'المثقفون في البلاد النامية' تحت مجهر حمود العودي

المفكر اليمني د.حمود العودي يؤكد في كتابه ان الحداثة لم تكن في التوجه الثوري للمثقفين الوطنيين.

أكد المفكر اليمني د.حمود العودي أن فئة المثقفين في المجتمعات النامية كانت ولا تزال تشكل واحدة من أهم وأبرز المسائل الجوهرية وأتعسها حظًا في الفهم العلمي الصحيح من جهة، وأجدرها بالبحث والدراسة قبل غيرها من جهة أخرى، نظرًا لما لهذه الفئة الاجتماعية من الأهمية الثقافية والسياسية والاجتماعية المرتبطة جدليًا بمجمل المسار الوطني في هذه الشعوب ومجمل البناء والتركيب الاجتماعي والطبقي بصفة عامة، باعتبار أن هذه الفئة وبحكم طبيعتها تشكل القاسم المشترك بين مختلف الطبقات والفئات في أي مجتمع، ووسيلة التعبير المباشر وغير المباشر عن كل طموحاتها ومصالحها المتعارضة والمتناقضة باستمرار.

وقال في كتابه "المثقفون في البلاد النامية.. بحث في الفئات والعلاقات الطبقية" الصادر عن مؤسستي أروس للتنمية وأروقة للنشر، أن مسألة الحداثة لم تكن في التوجه الثوري للمثقفين الوطنيين - على قلتهم حتى الآن - في البلدان النامية والمتخلفة وتواضع خبراتهم ومراسهم النضالي في هذا الصدد على أساس هذا التوجه هو السبب الوحيد الذي يجعل منهم عرضة لأخطاء وتعثرات كثيرة، والتي منها الانفصال عن الواقع الاجتماعي والجهل الملحوظ بخصوصياته وشئونه الجزئية والكلية إلى حد كبير، الأمر الذي ما يزال ينتهي بهم من الناحية العملية على الأقل إلى سوء تقدير مخيف لحجم وإمكانيات هذا العامل وأولوياته الإستراتيجية الحاسمة في عملية النضال الوطني.فنوع الثقافة الإقطاعية القديمة الأصيلة والبرجوازية الرأسمالية الجديدة التي تجرعتها هذه المجتمعات منذ زمن طويل وعبر أجيال متلاحقة والمثقفون منهم بالذات من خلال البرامج التعليمية التقليدية ووسائل الدعاية والإعلام المختلفة والرجعية الدينية المشوهة قد أسهمت إلى حد كبير وما تزال في تكريس هذا الفهم الاغترابي والقطيعة بين المفاهيم النظرية والواقع العملي، ليس بالنسبة لهذه الفئة الجديدة من المثقفين الوطنيين فحسب بل بالنسبة للمجتمع بأسره كجزء من عملية تكريس الفوارق بين الطبقات ليس اقتصاديًا فحسب بل وطائفيًا ومناطقيًا ومذهبيًا وسلاليًا أيضًا من جهة، والتمكن من استمرار صياغة كل تلك الأفكار والمفاهيم الإقطاعية والبرجوازية الخاطئة والمضللة في ثقافة المجتمع من جهة ثانية، وهي التي تنسجم دائمًا ومصالح هذه الطبقات والدفاع عنها بمعزل تام عن كل حقائق الواقع والتاريخ وقوانينه، والتي تقف دائمًا على النقيض من كل ذلك تمامًا.

