
'مهندس البهجة' يتناول بالتفكيك ظاهرة فؤاد المهندس
يحتل الفنان الكوميدي فؤاد المهندس مكانة متفردة في الوجدان المصري والعربي، يعده البعض خليفة رواد الكوميديا خاصة نجيب الريحاني وإسماعيل ياسين وعبد الفتاح القصري وحسن فايق، قدم للسينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون أعمالا لاتزال تلقى إقبالا كبيرا على مشاهدتها وسماعها، وهي الأعمال التي تماست في جلها مع القضايا السياسية والأوضاع الاجتماعية التي مرت بها مصر بعد حركة يوليو/حزيران 1952، لقب بسفير الكوميديا الراقية، وشكل مع الفنانة شويكار ثنائيا يعد من أشهر الثنائيات الكوميدية في تاريخ السينما والمسرح العربيين.
وهذا الكتاب "مهندس البهجة" للناقد د.وليد الخشاب يشكل دراسة تحليليلة ونقدية فريدة من نوعها لرؤية فن فؤاد المهندس وتفاعلها مع التاريخ والواقع في الفترة الناصرية وامتداداتها، حيث يركز على تفاعل أعمال المهندس مع التاريخ والمجتمع عبر ثلاثة قضايا: أولا الاقتباس في أفلامه والمفارقة بين محاولته صناعة كوميديا مصرية وطنية بالاستعانة بمسرحيات وأفلام إنجليزية في الغالب؛ ثانيا غلبة تيمة الازدواج والقرين في الأفلام، حيث يظهر يظهر المهندس في دوري الطيب والشرير، أو المصري الأصيل والأجنبي المجرم؛ وأخيرا فتح الكوميديا لعقل المجتمع الباطن أن يبوح بما لا يجرؤ على قوله بشكل واع حول تسلط النظام وسيادة العنف الرمزي وإحكام القبضة الأمنية، فيما يخص خطاب الناصرية عن الحرية.
ينطلق الخشاب في كتابه الصادر أخيرا عن دار المرايا من رصد تحليلي لمحطات هامة في مسار المهندس الفني مشيرا إلى مجمل الوسائط التي تميز فيها من إذاعة ومسرح وسينما وتليفزيون، مبينا ارتباط المهندس العضوي بتاريخ مصر والعالم العربي الحديث وتواتر التيمات الكبرى نفسها في مجمل إنتاجه عبر الوسائط. ثم يدرس عن قرب تيمة القرين، والتؤأم والازدواج في أفلام المهندس لافتا إلى أنها تجسد فكرة الفصام والازدواجية التي كانت تعيشها مصر الناصرية بين حكم يستمد شرعيته من ضمانه للحرية "من المستعمر" ونظام يعتمد في استقراره على مصادرة حرية "للمعارضين". وينتقل بعد ذلك لتفصيل بنية الاقتباس في أفلام ومسرحيات المهندس ـ "أغلبية الأفلام مقتبسة عن أصول إنكليزية وأميركية" ـ وتقصي التناقض المعرفي الحاكم للاقتباس في أعماله. مؤكدا أن المهندس تعامل مع الانتاج الثقافي الغربي بمنطق التفاعل الخلاق في إطار أشهر نموذج لنقل الحداثة إلى العربية: منطق الاقتباس والترجمة.
يقول الخشاب أن مسار فؤاد المهندس يثير اهتمامه كباحث "لأننا كثيرا لا نأخذ الكوميديا مأخذ الجد، بينما دراسة إنتاج المهندس على نحو جاد تكشف لنا الكثير من تطورات المجتمع العربي الحديث فيما الحرب العالمية الثانية وميلاد الدولة الوطنية. فؤاد المهندسكشخصية سينمائية ومسرحية تجسيد للفئات الاجتماعية التي تنامى صعودها للطبقة الوسطى، أو لشرائح أعلى وأعلى في إطار تلك الطبقة، أو التي تنامت أبناؤها بفضل سياسات التحديث المركزية التي انتهجتها الدولة في مصر. فهو الموظف "عادة" والكاتب "في مسرحية حواء الساعة 12" ومؤلف الأغاني في فيلم "اعترافات زوج"، والمحامي في فيلم ومسرحية "أنا وهو وهي"، والفنان التشكيلي في فيلم "نحن الرجال طيبون" كل هذه الفئات والمهن صعدت بقوة في إطار سياسات التوسع في التوظيف أو توسيع المعاملات القانونية والتجارية في المجتمعأو دعم الدولة المركزية لكافة أشكال الإنتاج الثقافي، وهذه سمة سياسات دول التحرر الوطني في العالم العربي كله، وخصوصا في مصر أثناء الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. ولعل في هذا ملمحا من ملامح تعبير فؤاد المهندس عن التغيرات الاجتماعية التي تولدت عن الاستقلال ورحيل الاستعمار.
