من غير مواجع يغادر العرب المونديال

في سن معينة يعتزل لاعب كرة القدم. يودع الملعب بكرامة وهو في عزه من أجل أن يترك صورته كما لو أنها أيقونة. مثله مثل الكثير من السياسيين في الغرب.

لا بأس من أن تُرتكب الأخطاء الفادحة في لعبة كرة القدم. كأن يسجل اللاعب هدفا ضد فريقه. والخطأ هنا لا يمكن التراجع عنه. لقد وقعت الفأس في الرأس كما يُقال. لابد أن يشعر أحد ما بالذنب. ربما سيلوم المدرب نفسه لأنه أخطأ في اختيار ذلك اللاعب الذي يتمنى من جانبه لو أنه تعرض لوعكة صحية منعته من اللعب. الرياضيون كائنات حساسة بالرغم مما تُظهره من قوة وصبر وتحمل. يركض اللاعبون تسعين دقيقة وبأعصاب مشدودة وعيون مفتوحة كحيوان مفترس يراقب فريسته. والكرة ليست فريسة سهلة. من غير ذلك التعب الخلاق يتعرض الفريق للسخرية وتقع هزيمته كما لو أنها إثم يرتكبه الفريق المنتصر الذي يشعر أن انتصاره ملوث بمرارة هزيمة أخلاقية. النصر في كرة القدم لا يكون له طعم حلو إلا إذا كان الخصم قويا.

تلك معادلة لا يفهمها سياسيو عصرنا وهو عصر ملغوم بالخبث والجبن وانعدام الشهامة والمرؤة. فحين غزا الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بجيشه الجرار الكويت وهي دولة ضعيفة لم يكن بطلا ولا شهما ولا كريما. وحين غزت الولايات المتحدة العراق وهو دولة أنهك شعبها حصار دولي ظالم لم تكن تملك ذرة من النزاهة والكبرياء والنبل. في الحالين أخفق السياسيون في الارتقاء بأنفسهم عن التوحش الذي يظن البعض أن الحضارة الإنسانية قد محت آثاره. يُقال دائما في الدفاع عن تلون السياسيين إن السياسة لا أخلاق لها. وهو قول لا يكفر بالسياسة حسب، بل وأيضا بالإنسانية التي اخترعت السياسة واحدة من سبل تصريف شؤونها. السياسة من غير أخلاق هي نوع من الهمجية. هي كرة قدم من غير حكم ولا جمهور. يمكن للملعب الأخضر أن يتحول إلى حلبة مصارعة من غير قوانين.

يُطرد اللاعب إذا ارتكب خطأ مقصودا ويظل فريقه يلعب ناقص العدد. لا أعرف فيما إذا كان حارس المرمى يُطرد أيضا لذلك السبب؟ السياسيون في الدول الديمقراطية بغض النظر عن مناصبهم يقدمون استقالتهم قبل أن يُطردوا إذا ما خرجوا على القوانين. البعض منهم يعتذر قبل إنكشاف أمره. وهو ما يكسبه تعاطفا شعبيا هو أشبه بالشفقة. شيء أشبه بالأفلام الهندية، لكنه يحدث في الواقع وهو ما يعلمنا أن الديمقراطية تربية وليست درسا يهبط مع المطر من غيوم مستوردة.

في سن معينة يعتزل لاعب كرة القدم. يودع الملعب بكرامة وهو في عزه من أجل أن يترك صورته كما لو أنها أيقونة. ذلك ما فعله البرازيلي بيليه ومن بعده الارجنتيني ماردونا. ومن يتذكر المستشارة الألمانية انجيلا ميركل لابد أن يقر بحقيقة أن سياسيي العالم يفعلون الشيء نفسه. لقد ذهبت ميركل إلى شقتها وهي في عز وهجها. لم تلجأ إلى إجراء استفتاء شعبي يهدف إلى تغيير فقرات في الدستور من أجل تمديد زمن المستشارية. احترمت نفسها قبل أن تحترم الدستور وإرادة الشعب. ذلك ما يفعله لاعبو كرة القدم دائما. لايزال ماردونا في القمة بعد وفاته وسيبقى كذلك دائما.  

على العكس من ذلك يظل سياسيو الوطن العربي ممسكين بالحكم إلى الموت الذي يأتي بطرق مختلفة. كان حافظ الأسد سعيدا لأن الموت الذي كان ينتظره أتاه عن طريق المرض. وقد لا يصدق أحد أن صدام حسين كان هو الآخر سعيدا بميتته التي كان يفكر فيها حالما بنهاية بطولية على الطريقة الإغريقية. ففي لحظة إعدامه لم يكن محطما بعد أن تأكد أن خصومه غير قادرين على إعادة بناء الحطام الذي تركه. كان التشفي هو التعبير الأفضل عن رفضه الاعتراف بالخسارة.

كان هناك في بوابة ملعب الكشافة ببغداد تمثال للاعب اسمه قاسم محمود الذي لُقب بقاسم زوية. بدأ زوية اللعب مهاجما عام 1958 واعتزل عام 1974. كان زوية على قيد الحياة يوم أقيم له ذلك التمثال (توفي عام 2014). مأثرة ذلك اللاعب أنه سجل هدفا عام 1966 على نادي بنفيكا البرتغالي الذي كان يقود هجومه اللاعب العالمي "أوزبيو".

ربما كان ذلك التمثال المتواضع والصغير عقدة بالنسبة لصدام حسين الذي ملأ ساحات بغداد بتماثيله وهو لم يسجل هدفا عالميا واحدا. بل العكس هو ما حدث. ففي زمنه سجل العالم أهدافا قاتلة ضد العراق الذي كان أضعف من أن يقوم بهجمة مرتدة.

سيغادر العرب المونديال وكان لهم شرف المشاركة.