وأضاف العودي أن أساس المبدأ الجوهري والفكرة المبدئية التي تقوم عليها برامج التعليم والثقافة الإقطاعية والأرستقراطية في أي مجتمع متخلف؛ هو النظر إلى برامج التعليم باعتبارها أداة كسب لامتيازات جديدة وعملية ارتقاء اجتماعي وطبقي من أسفل إلى أعلى، وتحرر من الفعل والممارسة العملية للأعمال والمهن اليدوية والحرفية... إلخ، كما أن التعليم والثقافة الإقطاعية والأرستقراطية في البلدان النامية والمتخلفة كانت منذ زمن طويل وما تزال تعشعش فيها حتى اليوم هذه المفاهيم التي لا تشكل في جوهرها عملية اغتراب وارتحال محقق من عالم العقل والعلم والواقع إلى عالم الوهم والخرافة فحسب بل إنها بطبيعتها تميل إلى احتقار الفعل والواقع، وتعادي منطقه العلمي بلا حدود. فقد وجدت في كل المجتمعات الطبقية التي ظهرت في التاريخ - كما يقول علي باذيب - منذ العبودية وحتى الرأسمالية مرورًا بالإقطاع، ثقافتان لا ثقافة واحدة، ثقافة الطبقات المسيطرة وثقافة الطبقات المضطهدة (بفتح الهاء) ثقافة الطبقات المسيطرة لمصلحة النظام السائد: التعليم لمصلحة الطبقة الحاكمة، والأفكار تمجد النظام القائم، والفنون والأدب سخرة لخدمة القيم التي يزرعها النظام الحاكم وتنتشر الفلسفات والأفكار الرجعية المعادية للتطور والتقدم، وفي المقابل في ظل الصراع الطبقي تتكون ثقافة الطبقات المضطهدة بأفكارها الثورية وآدابها وفنونها الشعبية، والقيم الثورية والإنسانية الجديدة.

وتابع أنه بهذه الطريقة بالذات ومن خلال هذه القنوات الثقافية والأيديولوجية تتمكن الطبقات الإقطاعية والأرستقراطية القديمة من إفساد وإضعاف الوعي الطبقي والتاريخي في المجتمع بين المتعلمين وأشباه المتعلمين أو أنصاف المتعلمين بطريقة أسوأ مما هي عليه بين أوسع الجماهير من العمال والفلاحين ممن تسيطر عليهم الأمية الأبجدية ولا يجيدون القراءة والكتابة، لأن العامل أو الفلاح أو الحرفي الأمي، هو الأكثر ارتباطًا بواقعه الاقتصادي والطبقي ولا يلتزم إلا بحدود دنيا وهامشية جدًّا ببعض الأفكار الإقطاعية والميتافيزيقية الشائعة، وبطريقة ملؤها السذاجة والسطحية، والذي بالرغم من تخلف وعيه الطبقي وقدرته على تحديد مصالحه الطبقية بدقة، إلا أنه رغم كل ذلك يظل أحسن حالاً من المتعلمين وأنصاف المتعلمين بأيديولوجية النظم الأرستقراطية والإقطاعية، لأن ذلك العامل أو الفلاح لا يحتاج إلا مرة واحدة لمحو أميته الأبجدية والاجتماعية وذلك بتعليمهم القراءة والكتابة وبلورة وعيهم الطبقي والنتيجة مضمونة، بينما يحتاج مثل أولئك المتعلمين وأشباه المتعلمين إلى محو أميتهم مرتين، لأنهم يحتاجون أولاً: إلى التخلص مما لصق في أذهانهم من أفكار ومفاهيم خاطئة ومشوهة يلتزمون بها إلى درجة التقديس، ويتعصبون لها أحيانًا إلى حد الموت، ويمارسونها بصورة مباشرة وغير مباشرة وشعورية ولا شعورية حتى حينما يعتقدون بأنهم قد تخلصوا منها شكليًا، وهم يحتاجون ثانيًا: إلى استعادة وعيهم بواقعهم الطبقي المفقود، والنتيجة غير مضمونة.ومن خلال هذا المحور المزدوج للأمية بين صفوف المتعلمين والكتبة تنبثق فئة المثقفين الوطنيين والثوريين في مجتمع إقطاعي وشبه برجوازي متخلف. وهم الاستثناء الصعب الذي لا تحصى متاعبه ومعاناته في الوقت الحاضر داخل البلدان النامية والمتخلفة، بالرغم من أنهم باعتبارهم طليعة ثورية لطبقات ثورية أيضًا يشكلون المدخل الوحيد إلى تغيير كل الحاضر وصنع المستقبل، ولهذا السبب تزداد متاعب المثقفين الوطنيين ومعاناتهم في القدرة على فهم الواقع وخصوصياته المادية والتاريخية وسوء تقديرهم لدوره والرؤية الموضوعية إليه، الأمر الذي يتحتم عليهم مواجهة هذه القضية الهامة بجدية وصبر وإدراك دورهم فيها بوضوح وتواضع بلا غرور.

