القرغولي يوثق للألعاب الشعبية لفتيان العراق
تكتمل دراستنا التاريخية لأي أُمة من خلال الاطلاع على تراثها الشعبي البسيط، المتمثل في قصصها وأمثالها، بل ووسائل المرح والتسلية السائدة لأطفالها؛ فالتراث الشعبي يعبر عن رؤية المجتمع تجاه القضايا والأَحداث الإنسانية الكبِيرة والصغيرة، بداية من الميلاد، مرورا بالتربية والزواج، وأَخيرا الممات. وتأتي الأَلعاب الشعبية القديمة للأَطفال باعتبارها أحد الأشكال التراثية التي تبين ما كان عليه التواصل الاجتماعي بين الأطفال وما لقنوه من التقاليد المتوارثة والأَخلاق السائدة في المجتمع، فنجدها تحتفي ببعض الصفات التي ميزت المجتمعات العربية؛ كالفروسية والإِقدام والتعاون.
وقد جمع الشاعر والمسرحي عبدالستار القرغولي (1906 ـ 1961) في كتابه "الألعاب الشعبية لفتيان العراق" الذي أعادت مؤسسة هنداوي بالقاهرة إصداره أخيرا مجموعة متنوعة من هذه الألعاب القديمة التي مارسها أَطفال العراق؛ ليعيد إحياءها من جديد؛ خاصة أنها تتضمن أَنشطة تربي في النفس سرعة الحكم والمبادرة إلى العمل، كما تقوي الملاحظة وتعمق روح الفريق.
يقول القرغولي في مقدمته للكتاب "لأحداث العراق وفتيانه نصيب وافر من الألعاب العربية القديمة. توارثوها عن الأجداد، وجُبلوا عليها كل هذا الزمن الطويل، فكانوا ـ وأيم الحق ـ سفرًا حافلًا يضم بين دفتَيه تاريخ العرب الأقدمين، وإن من هذه الألعاب ما تفرَّدوا به دون بقية الأقطار العربية، فكانوا يتسمون به وحدهم، والبعض الآخر شائع في جميعها يمارسه الناشئ السوري والحجازي واليماني، والناشئ العربي في شمالي إفريقية كما يمارسه العراقي؛ لأن العرب عندما أهلوا الأقطار قديمًا، وتوغلوا فيها بعد الفتح حملوا إليها ألعابهم في جملة ما حملوه من نشاط وصفاء ذهن وسلامة خُلُق، إنما تباينت أسماء تلك الألعاب، ولَحِقَها التحريف ونتجت منها هذه الألعاب الشعبية، فهي وإن كانت مختلفة في العرض فهي متحدة في الجوهر".
ويضيف إن هذه الألعاب الشعبية بالرغم من أنها كانت تعالج منذ عهد قريب، فإن منها ما اندثر، ومنها ما يكاد يندثر فيتولاه الضياع. ولما كانت هذه الألعاب تمثل ناحية كبرى من تقاليدنا الموروثة وأخلاقنا القومية القويمة، التي يعز علينا أن نزايلها فقد امتلأتُ أسفًا لإهمالها، وعقدت النية على إبرازها وإحياء معالمها، فبادرت إلى جمع ما تفرق منها، فصرت أُكثر من مراقبة الفتيان حين ألعابهم، وأستمع إلى الشيوخ يقصون عليَّ ما علق بأذهانهم منها، ثم رجعت إلى نفسي فتذكرت كل أيام صباي، وبالأخير عمدت إلى بطون أسفار اللغة والأدب فنقَّبت فيها، وبذلت الجهد لإرجاع ما توصلت إليه من الألعاب العراقية الشعبية إلى أصلها القديم، ووضعت لأغلبها أسماءها العربية الفصحى، فدونتها بأسلوب جذاب ولغة سلسلة. وما كنت حريصًا على إحيائها إلا لبثِّ الدعاية الواسعة النطاق للرياضة البدنية في داخل المدرسة وخارجها، ولجعل الطلاب وغيرهم من الناشئة هواة للألعاب المفيدة وغُوَاةً للرياضة على اختلاف أنواعها؛ وليحتفظ الجميع بالتراث الذي وصل إليهم من قديم الزمن.