ويشير إلى أن كتابه انطلق من فرضية أن الكوميديا مسألة جادة، ويضيف "نكسب الكثير في فهمنا للثقافة وتفاعلها مع المجتمع والتاريخ السياسي إن أخذنا الكوميديا مأخذ الجد، خاصة وأن الإنتاج الثقافي للكوميديا يتمتع بحرية نسبية، تسمح بتناول موضوعات ومقاربتها من زوايا وإنتاج خطابات لا تسمح بها الرقابة الرسمية أو الذاتية في حالة الانتاج الثقافي الجاد غير الكوميدي. وإنتاج المهندس على وجه التحديد، مهما نظر البعض له ـ جزئيا أو كليا ـ باعتباره هزلا وهذرا، يحمل قدرا عظيما من الجدية في صنعته وفنية كتابته وإخراجه وتنفيذه. ثم إن التوازيات والعلاقات بين أعمال المهندس ـ لاسيما السينمائية منها ـ وبين الظرف الاجتماعي والسياسي أثناء العقدين الأولين من حياة الجمهورية في مصر هي لا شك أمور غاية في الجدية.

ويؤكد الخشاب أن المهندس لمع نجمه وترسخت أقدامه كنجم كوميدي صاعد من خلال مشاركته في برنامج "ساعة لقلبك" الذي بدأت الإذاعة المصرية في بثه بعد شهور من حركة يوليو/حزيران 1952، وبشكل عام فإن كانت هناك شخصيات محورية تشغل مكان الرمز ـ بالتعبير الأميركي ـ وتساعدنا على وضع وجهها على ظاهرة ما، فجمال عبد الناصر هو رمز حركات التحرر الوطني في العالم العربي ومصرتحديدا، وتزامن مع صعود نجمه كزعيم صعود نجم فؤاد المهندس كرمز الكوميديا المصرية المستقلة بعد التحرر الوطني، وكالوجه الأمثل الذي تتخيله معبرا عن ذلك الإنتاج الثقافي عندما نتصور فكرة الكوميديا الخاصة بنا كمصريين أو كعرب. سبب آخر يجعل المهندس علامة فارقة إلى اليوم هو استمرار نجوميته حية بعد أفول نجمه كبطل أول في المسرح والسينما والإذاعة، حتى بين أجيال ولدت بعد توقفه عن العمل، وبين أبناء الدول العربية خارج مصر.
ويتابع "دعيت لإلقاء محاضرة بالجامعة الأميركية بالقاهرة، واخترت أن تكون عن فكرة اللاوعي في السينما الكوميدية عند فؤاد المهندس، كان بالقاعة 25 شابا وشابة تتراوح أعمارهم بين 18 و21 عاما، عندما سألتهم من منكم يعرف فؤاد المهندس ويشاهد أفلامه؟ أجابوا جميعا بالإيجاب. هؤلاء شباب لم يعاصروا مجد المهندس وربما تذكره البعض من خلال فوازير "عمو فؤاد" التي كانت موجهة لأطفال جيلهم أو لجيل يسبقهم، لكنهم كانوا مشاهدين نشطين ومستمتعين لأفلام المهندس ومسرحياته، لاسيما من فترة الستينيات، أي من فترة طفولتي وطفولة آبائهم وأمهاتهم. في المقابل سألت المجموعة نفسها: من منكم يعرف عبدالمنعم مدبولي؟ فإذا بثلاثة فقط يرفعون أيديهم. وأمين الهنيدي؟ فإذا بفتاة واحدة ترفع يدها وتحكي أنها كانت تشاهد أفلام أمين الهنيدي مع أبيها لأنه كان يحبه. أزعم أن تلك العينة تؤكد ما نعرفه بالتجربة والحس اليومي: أن فؤاد المهندس مازال إلى يومنا هذا صاحب أكبر جماهيرية بين أبناء جيله المعروف باسم جيل الستينيات في المسرح الكوميدي والفن الكوميدي بشكل عام. نحن الآن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ماذا بقيت من نجومية عبد المنعم مدبولي وأمين الهنيدي ومحمد عوض نجوم الكوميديا في الستينيات؟ بينما نجومية المهندس في ذاكرة العرب البصرية مازالت حية متألقة.
ويلفت الخشاب إلى أنه في عالم فؤاد المهندس وبالذات أفلام الستينيات ومطلع السبعينيات، تتعد لحظات التنبؤ اللاواعي بالمستقبل، مثلا، فيلم "أنت اللي قتلت بابايا" والذي يذكر موقع سينما كوم أنه عرض لأول مرة في 16 نوفمبر 1970، ربما كان "يحلم" أو يتنبأ بوفاة أبي الأمة الزعيم جمال عبد الناصر. لو صح فعلا تاريخ العرض المزكور، فإن الفيلم يكون قد عرض بعد وفاة عبد الناصر بحوالي ستة أسابيع، ولو أخذنا في الاعتبار أن الفيلم وقتها عادة ما كان يتم تصويره في شهر على الأقل، فالغالب أن العمل في الفيلم كان قد بدأ قبل وفاة عبد الناصر، وفي لحظة لم يكن أحد في البلاد يتوقع هذا الخبر. بهذا المعنى ربما يجوز أن نقول عن فيلم "أنت اللي قتلت بابايا" إنه كان يعبر عن لاوعي البعض، أو يتنبأ بما هو في لاوعي البعض توقع وفاة الزعيم الأب.