ولفت العودي إلى أن اقتدار المثقفين على استيعاب واقعهم الاجتماعي والتاريخي والقومي والثقافي على أسس علمية والكشف عن خصوصياته وإمكانياته الذاتية في عملية النضال والتحول ما يزال أمرًا بعيد المنال ومن اختصاص المستقبل القريب في أحسن الأحوال، بالرغم من أن هذا الأمر هو مسألة مصيرية لا بديل عنها ولا خيار في امتلاك ناصيتها بدلًا من تركها حكرًا على القوى التقليدية القديمة المعادية للتقدم.ذلك أن المثقفين الوطنيين في البلدان النامية والمتخلفة وهم يناضلون ويتحركون بجدية من أجل إثبات وتأكيد توجههم العلمي الجديد فإنهم يحاولون إثبات وتأكيد كل ذلك من خلال اختيار بعد أحادي النزعة، وهو التركيز على استيعاب المفاهيم النظرية العلمية العالمة والإلمام الجيد بتطبيقاتها العملية الناجحة هنا وهناك خارج حدود أوطانهم وحسب، فيما يشبه عملية التعلم وتوسيع المدارك الثقافية والشخصية البحتة أو الجماعية الصغيرة، واكتساب أدبيات ثقافية معينة في الفكر لا تختلف كثيرًا في تأثيرها وفاعليتها في المجتمع عن أي أدبيات لغوية أو فنية أو أخلاقية أخرى في المجتمع إلا من حيث المجال فحسب.

وهم - أي هؤلاء المثقفون الوطنيون في هذه المرحلة بالذات - لا يديرون ظهورهم تجاه الواقع والعدول عن تحمل أعباء ومشاق البحث فيه باعتباره البعد الحقيقي والحاسم لصدق توجههم الجديد فحسب بل وغالبًا ما يميلون إلى ازدرائه بالفعل وإصدار أحكام مسبقة وسطحية جدًّا ومثقلة بالجهالة والأنانية حينًا، وسوء الرؤية والمراهقة الفكرية أحيانًا كثيرة، كالقول مثلاً بأن الواقع المتخلف بكل أبعاده قضية سلبية ينبغي تجاوزها فورًا بعملية ثورية ناجزة، وأن اللجوء إلى مداراته حتى يتجاوز نفسه بنفسه، هو نوع من السلبية وتضييع الوقت في ما لا طائل منه، أو القول مثلاً بأن الحاضر والماضي برمته هو تركيب رجعي متخلف بالكامل وأن التعامل معه أو البحث عن عوامل إيجابية فيه هو نوع من التراجع والخضوع له، إن لم يكن سلوكًا رجعيًا في حد ذاته.. إلخ. متجاهلين أن المثقف الثوري - كما يقول لينين - يصبح مجرد دعي سخيف إذا لم يتمثل وجدانه جميع المعارف التي كدسها العلم البشري.. والتي لا يمكن للمرء بدون معرفتها أن يكون إنسانًا مثقفًا.