ويشير إلى أنه انتقى الألعاب التي تربي في النفس سرعة الحكم، والمبادرة إلى العمل، والتي تقوي روح الملاحظة والإرادة، والتي تعلِّم الفتى الإقدام في مواطن الخطر، ومع هذا فإنني لم أطرح جانبًا تلك التي وضعت لمحض التسلية، وأسقطت الألعاب التي لا يؤمن فيها على الطفل العثور، والتي كان ضررها أكثر من نفعها، كألعاب القمار وغيرها، كما أنني أنبه القارئ إلى "لعبة المكاسرة" فبالرغم من أنها تمثل الحياة بما فيها من مغالبة ومناضلة، إلا أنها لا تخلو من أخطار فهي تبعث بين الفريقين المتنازعين روح النفرة والشحناء، وتؤدي إلى الأذى وتعطيل الأعضاء، فكثيرًا ما يُخدش وجه أو يُشج رأس أو تُقلع عين بحجر يقذفه المتكاسرون بمقاليعهم؛ ولكي تكون المكاسرة مشبعة بروح المسرَّة لجميع اللاعبين، وجب أن تحول إلى شكل منظم آخر، وذلك بأن يتخذ اللاعبون هدفًا بعيدًا يصوبون إليه رمياتهم، أو يتبادرون في تبعيد قذيفاتهم كما يصنع اللاعبون في لعبة قذف القرص أو رمي الرمح، وهكذا يمكن القول في تحوير سواها من الألعاب، وأما المفرقعات فيحظر استعمالها إلا في الأعياد والأفراح، ولا تعانى إلا بملاحظة شديدة، ونوصي أن يتولى القيام بتنظيم إيقادها لجان خاصة تأخذ المسؤولية على عاتقها لما في معاناتها من خطورة"
قسم القرغولي كتابه إلى خمسة فصول، الأول: في الألعاب الرياضية، والثاني: في ألعاب الكرة، والثالث: في ألعاب شتى، والرابع: في الأعمال اليدوية، والخامس: في الألعاب العربية القديمة. كما زينه برسومات توضيحية للألعاب.
من الألعاب الرياضة
"الخِتِيبَة" الغُمَّيْضَة، الغميضاء"
ـ كان يلعبها صبيان الأعراب قديمًا، وتسمى عندهم "العَياف" و"الطريدة" و"الغميضاء" أيضًا.واعتادت فتيات العراق أن يلعبنها، ولا بأس إذا زاولها الفتيان.
ـ اللاعبات: الأم: وهو اللقب الذي يطلقنه على الرئيسة، وينضم إليها من التابعات من تخسر القرعة وتدور عليها دائرة اللعب، فالتابعات مهما كان عددهن.
ـ كيفية اللعب: تقف "الأم" وتغمض بيديها عين التي وقعت عليها القرعة، فلا تعود بعد ذلك ترى شيئًا، فتنتهز اللاعبات هذه الفرصة ويختفين في كمائن مختلفة.وبعد أن تطمئن الأم من اختبائهن تصيح بأعلى صوتها: "حلَّتْ" ثم تطلق سراح مغمضة العينين، فتهرول هذه باحثة عن اللاعبات اللواتي أحسنَّ التستر، وأبطلن كل حركة تنبئ عن وجودهن.فإذا ألقت القبض على إحداهن تعود بها إلى الأم، وعلى المقبوض عليها أن لا تعصي لها أمرًا، وعليه تدور دائرة اللعب عليها، فهي التي تغمض عيناها، وهي التي تتحرى الكمين هنا وهناك. وإن صاحت الأم قائلة: "حلت" من قبل أن تمسك الباحثةُ أحدًا حينذاك تتقاطر إليها اللاعبات والفرح يملأ صدورهن، مغتبطات بمقدرتهن الفائقة التي أَبْرَزْنَهَا في الختل.