ويضيف "ربما وجدنا في فيلم المهندس "فيفا زلاطا" تنبؤا بمقتل الرئيس السدات. ليس المقصود أن هناك توازيا كاملا بين شخصية السادات أو شخصية عبد الناصر وشخصية زلاطا الكبير في الفيلم. المقصود هو أن هناك توازيا بين كون ناصر والسادات من زعماء حركات التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية، وأن زلاطا أيضا زعيم كوميدي لحركة تحرر وطني كوميدية من الفترة نفسها. ثم هناك تواز آخر: فالسادات زعيم دولة نحرر وطني قد تعرض للاغتيال وهو وسط جنوده، وكذلك زلاطا تم اغتياله وسط جنوده، بل إن مشهد اغتيال زلاطا بعد مشاهد الفرح بانتصاره على العصابة الشريرة المصاحبة بالموسيقي والرقص، لا يختلف في جوهره عن مبدأ اغتيال زعيم وسط عرض تضبط إيقاعه الموسيقى والحركات الرشيقة، وهو المشهد الذي حضره الملايين على الهواء مباشرة يوم اغتيال السادات. بهذا المعنى يمكن لأن نفترض أن "فيفا زلاطا" قد تنبأ باغتيال السادات، أو أن هذا الاغتيال قد عبر عن نفسه في لاوعي الفيلم، قبل أن يقع في الواقع بعد عرض الفيلم بخمس سنوات فقط.
ويرى الخشاب أنه في فيلم "سفاح النساء" الذي أنتج في نفس عام رحيل عبدالناصر، نصادف التشابه بين بعض البنيات في الفيلم وفي المجتمع: فالسفاح، الذي يفترض أن الكل يهابه ويخشاه، يتضح في النهاية أنه فسل ولا يهدأ غضبه إلا إذا سمع أغنية "ماما زمانها جاية". ومساعده الذي ينقلب عليه لا يقل عبطا عنه. حتى السفاح ـ أو الديكتاتور ـ يعجز عن أن يقنع المشاهد بأنه مجرم مرعب. حتى مساعد السفاح أو "المشير" على السفاح وذراعه اليمنى يفشل عندما يشرع في الانقلاب على رئيسه فشلا ذريعا ويكشف عن بلاهته وخيبته. مساعد السفاح ـ وهو أحدب طبعا وفقا للكليشيه المعتاد ـ ينقلب على السفاح زعيمه لأنه يريد أن يحتفظ بشويكار لنفسه، ثم يعود ليتعامل مع السفاح زعيمه وكأنه لم يقترف ما يبدل شكل العلاقة التي تربط بينهما. لكن في ثوان يتبدل السفاح الذي كان يحب مساعده ويعطف عليه كأنه أخ وأب معا، ويلقي بهذا المساعد في قزان الشمع المغلي، بكل بساطة.
ويواصل "يشبه هذا الموقف ما حدث للمشير عامر عندما راودته فكرة التمرد على عبد الناصر، فأسل إلى بلدته في طلب بعض الرجال المسلحين بالعصي لحمايته الشخصية، أو ـ وفقا لما قررته محكمة الثورة ـ للدخول في صراع على الحكم، بل ومحاولة الانقلاب على ناصر، فيما عرف باسم قضية محاولة الاستيلاء على مقر فيادة القوات المسلحة. فعامر كان تارة يحتد على ناصر ورجاله، وتارة يذهب برجليه إلى منزل ناصر رغم تحذير أعوانه من الذهاب لمنزل الزعيم. وناصر نفسه فيما يروي عن هذه المواجهات، تارة يعنف عامر وتارة يحدثه بأسلوب الأصدقاء. في هذا الموقف التاريخي يشبه الصراع بين أقوى رجلين في البلاد، الصراع بين السفاح ومساعده في فيلم "سفاح النساء" وفي التاريخ والواقع تم التعامل مع المشير صديق الزعيم بما يشبه إلقاءه في حلة شمع مغلي، كما حدث في الفيلم. وانتهى الأمر بعامر منتحرا وفقا للتقارير الرسمية. في الحالتين لا السفاح ولا الزعيم كانا يثيران الخوف بل كانا يثيران الشفقة على أقصى تقدير".
ويؤكد الخشاب أن أعمال المهندس في الستينيات والسبعينيات تمثل تجليا لأفكار كانت مكبوتة ومبعدة من التفصلفي الفضاء العام في الفترة الناصرية وامتداداتها. حيث تبوع أفلام المهندس بهذا اللاوعي الناصري المكبوت، وتعترف بتوغل الدولة في عهد ناصر، وبوجود ما يشبه الجريمة في حق المجتمع بسبب العنف الرمزي الذي مارسته بعض أجنحة النظام آنذاك، كل هذا يبدو مثيرا، لأننا لا نأخذ الكوميديا مأخذ الجد، بينما تؤكد أفلام المهندس أن الكوميديا ـ بفضل الاستخفاف بها ـ كثيرا ما تحمل خطابات طليعية وناقدة وجريئة ثقافيا ومجتمعيا.