وقال "في اليمن وجد نموذج من نماذج الامتداد القومي لمصر والوطن العربي ككل، ووجدت عناصر يسارية وشيوعية منظمة ومحدودة في نطاق بعض المثقفين منذ وقت مبكر في الأربعينات، وهو زمن سباق بالنسبة للمنظمات القومية والليبرالية اللاحقة كحركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي وتنظيم الضباط الأحرار الذي فجر أحداث ثورة 26 سبتمبر عام 1962، والحركة الناصرية التي تبلورت أكثر بعد وفاة عبد الناصر، وغير ذلك من المنظمات السرية، حيث نجد أن كل هذه المنظمات القومية والليبرالية والبرجوازية الصغيرة كانت تقف وراء كل الأحداث والتطورات الهامة التي شهدتها اليمن شمالاً وجنوبًا منذ أواخر الخمسينات وحتى اليوم وتجر معها أوسع القطاعات الشعبية والنقابية والجماهيرية، كما أنها قد تعرضت لتغيرات وتحولات جوهرية إيجابية في تكوينها السياسي والأيديولوجي إلى حد كبير، انتقل بالكثير منها من الموقف البرجوازي الصغيرة إلى الموقف الوطني والتقدمي الصريح، في الوقت الذي لم يطرأ أي تغيير يذكر على العناصر التقدمية والشيوعية التقليدية لا كمًا ولا كيفًا، ولم تستطع أن تشارك في أي حدث من الأحداث التي شهدتها الساحة اليمنية حتى الآن بصورة مباشرة إلا في حدود ضيقة جدًّا وغير مباشرة. ومع ذلك فإن مجموع هذه العناصر في اليمن وغير اليمن لا يمكن أن ينتزع منها حقها في السبق التاريخي الأول في تبني الأفكار العلمية والتبشير بها، وإقامة نظام سياسى فعلي بناءً عليها في جنوب الوطن بعد الاستقلال من الاستعمار البريطاني 1967 وحتى عام 1990 بداية التراجع السريع إلى الخلف.

وأضاف العودي "من هنا تتأكد حقيقة النشأة المتأخرة للمثقفين التقدميين في اليمن والبلاد النامية بصفة عامة كطليعة جماهيرية مناضلة، وكإفراز وتطور جديد لمنظمات وحركات ليبرالية وقومية قديمة، بغض النظر عن كل النواقص التي ما تزال تلازم العناصر التقدمية من المثقفين الوطنيين في الوطن العربي والبلدان النامية بصفة عامة وما يزالون يعانون من قلة الخبرة وعمق التجربة في النضال الوطني والممارسة العملية على أسس علمية وتاريخية صحيحة، سواءً منهم من تبنى التوجه اليساري منذ البداية أو من تطور نحو هذا التوجه عبر الاتجاهات القومية والليبرالية والبرجوازية الصغيرة".

ورأى أنه في اليمن، نجد الآن - كما يقول عبدالفتاح إسماعيل - إن أكثر مثقفينا ولعًا بالثقافة والأدب يفهمون جيدًا ما يدور من جديد على الصعيد الثقافي في الوطن العربي والخارجي، ويفهمون أيضًا أدبيات الاشتراكية العلمية، لكنهم لا يعطون اهتمامًا ولا يوجهون جهودهم الثقافية لمعرفة ثقافتهم الوطنية.. فغالبيتهم ما يزالون يعانون من فقر في هذا الجانب، بينما نجد أن كبار المثقفين الإقطاعيين والرجعيين - وهم ضد كل تطور وتقدم ثقافي - هم حفظة للتراث الكلاسيكي اليمني في التاريخ والأدب.

وصدقت مقولة لينين مخاطبًا المثقفين بقوله: "إن سند مكين ونحن لم يخامرنا الشك يومًا في ميوعتكم ورخاوتكم، أما أننا بحاجة اليكم فهذا ما لاننكره، لأنكم كنتم العنصر المثقف الوحيد".

أما مسك الختام من أحلى الكلام وأصدقه عن الثقافة والمثقفين فهو كلام عقل وضمير مسيرة الثورة اليمينة والتحرر اليمني الشهيد عبدالفتاح إسماعيل وهو يقول: "إننا لا نستطيع أن نتصور بصدد المثقفين اليمنين الوطنيين أن تكون هناك ثقافة أممية بدون أن يكون لها أساس ثقافي وطني، فلكي يطل المثقف اليمني على رحاب الثقافة الأممية والإنسانية عليه أن ينطلق من ثقافته الوطنية أولًا، فالمثقف الوطني الجيد هو المثقف الأممى الجيد".