إبرِيسَمْ إبرِيسَمْ أيشْ
ـ فوائد اللعبة: تصقل الفكر، وتجلو الصدأ عنه، وتقوِّي الذاكرة بعين الوقت، وتذيق الفائز حلاوة النصر التي ما وراءها حلاوة. والذكي من الأتباع من حَزَرَ اللون المطلوب معرفته مستفيدًا من فراسته وذكائه، وقوة ملاحظة نظره إلى أفواه المتشاورين الذين لا يبخلون على الأتباع بأن ينظروا إلى حركات شفاههم، وانفتاحها وانطباقها إنما يحذرون عليهم أن يسترقوا السمع.
ـ اللاعبون: أستاذ واحد ومساعد وأتباع مهما كان عددهم.
ـ اللعب: يجلس الأستاذ جلسة الآمر الناهي وبيده حزام من الجلد، وإلى جانبه يجلس مساعده، أما الأتباع فيشكِّلون نصف دائرة على بعد خطوتين أو ثلاث خطوات منهما، بحيث لا يسمعون همس الأستاذ ومساعده غير أنهم قد استعدوا كل الاستعداد لمراقبة الهمس.
ثم يتفق الأستاذ مع مساعده على لون من الألوان سرًّا ويقر رأيهما عليه.ويمد الأستاذ من بعد ذلك يده التي بها الحزام، ويبدأ الجالسين واحدًا فواحدًا وهو يقول: "إبرِيسَمْ إبرِيسَمْ أيشْ". فمن حَزَرَ اللونَ السريَّ المتفق عليه أعطى الحزام له، فيوالي الضرب بالأتباع الجالسين عن يمينه وشماله، فينفرون من وجهه بالطبع، وهو يَجِدُّ في إثرهم حتى ينادي الأستاذ قائلًا: "حلَّت"، ويجب أن يكف عن الضرب على الفور، أما إذا لم ينتبه إلى «نداء» الأستاذ وضرب ولو ضربة واحدة أحدَ الأتباع، فللأتباع الحق في أن يتجمهروا عليه ويُشبعوه ضربًا على ظهره بأَكُفِّهِمْ المبسوطة إلى أن يَلْتَجِئَ إلى الأستاذ ويحتميَ بحِمَاهُ، وليس سوى الأستاذ من يستطيع أن ينقذه من انتقام الأتباع.
ملاحظة:إن هذه اللعبة تتطلب من الأستاذ أن يتحلى بمزايا شريفة، منها الأمانة وعدم المحاباة أو التحزُّب إلى أحد اللاعبين، وعليه أن يقول الصدق وينظر الأتباع جميعهم بنظر سواء، فإنه إذا انكشف أَمْرُ خيانته وأثبتها الأتباعُ، وشهد المساعد عليه بذلك وهو كالرقيب عليه، فللأتباع الحق في أن يعزلوه عن رتبته "الأستاذية"، ويُرَئِّسُوا سواه من بينهم، بينما هو يندس في حلقتهم كواحد منهم.
من أعمالهم اليدوية
حياكة الكرة
وذلك بأن يكوِّروا كمية من القطن، وأن يخيطوا عليها قطعة من القماش ويلفوا الخيوط من حولها على هيئة خطوط الطول، بحيث تقسمها إلى أربعة أقسام طولًا، ثم يلفون خيوطًا أخرى حول وسط الكرة على هيئة خط الاستواء يكون بمثابة حزام الكرة، فتحصل إذ ذاك ثمانية مثلثات متساوية الأضلاع على سطح الكرة أربعةٌ منها في أعلاها وأربعةٌ في أسفلها.وبعد أن يبلغوا هذه النتيجة يَشْرَعون بالحياكة في هذه المثلثات بالخيوط الملونة المسماة "توفي" فيجلعونها كرة، آية في الحسن والإبداع، خفيفة، مرنة، قَفَّازة، ناعمة الملمس، بهيَّة المنظر.
تزويق البرتقال
ومن أعمالهم اليدوية أنهم يزوِّقون البرتقالة بأعواد القرنفل الصغيرة على هيئات منتظمة، وأشكال هندسية بالفطرة، فتغدو بهيجةَ المنظر، علاوة على أنها تنفح رائحة ذكية هي مزيج من عطور قشر البرتقال والقرنفل.وقد لا يغرزون القرنفل فيها وحسب، بل يزوقونها بالخرز الصغيرة يثبِّتونها بواسطة الدبابيس.
