا وتتبع الفصل الرابع طرائق القصة القصيرة العابرة، وهي: طريقة التقويم وطريقة التفكيك وطريقة الرزنمة وطريقة التزمين.

نادية هناوي
كتاباته لا تعرف تعصبا أو ولاء، بل هي نافرة عن المعتاد ومنفتحة على التجريب

وتشير هناوي في كتابها الصادر عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر إلى أن الكتابة عند غاليانو هي التجريب والتجريب هو الكتابة، وهذا ما يجعله كاتبا غريب الأطوار يطل على العالم من ثقب المفتاح ويكتب الماضي برؤية الحاضر ويبني الرواية من القصة القصيرة.. موجها وعيه نحو مناطق معقدة حاول فك عقدها متبحرا في التاريخ البشري بعامة وتاريخ الأمريكيتين بخاصة، متأملا العالم في حاضره مستشرفا صورته القادمة مستقبلا.ولولا هذا الوعي بالتجريب ما كان لكتاب أمريكا اللاتينية أن يكونوا مجددين ومبتكرين وهم يتناولون أوضاع بلدانهم بيد أن غاليانو تفوق عليهم بأن جعل مغامراته الكتابية منصبة على القصة القصيرة، متنبئا بما سيكون لها في العقود القادمة، وواثقا من إمكانياتها في تدعيم مشروعه وإعانته على مغامراته.

وترى أن أمر التجريب الذي ظل غاليانو يمارسه على مدى عقود هو مخصوص بجنس سردي واحد هو القصة القصيرة. وكان يعي بكثير من التفنن الوسائل الأدبية اللازمة للتجريب فيها على مستوى التعبير والتصوير، مدركا بأناة إبداعية واعية إمكانيات هذا الجنس السردي وما تنماز به حدود قالبه من سمات وما يتمتع به من صفات تجعله الأكثر قدرة على التعبير عن التاريخ والتأريخ معا. هكذا غدت القصة القصيرة عند غاليانو عابرة وهي تُلبي رغبته في خرق بعض المواضعات التي لها علاقة بالسرد أو بالتاريخ من جانب، واستنفار القارئ من جانب آخر كي يؤدي دوره في المشاركة والتفاعل غير المألوفين لعله يتمكن من اكتشاف حقيقة هذا النوع من الكتابة التجريبية غير المألوفة واللااعتيادية.

وتلفت هناوي إلى غاليانو يعد في طليعة كتّاب السرد التجريبيين لا لأنه منتم إلى قارة عُرف اغلب كتابها بالتجريب وبمواهب كبيرة وأصيلة تستقي إبداعها من جذور السرد الإنساني ممدة فروعها لا بالجديد والمتحول حسب وإنما أيضا بالفرادة في مجاراة المرحلة التاريخية التي تعج بمتغيرات كونية ومأساوية كثيرة، ليكون غاليانو واحدا من ألمع كتاب عصره متفوقا على من كانوا مجايلين له.ولا شك في أن موهبته الأصيلة هي التي جعلته لا يتهيب من أي تجريب، فكانت ذاته دائبة في البحث عما هو مبتكر أيا كان هذا المبتكر شكليا أم كان موضوعيا أم كان كليهما معا.

وتوضح أنه "إذا كان التلاقي بين ريكور وغاليانو من ناحية الزمان والذاكرة والتاريخ هو مدار هذا الكتاب، فإن التلاقي بين المتخيل التاريخي وعبور القصة القصيرة أجناسيا، هو مقصد هذا الكتاب الذي جمع بين النظر التجريدي والتحليل الادبي والدراسة الثقافية، ويخيل إليّ أن هذا الكاتب المشهور في قارته اللاتينية والمجتهد المثابر بلا ترويج إعلامي أو منة أو مكافأة، كان قد اكتشف بموهبة خالصة وإحساس عالٍ بالتجريب أن في القصة القصيرة قوة تنبع من قالبها العابر على غيره من الأجناس والأنواع والأنماط فراح يستثمر هذه القوة. ولقد توجهت بعض أقلام النقاد الغربيين نحو تحليل أعمال إدواردو غاليانو السردية ونقدها، وتناولوا مختلف المسائل الشكلية والموضوعية فيها. وما أرجوه هو أن أقدم بكتابي هذا مساهمة نافعة تضاف إلى جنب المساهمات الغربية تلك في دراسة أعمال إدواردو غاليانو".