حياكة الأقفاص
يأتون بعِيدانٍ رفيعة مستقيمة، لا تزيد عدتها على الاثنتي عشر، على أن تكون متساويةً في طولها الذي يتراوح بين الشبر والشبر والأربعة الأصابع، ثم يربطون كل عودَين منها معًا على هيئة الصليب بشدهما من الوسط، ثم يلفون على كل صليب من تلك الصلبان خيوطًا متوازية تتساوى بين العود الواحد والذي يليه، فتكون هذه المربعات ضيقة في الوسط، ولا تزال تنفرج حتى نهاية الأطراف، فتحصل لديهم إذ ذاك ستة جدر مربعة بحجمٍ واحدٍ، يتكوَّن من ملاقاتها مع بعضها مكعبٌ لطيف.ويعمدون إلى أطراف العيدان فيشدون كل ثلاثة منها معًا، إلَّا جهة واحدة يُخلون سبيلها؛ لتكون بمثابة الباب للقفص الجميل، ويعلقونه بخيط من الأعلى.والقفص الآن جاهز؛ ليحفظ لهم عصافيرهم التي يصطادونها من الأعشاش.
ألعاب مختلفة
القايات "الدَّاشُ"
هي لعبة قديمة تسمى الداش،٤ ولعلها من لفظة «طاش» التركية التي بمعنى حجر.
اللاعبون: اثنان.
اللعب: عبارة عن خمس حصيات، كل حصاة بمقدار الجَوْزة، يجمع اللاعب الخمس في كفه ويقلبها ويتلقفها بظهرها، ثم يعيد قلبها فيتلقفها بباطنها، ثم يطرح أربعًا منها على الأرض ثم يلقي الخامسة في الهواء، ويأخذ واحدة من الأرض يتلقفها بها، ثم يطرحها في جانبه.
ويعاود اللعب هكذا، حتى يأتي على الأربع، ثم يطرحها ويتلقف الحصاة الملقاة بحصاتين حصاتين، ثم يطرحها ويتلقف الملقاة بواحدة فقط، ثم بالثلاث الباقية في مرة واحدة.٥ فإن فعل جميع ذلك ولم تقع منه حصاة على الأرض غلب رفيقه، وإلا أخذ الآخرُ الحصياتِ وتَوَلَّى اللعب. ومن يَتِمُّ عليه الغلب يُصْفَعُ على ظهر كفه عدة صفعات أو يُضرب بالمخراق.
الطَّمَّة "البَحْثَةُ"
هي لعبة عربية قديمة، كانت تسمى "البحثة والبُحَّيثى"، ويسمونها "البُقَّيرَى، والفِيال، والمفايلة" أيضًا، ولا تزال فتيات العراق تُزاولنها.
اللعب: تخبِّئ إحدى اللاعبات شيئًا تحت التراب، ويكون الخبء غالبًا خرزة أو «كسيرة معضد»، ثم تكوِّم التراب وتصدعه صدعين، ثم تضرب اللاعبة الثانية بيدها على أحدهما، فإن عثرت على الخبء فيه فازت، وإن لم تعثر عليه تصفع على ظهر كفها عدة صفعات جزاء خسرانها. أو إذا عثرت على الخبء تكسبه، وإلا فتخسر مثله تؤديه للَّاعبة الأولى.
الفُرَّارة "الخذروف"
لعبة صبيانية تسميها العرب الخذروف "والمقّثة"، وهي قرص مستدير مثقوب ثقبين في وسطه، فيمر فيها خيط على شكل دائرة مقفلة، فيُدخل الصبي أصابع يديه في طرفَي الخيط، ثم يجذبها تارة ويرخيها تارة، وهو بذلك يدور حتى لا تضبطه العين من شدة دروره.٧
الوغواغة "الخَرَّارة"
هي من لعب الصبيان، وتسميها العرب "الخَرَّارة"، يوثقون خشبة عرضها يقارب الثلاثة سانتيمات وطولها العشرة، بخيط، فيحركون الخيط فتدور الخشبة فتصوِّت.